الأحد 2024/4/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 33.95 مئويـة
ثقافة الخطاب السيري ووجع الذاكرة في (دروس في العذوبة والعذاب)
ثقافة الخطاب السيري ووجع الذاكرة في (دروس في العذوبة والعذاب)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. زينة إبراهيم الخرسان

يقدّم القاص والناقد حسب الله يحيى خطاباً سيرياً يرصد فيه وجع الذاكرة ووجع الصراع ووجع الذات التي تبحث عن الحرية والفكر والقيم الرفيعة من خلال مدوّنة سردية سيريّة امتزج فيها تقديم الواقع عبر رؤية الذات والحفر في الماضي والكشف عن السيرة المزدوجة لحياة الأخ متمثلاً بالشهيد (وعد الله يحيى النجار) وسيرة حياة الكاتب متمثلّة بـ(الأنا) الساردة أو جزء منها وقد حملت المدوّنة عنواناً دالاًّ (دروس في العذوبة والعذاب) الصادرة عن (اتحاد الأدباء – بغداد 2021) لكن هذه المدوّنة السردية لم تخل من تعدّد مستوى الأداء التعبيري لأنها لم تقدم السيرة بشكلها التوثيقي والتقليدي، وفق تراتبية زمنية، وإنما تعمقت في تقديم مستويات متعدّدة فهي تجمع بين التاريخي واليومي، والتوثيقي والسردي، والذات والآخر، والأنموذج والمتماهي معه، والآيديولوجيا والمنطق الإنساني، والحرية والاستبداد، والسلطة والمثقف، والطفولة والنضج، والعائلة والمعاناة، والحزب والحياة، والاقتداء والاستبصار والقبح والجمال، وتمثل هذه الثنائيات انبثاقاً عن ثنائية الدلالة في العنوان وانشطارها إلى (عذاب وعذوبة)، عذاب النضال الإنساني والسياسي والانتماء الحقيقي وعذوبة القيم التي انتجها هذا التوجّه أو الخيار التنويري والأخلاقي، ولذا نجد الكاتب يركّز على الخصال الأخلاقية والمبدئية التي تصل إلى حدود (اليوتوبيا) أو النمط المثالي عبر مبدئية ونقاء الأخ الشهيد (وعد الله يحيى النجار) قبل أن يرصد أو يكشف عن الانتماء العقائدي والفكري الذي اختاره الشهيد وأصرّ عليه، وكان أنموذجاً ليس للمنتمي الراديكالي بل أنموذج للمثقف العضوي بحسب توصيف (انطونيو غرامشي) وتوصيفه للمثقّف المنتمي لذاته، وإنسانيته ومواقفه السلوكيّة قبل أن يكون مجرد ذاكرة وعقل ينطوي على معطيات فكرية وعقائدية.

يبحر القاص (حسب الله يحيى) في فضاء الانفتاح على الزمن السيري وهو يتابع روح التفاصيل ودلالاتها من خلال شخصيّات (الأخ) وكان يمثّل المحور المركزي للأسرة كونه الأخ الأكبر والحكيم والمثالي الذي يعي الواقع والحياة وينتمي إلى صورة الإنسان الساعي للتغيير ومواجهة الآخر والسلطة وكل مظاهر الارتكاس والقبح.

ولكي يتعمّق ويجسّد الكاتب هذه الحياة أو الخيار الاستثنائي لجأ إلى تأطير فصول الكتاب إلى دروس وليس إلى فصول ويرصد في كلّ فصل جانباً من جوانب هذه السيرة التي مزجت  بين التوثيق الإنساني والتوثيق الفكري والتاريخي والمزج بين النضال ضد السلطة عبر الدالّة المعرفيّة وبين الصراع الاجتماعي القائم بين فردانية الثوري والعقل الجمعي المتكلّس، وكان كل درس بمثابة ساحة أو زاوية من زوايا هذه الرحلة المريرة والمنتجة في آن معاً، ولم يلتزم بالتحقيب (الكرونولوجي) بل بتدفقات السلوك والمغايرة والتوق إلى (اليوتوبيا) الثورية بشكلها (الجيفاري) والرومانسي وبجذرها الإنساني والثقافي.

