الأربعاء 2024/4/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
تهديم اشتراطات العالم الواقعي في العرض المسرحي العراقي ((توبيخ))
تهديم اشتراطات العالم الواقعي في العرض المسرحي العراقي ((توبيخ))
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

مروان ياسين الدليمي

أي عرض مسرحي لا يستحضر في بنية خطابه الفني امتدادات ومحددات فنية سبق أن جرّبها المسرحيون هنا وهناك، لابد أن يضع مُبتَكِرهُ في مواجهة جمالية مع الموروث بكافة مدارسه، وبطبيعة الحال فإن شكل وموضوع هذه المواجهة سوف يعتمد على ما أحدثه العرض الجديد من لحظة مفارقة مع المنظومة التقنية الحاضرة في المشاريع المسرحية السائدة، التي سبق أن تم إنجازها من قِبل أجيال من المشتغلين والمفكرين في تحديث وتطوير خطاب العرض المسرحي.باعتبارنا متلقين للعمل الفني سنكون أمام مسؤولية نقدية ليست بتلك البساطة عندما نتلقى جرعة من التلقي الفني تتسلل إلينا عبر عمل مسرحي، فتحدث إرباكا في ذائقتنا واهتزازا في ثبات المقاييس الراسخة في ذاكرتنا، والصعوبة هنا تتحدد في كيفية التوصل إلى نحت كلمة أقرب في وظيفتها إلى المصطلح الفني، بهدف أن تُمارس مقاربة توصيفية لأسلوبية العرض الذي حمل في رسالته خطابا مغايرا، بالشكل الذي تصبح فيه هذه الكلمة مجسّا حساسا لكشف ما انفتح عليه العرض من إطار فني غير مألوف، بالتالي وضعه خارج ما هو مستقر من أساليب مكرّسة في آليات الاشتغال الفني، بناء على ما قدمه من رهانات فنية نهضت بها رسالته الجمالية، سواء على مستوى التقانات، أو القراءة الاشتغالية المُرَكِّبة لجوهر العرض المسرحي، وهذا سيضعنا أمام جهد نقدي، جوهره استكشاف ما طرحه المُنْتَج من أسئلة وما قدمه من أجوبة جمالية على مستوى الشكل والمعالجة، تقطع صلته بممارسات مسرحية متوارثة ومتداولة.والعرض المسرحي الموسوم «توبيخ « للمخرج العراقي أنس عبد الصمد يمكن وضعه في هذا السياق، باعتباره احتفى بعلاقات جديدة توخى تأسيسها في إطار رؤيته للعرض المسرحي، وقد تجسدت بنزعته الواضحة إلى قطع صلته مع النص الأدبي بكل عناصره الدرامية، التي سبق أن شخصها أرسطو في كتابه «فن الشعر»، مكتفيا بجسد الممثل وما يختزنه من مفردات قادرة على أن تصنع جملا وتراكيب بلاغية، بدون حاجة إلى لفظها صوتيا. اعتمد أنس عبد الصمد في تشكيل جملته المسرحية على سلطة التخييل، لتكون منطلقا لتأسيساته الغرائبية في قراءة الواقع، ومواجهته بقسوة صياغاته الصورية، التي كانت تنثال متناسلة في فضاء سينوغرافي يحيلنا إلى عوالم الفن السيريالي، بذلك يكون أنس عبد الصمد قد سار في منحى شكلاني بحت وهو يحرِّك وعي المتلقي واستثارته ناحية تأكيد العلاقة بين الواقع والمتخيل، في بنية العرض المسرحي.يأتي هذا الجهد الفني في مسرحية «توبيخ» ضمن إطار ما أفرزه المسرح المعاصر من تجارب حملت إرهاصات ما بعد الحداثة، التي تجلى فيها الانعكاس الذاتي في رؤية الواقع بمحمولاته الجمالية، وهذا المستوى من الفهم لطبيعة العرض المسرحي يعكس اهتماما كبيرا ومتصاعدا بالكيفية التي يعبر البشر من خلالها عن خبرتهم الفردية بالعالم، بما يعني الانزياح بعيدا عن السياقات التي تطرحها الحياة اليومية من صور تتمظهر في العلاقات القائمة بين الأشياء، حيث عمل المخرج على بناء سينوغرافيا العرض في منحى فني أساسه تهديم اشتراطات العالم الواقعي، وإعادة إنتاجه في عالم من التخيلات الذاتية التي هي أقرب إلى بنية الأحلام والكوابيس.الإحاطة بما قدمه أنس عبد الصمد من أفكار ليست بالسهولة التي يمكن أن تكون عليها عملية التلقي في العروض التقليدية، سواء الكلاسيكية أو التي تتحرك في المساحة الجمالية للمسرح، الذي أنتجته الحداثة بمدارسها وأساليبها، ذلك لأنه قدم لنا لغة مسرحية عكست عالما قائما على التفكك والانهيار الأخلاقي، تقف وراءه السلطة بدلالتها وعناوينها المطلقة غير المشروطة في بيئة وزمن محددين، عالم لم يعد يرتبط في ظواهره إلى الإنسانية بشيء، مع تصاعد وتيرته في استلاب إنسانية الإنسان، من قبل أشكال من السلطات هي أقرب لعالم الحشرات والحيوانات في