الخميس 2024/3/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
الطاهر بنجلون متذكراً أمه.. كيف نقاوم ترنّح الذاكرة وآفة النسيان
الطاهر بنجلون متذكراً أمه.. كيف نقاوم ترنّح الذاكرة وآفة النسيان
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب هبة الله الغلاييني
النـص :

صادف قراءتي لهذه الرواية، اشتداد وطأة المرض على والدتي، بعد إصابتها بكسر في الحوض ألزمها الفراش ثلاثة أشهر متتالية، أشهر مرّت بطيئة متثاقلة، تراخت فيه ذاكرتها وأصبحت تلوذ بأقاصي ماضيها تحفّ بها من كل جانب أطياف وخيالات من ذلك الزمان الغابر، المؤنس والبريء أتخيّل أمي ناظرة إلى وجهها الشاحب المنهك في مرآة مملوءة بالثقوب، أتصورها باحثة في أعماقها من آثار سعادة أملاً في لأم شروخ النفس وإنقاذ الكلمات من ورطة هذا القلق المؤلم. تجتاحني كآبة عارمة وأنا أكتب هذه الكلمات وأقارن ما كتبه الروائي المغربي (الطاهر بنجلون) عن حالة والدته وعن غيابها الأبدي، ويعتريني خوف وقلق من تلك النهاية المأساوية التي وضعها الكاتب للأيام الأخيرة لأمه الحنون. الآن أسترجع هذه الرواية وأرى فيها من المشاعر والأحاسيس ما يعبّر عنه فؤادي ويختلج فيه صدري، الألم، فتك المرض بالجسد، الاحتضار، بطء الوقت، ثقل الأشياء، هذا أكثر ما تخشاه أمي، تقول: كل شيء من عند الله، هذه إرادته، ما أنا إلا عبد ضعيف لا حول له ولا قوة، أصلّي وأقرأ آيات الكرسي وأنتظر بصبر، لكنني لا أطيق الألم، جلدي يؤلمني، جميع أعضائي تؤلمني، وفوق كل هذا، هناك الملل تبّاً له! أمي بدأت تنسى، وأصبحت بالمقابل كثيرة الهلوسة والهذيان، هل هو «الزهايمر»؟! ذلك المرض اللعين الذي يفكك الدماغ فيبعثره ويشتّته. قرأت مؤخراً في مجلة علميّة أن الأشخاص الأميّين هم أكثر عرضة لمرض الزهايمر من الأشخاص الذين سبق لهم أن زاولوا نشاطاً عقلياً كبيراً ومتنوعاً، فوالدتي وظفت مخها كله لأجل أن تتصوّر حياة أخرى وأن تجعلنا نحن أولادها في منأى عن الشرور، وأن ترانا نكبر في ظل حمايتها وبركتها، لذلك فمجالها العقلي جد ضيق تحفظ بعض آيات القرآن كما علّمها والدي رحمه الله، وبضع أدعية وابتهالات إلى الله وتضرّعات إلى النبي، وبعض الحكايات الشعبية التي كانت ترويها لي أيام طفولتي قبل خلودي إلى النوم. يصف «الطاهر بنجلون» أعراض هذا المرض ومراحله بدقة بالغة، وتفاصيل عميقة مؤثرة، تسعدك في فترات، وتبكيك في فترات أخرى، يصف والدته ومراحل حياتها منذ ارتباطها بالزواج وهي في سن صغيرة، وحملها بطفلها الأول وهي لم تكد تبلغ السادسة عشرة من عمرها، ثم وفاة زوجها الأول بالحمّى، وارتباطها بالثاني الذي هو والد «الطاهر»، وعلاقة أبيه بأمه، وعلاقاتها مع أبنائها، ويقارن دائماً بين ماضيها المشرق وحاضرها الأليم، بين شبابها المتوهج وكهولتها المتعفنة، بين جمالها وسحرها ودلالها وبين المرض الذي أنهك حنايا جسدها، وأحالها إلى كائن نحيل صغير. «تحوّلت أمي منذ مرضها إلى كائن نحيل صغير ذي ذاكرة مترنحة، فهي تنادي أفراد عائلتها الذين ماتوا منذ زمن بعيد، تكلّمهم، يدهشها أن والدتها لا تزورها، لكنها تثني على أخيها الصغير لأنه، كما تقول، يحمل إليها هدايا، يسهرون معها وهي في فراشها، أتجنّب إزعاجهم مثلما أحرص على عدم مضايقتها، تنكفئ أمي إلى طفولتي تتقهقر ذاكرتها، تتبعثر فوق الأرض المبللة، خارج الزمن تعيش منسحبة من الواقع، تنفعل لأمور قديمة تتوارد إلى ذهنها، تسألني كل ربع ساعة: كم طفلاً عندي؟ «وفي كل مرة أجيبها الجواب نفسه». وعندما يصف الكاتب جزءاً من يوميات والدته وحياتها الماضية أتذكّر أمي فهذا الوصف يليق بها أيضاً. «أفنت أمي حياتها كلها في المطبخ وباقي مرافق الدار، لم تنعم أبداً بالراحة، أتذكّر فوران غضبها حين كانت المدفأة تتعطل وكان عليها أن تزيل بعناية الأوساخ المتراكمة التي سدّت الأنبوب الموصل للبترول، وأتذكّر الحياة من دون ثلاجة ومن دون موقد غاز ومن دون ماء جار من دون تلفون، أمي تتعب كثيراً، كم من مرّة وجدت نفسها في المطبخ تعدّ بمفردها طعام الغذاء لخمسة عشر فرداً من العائلة، حلّوا ضيوفاً في آخر لحظة، وعلى غير إعلام مسبق، كانت تلزم نفسها باستقبالهم بالابتسام والترحاب وكل عبارات اللياقة...» وفي مقارنة بين شبابها وكهولتها يحاول الكاتب أن يسخّر ذاكرته ليستعيد صورة أمه وهي شابة، تنضج أنوثة وحيوية: أمي لا تتزين بمستحضرات التجميل إلا لماماً، لم تشترِ أحمر الشفاه قط، حين كانت صحتها جيدة، كانت تستعمل مادة من صنع بلدي تورّد خديها ببهاء، أبداً لم تعرف مساحيق تجميل الوجه ولا المراهم المزيلة للتجاعيد». تمر السنون وتتبدل الأحوال، وكذلك حين ينتقل الإنسان من عمر الطفولة فالشباب فالكهولة، فيرد إلى أرذل العمر ويصبح كالطفل الصغير لا حول له ولا قوة، يصبح مادة مثيرة للشفقة والعطف والرحمة، يتوسل بعينيه يستجدي الاهتمام والرعاية، كيف لهذا الكائن أن يتغيّر؟! وكيف يتغير سلوكه وعاداته وطقوسه اليومية؟ هي التي كانت في منتهى الأناقة والجمال والحرص على النظافة... أمي لم تعد كما كانت، لم تعد تتذكر ما كانت، أكيد ما صدر منها كان سيروّعها لو كانت في تمام وعيها، أمي... الأناقة جسداً واللباقة روحاً! أمي... التي كانت مهووسة بقواعد الصحة وكان جسدها يتضوع برائحة طبيعية لا أثر فيها للعطر! أمي... التي كانت تنثر رونق الربيع على سطح دارنا في فاس! أمي... أتذكرها عائدة في كامل بهائها من الحمّام البلدي». وحين يصف الكاتب مخاوفه وقلقه من فقدان والدته، تراودني نفس المشاعر والأحاسيس التي تلح عليّ في كل أوقاتي، وتؤرق عيني، وتصيبني بنوبات من الحمى، من كثرة التفكير، وليس هناك غير «الطاهر بنجلون» من يصف ما يعتريني: «أحاول أن أفكّر في أمي ميّتة، أبذل جهداً لأخمّن ما قد يقع من أشياء، أتخيّل فراشها فارغاً، وغرفتها غير مرتّبة أو خالية من الأثاث، وسبحتها مرميّة على الأرض، وعلب أدويتها غير موجودة في مكانها، أرى العدم يستولي على حياتي، يمنع النوم عني، يبذر الألم في مفاصلي. أنظر إلى وجهي في المرآة فأرى أنني شِخْتُ، فجأة شِختُ، ازداد جسدي تجعّداً، عيناي حزينتان، انطفأ وهجهما، تقعرّتا، أتخيّل أمي غير موجودة حيث تركتها آخر مرة». وعندما حانت المنيّة واستسلمت والدته للغياب الأبدي، أقرأ وصفه للموت فترتعد أوصالي وتتجمد مفاصلي، وأقدّر شعوره بالأسى والحزن الأبديين: «لقد رأيت الموت بأم عينيّ، رأيته بكيفية عرضية لا إرادية، رأيت أمي كما كنت أتمنى دائماً ألا أراها أبداً، جسدها ممدّد فوق لوح خشبي، وخاصة فمها المنقعر مثل كوّة دائرية سوداء، كوّة تطل على ظلام دامس لا حدّ له، وشعرها المطليّ بغبار سوداء، هو ذا الموت، الموت هو هذه الهوّة السحيقة، هو هذا السواد المكوّر في وجه بريء، الموت هو هذه النفخة الحامضة الحارقة التي تحتل القلب والرئتين، هو هذه الرائحة التي يختلط فيها فوحان البخور بنتانة الرطوبة، هو هذا الباب الذي سينسد على هذا الجسد الذي كفّ عن كونه أمي، جسد دمّره الألم فزهقت روحه. لكن، أين هي أمي؟ هذه الكوّة السوداء ليست فم أمي! هذا الوجه المستدير الصغير ليس وجه أمّي! وهذا اللوح الخشبي ليس سرير نومها!» إذاً هذا هو الغياب الأبدي! كل الأشياء تصبح عديمة الجدوى، بالية، خربة، بشعة، فراغ خانق، فقدان فادح، كيف يأتي العدم بين عشية وضحاها؟ هذا هو السر الإلهي لكينونة الحياة.

المشـاهدات 560   تاريخ الإضافـة 23/10/2019   رقم المحتوى 2881
أضف تقييـم