جعل الكاتب هذه الدروس تبتعد عن منطق الدرس التقليدي أو الوصايا أو منطق (البروبكاندا) الفردية بل كانت نصوصاً تنفتح على ما هو إنساني وثقافي واخلاقي من خلال عفوية السرد وصدق التعبير والكشف عن المسكوت عنه وخفايا الصراع لاسيما ما كان يعانيه (وعد الله) من ضغوطات الحياة والعوز والصراع مع الأسرة لاسيما الأب والتقاليد الموروثة، وكيف استطاع أن يرسّخ المحمول الفكري والمعرفي ويحوّله إلى سلوك يومي جعل الأخ الأصغر (حسيب) والأب وجميع أفراد الأسرة يتحوّلون إلى خليّة انسانية، إذ تبادل الأدوار في سبيل ترسيخ سلوك وخيار (بيورتاني) متعالٍ ويضعون مصير العائلة إزاء بطش وأساليب القمع والسجون والزنازن التي كانت السلطة الشباطية تصدّرها إلى واقع ويتحول اليسار إلى هدف وقرابين ونماذج لا تلقى سوى المطاردة والملاحقة والزج في الأقبية والسجون المعتمة حسب ما جاء في الكتاب.

وانطلاقاً من عتبة الأهداء نلحظ الكاتب يهدي الكتاب إلى نماذج الخيار والرهان على الفكر والثقافة ومن خلال قراءة سيميائية لغلاف الكتاب نجد البراعة الرمزية والتأويلية في جعل الأنشوطة أو حبل الإعدام وقد تحوّل إلى ربطة عنق في قميص السلطة الجائرة والمتعشقة للأعناق المشنوقة والعقول والأرواح معاً في حفلة غرائبية، تحوّل فيها الناس إلى أضاحٍ وقرابين من أجل أن يبقى عشاق ومغامرو السلطة من القرويين والطارئيين والمهووسيين بالتسلط على قمّة الهرم وهم يسحقون القاعدة ورموز التفكير وكتائب الثوّار الذين يحملون مصباح (ديوجين) بحثاً عن الذات والحقيقة والوطن والمستقبل وضد المنطق الاستبدادي والأنوي، وبذلك يقدّم الكاتب (حسب الله يحيى) شهادة أو جنساً معرفياً في الكشف عن كواليس السلوك العدمي، ومنطق الإقصاء والمحو الذي ساد العراق بعد أحداث الانقلاب المشؤوم في التأمين من شباط 1963، وشهد الواقع (هولوكست) لتدمير المثقفين والحقيقيين وحملة الفكر والتنوير الذين لم يكونوا يفكرّون بملذات الذات الفردية بقدر انشدادهم إلى تأسيس الأنموذج المتعالي المشع، أنموذج أبطال الواقع ورواد الفكرة ومؤسسي منطق التغيير والتعبير عن قيمة الإنسان إلى حد الهوس اليومي.

يروي الكاتب بفصول العذوبة عن تأثّر الأخ الأصغر (حسيب) أو حسب بالأنموذج الحقيقي والانتماء القيمي ولم يكن التأثر شكلانياً بما يتوسمه الشاب بأخيه الأكبر بل تحوّلت العلاقة إلى علاقة فكرية وجعله ينفتح على عالم الثقافة والكتب والقراءة والانتباه ورصد الحياة والواقع والفكر واشكال الاختلال الذي يهيمن على الواقع أي بما يوازي غرس العقل التنويري والنقدي الذي تحوّل إلى معطيات وتوّجهات شكلت ملامح شخصيّة الكاتب وتحوّله النوعي وهو ينظر إلى أخيه المثال وهو ينتقل من سجن إلى آخر ومن مطاردة إلى حصار، حتّى قاده قدره وخياره إلى الإعدام من السلطة المستبدة في عام 1964 كما ذكر الكاتب، إذ قدّم الأخ روحه وذاته ثمناً باذخاً من أجل غرس فكرة التعبير عن الذات والحرية والعقل ضد منطق الغريزة والاستئثار، ولم تنزلق السيرة إلى منطق التجسيد التقريري بل كانت طافحة بلغة أدبية شفيفة ومرتكزة على منطق الحوار بين الشخصيّات لاسيما الحوار أو الفكر الذي كان يقدّمه (وعد الله) في حواره مع أخيه الأصغر وهو يكتشف حقائق الواقع والتاريخ وقبح السلطة وكأنّه يعدّه انموذجاً أو امتداداً له وكانت فرصته عارمة وهو يرى أنموذجاً له سيكون له الطريق نفسه في الانتماء إلى جدل السؤال وليس السلوك التقليدي القطيعي الذي يهيمن على المجتمع وهو ينقاد خوفاً من السلطة، ويقدّم (وعد الله) صورة للمثقف الحر وليس المثقف الحزبي المتزمّت المنتمي إلى الجمود العقائدي وهو يكشف عن تاريخ اليسار المتوّهج والراسخ كان يقول له:

"- حسيب ليس بوسع أي حزب إلزام أو اكراه أحد أعضائه على البقاء داخل التنظيم، فلكلّ انسان قدراته في التواصل أو الانقطاع، نحن فخورون أن يكون معظم المثقفين العراقيين قد خرجوا من معطف الحزب، والمثقف بطبعه كائن متمرّد، ومن الصعب التعامل معه وفق نظام محدّد بأوامر ثابتة، وليس من الملائم الضغط على المثقفين باتجاه البقاء داخل التنظيم وحضور الاجتماعات، المثقفون العراقيون من أكثر الفئات الاجتماعية تواصلاً  مع الحزب"(الكتاب: 93).