طبيعتها ونزواتها وشكلها، على الرغم من اختلاف عناوينها، حتى أصبح الفرد ممسوخا في ظل هيمنتها عليه، وبات يحيا في عالم تتجلى فيه سلطة القمع بكل شيء، وما من فرصة له حتى يمارس كينونته وحضوره الفاعل. بإمكان المتلقي أن يلحظ استمرار صوت طنين الذباب بشكل مستفز طيلة زمن العرض، مترافقا مع موسيقى التقطها أنس عبد الصمد من أنماط مختلفة تجمع ما بين مقاطع مأخوذة من أشكال كلاسيكية وألكترونية وإيقاعات مقبلة من طبول وأصوات، تصدر عن أجراس وآلات حديثة، مثل جهاز الاستنساخ الورقي، إضافة إلى أصوات بشرية لا تعبر عن جمل واضحة يمكن للمتلقي أن يمسك بمعانيها، هذا العالم الصوتي المتشنج أراد من خلاله عبد الصمد، أن يقدم لنا مناخا فانتازيا في منظومته السمعية والبصرية.وسط هذا الخراب المؤثث بالتزييف والتطرف والرعب والموت، يقف الإنسان المثقف عاجزا، ويائسا بعد أن تفقد الثقافة برمزيتها المعبر عنها بالكتاب قدرتها على المواجهة، لتسلم الراية لسلطة واقع موبوء بكائنات ممسوخة يتم استنساخها في آلة الاستنساح، مثلما تُستنسخ الأوراق.لم يكن العالم المتخيل في مسرحية «توبيخ» إلا تعرية للعالم الواقعي، في سياق فني قائم على التشظي، إذ ليس هناك من حكاية واحدة يتمركز حولها المتن الدرامي، فكان المتلقي أمام عملية مستمرة من الهدم والبناء، داخل فضاء درامي فضفاض يفضي به بالتالي إلى استجابات شعورية، تبعث على الإحساس الدائم بالتوتر، خاصة أن ما يتحرك في هذا الفضاء السينوغرافي من صور متلاحقة، تربطها علاقات واهية من حيث الشكل مع العالم الواقعي، لكنها في الوقت ذاته صادمة وساخرة واستفزازية، وحملت في دلالالتها إشارات رمزية إلى حقيقة العلاقة المشوهة التي تتعامل بها السلطة مع مواطنيها، وسعيها المستمر باستنساخهم ليكونوا على صورتها التي جاءت على هيئة حِمار.وسط هذا الخراب المؤثث بالتزييف والتطرف والرعب والموت، يقف الإنسان المثقف عاجزا، ويائسا بعد أن تفقد الثقافة برمزيتها المعبر عنها بالكتاب قدرتها على المواجهة، لتسلم الراية لسلطة واقع موبوء بكائنات ممسوخة يتم استنساخها في آلة الاستنساح، مثلما تُستنسخ الأوراق. بقدر ما يدخلنا العرض في بنية فنية قائمة على التخييل، مبتعدا بذلك عن البنى المألوفة التي يفرزها العالم الوضعي، إلا أنه يظهر لنا بشاعة العالم الواقعي عبر صور مدهشة وغريبة، تتوالى في سرد حكاية الصراع الذي يخوضه الإنسان ضد سلطة قاهرة تتفنن في أساليب القمع، إلى الحد الذي لم نسمع صوت الإنسان طيلة زمن العرض، وليبقى الصوت مقتولا في داخله بعد أن تمددت شراسة السلطة في كل تفاصيل الحياة.استلزمت بنية العرض الانحياز إلى لغة مشفرة، وفي شكلها الخاص تتعارض وتتقاطع مع الوقائع الموضوعية، وهذا يأتي من قناعة المخرج في أن اللغة المسرحية المتداولة بكل اتجاهاتها الفنية لم يعد فيها من شيء جديد يمكن اللجوء إليه للتعبير عن إشكالية الوضع الإنساني الذي وصل إليه المجتمع البشري، بعد طوفان العنف والقسوة الذي تنتجه أشكال مختلفة من السلطة. منذ أن بدأ أنس عبد الصمد يفرض حضوره في المشهد المسرحي العراقي، قبل عقد من الزمان، اعتاد أن يواجه الجمهور بلغة مسرحية من خارج المنظومة التي عادة يتقن المتلقي التواصل معها، ورغم أن ما يقدمه من عروض في كليتها تعتمد على استثمار ما يمتلكه الجسد من طاقة تشفيرية إلا أنه يحرص على إبقاء خيط شفيف يحافظ بواسطته على توازن العلاقة مع المتلقي، من خلال واقعية الأفكار التي يتناولها، بمعنى أنه لا يسعى إلى تضليله بقدر ما يدفعه إلى تركيز انتباهه أزاء عالم فني مؤسلب تحتشد فيه علاقات استعارية. مثل هذه العروض تترك الباب مفتوحا أمام مستويات متعددة من التأويل، وبقدر ما تتلقى ردود أفعال تحتفي بها لكونها تنغمس بتقنياتها في شكل من الرؤية الفنية التي تمجد الوعي الذاتي بكل تخيلاته وشطحاته الجامحة، فإنها في الوقت نفسه تواجه نظرة أخرى قائمة على عدم التفاعل معها لدى طيف واسع من المتلقين، لأنها تتنصل عن لغة مشتركة قائمة بينهم وبين العرض.

المشـاهدات 686   تاريخ الإضافـة 26/11/2019   رقم المحتوى 3324
أضف تقييـم