ودروس الكاتب تقدّم بانوراما حياتية لحياة المثقف المتمرّد وصراعه مع المجتمع ومع ذاته ومع السلطة، وفق كشف لعلاقة الفكر بالواقع وعلاقة الواقع بالنسق الأخلاقي والنضالي من خلال تتبع مفردات وتفاصيل هذه الحياة.

وهناك مفارقات دالّة كان لابد لها أن تسفر عن هذا الحراك والاشتباك مع الواقع الملتبس، مثل هروب (وعد الله) من السجن والتخلص من الشرطي الذي يكبّله والنزول من القطار وان كان في النهاية يعود إلى السجن والتعاطف مع الشرطي الذي سيتعرض إلى أقسى العقوبات وربما الإعدام، وكان الأب المثالي وهو يحاور ابنه بمنطق الأخلاق والإيثار حين قال له:

"- وعد الله... أنت الذي اخترت طريقك ولم يلزمك أحد باعتناق مبدأ معيّن، فلماذا يسجن بريء بسببك؟

أصغى أخي إلى كلمات أبي أحسّ نبضات قلبه...

نهض توجه إليه:

  • إطمئن .. إطمئن.. ومن أجل اطمئنانك ومن أجل سجّاني الذي سجن بسببي، سأسلم نفسي وإن أُعدمت، وفي الصباح ودّعنا (وعد الله النجار) مقبّلا كل واحد منا قبلات حميمية، وقد ترك في رؤوسنا درساً جديداً يحمل معه نقاء رجل اختار ضوء حياة الآخرين وإن كان ثمن ذلك حياته". (الكتاب: 43).

ومن المفارقات المبكية المضحكة حين يروي الكاتب ترحيل وسجن (وعد الله) في سجن بعقوبة وكانت الزيارة ممنوعة وقد أقدم الأخ السجين على الاضراب عن الطعام فما كان من الأب إلاّ أن يحاول انقاذ الإبن وكان الحوار بين الأب والشرطي ذا دلالة ومفارقة:

"- هذا أمر المدير... وعد الله ليس مثل البقية أنه مضرب عن الطعام منذ (19) يوماً.

ما كنت أعرف معنى (الإضراب) إلى أن سأل أبي الشرطي:

  • يعني أنه لم يأكل الطعام كلّ هذه المدة؟!
  • نعم.. نعم.. كم عنيد هذا الرجل.

همس الشرطي في أُذن أبي واعقب ذلك بقوله:

  • عد إلى بغداد، واذهب إلى (الريسس).. وستجده هناك يلعب في ساحة الخيول.. كلّمه لعلّه يوافق على المواجهة!". (الكتاب: 20).

والمفارقة أن مدير السجن المسؤول يواظب على حضور حفلة سباق الخيول والمقامرة فيها تاركاً السجناء والمثقفين في جو وعتمة وهي إدانة للنظام وأعوانه وأزلامه الذين يقبضون على السلطة ويمارسون أبشع أساليب القمع ضد كل معارض وضد كلّ من يفكر مجرّد التفكير بالتغيير أو رفض الواقع السلبي والدمار الذي يستهدف كل مفاصل الحياة ويعكس وجود سلطة بوليسية تحترف القتل والاقصاء ومحو كل فكر معارض.

ويروي الكاتب في فصل آخر أو درس آخر دخول الطابعة إلى البيت واستعمالها في طبع المقالات والأوراق والرسائل ولعلّ دخول هذه الآلة إلى البيوت هو أشبه بمغامرة وتحدّ للسلطة وهي علامة لا تحتاج إلى البحث عن تهمة فهي التهمة بعينها ولأنها تكشف عن فوبيا السلطة إزاء الفكر والثقافة والخوف والرعب من المنشورات: "كان أخي ينظم الأوراق ويصحح الأخطاء الطباعية ويبتسم منتشياً بكلّ بيان يطبعه ويضعه فوق سابقه كنت أعمل بصفة متابع لأخي ولرفيقه، فآتيهما بالطعام والشاي والماء ومع أنهما كانا يدخنان – كما عرفت من حديثهما – إلاّ أنهما فضلا الانصراف للعمل أولاً ومن ثم خوفهما من تلوّث المكان وانتشار الدخان والحذر من أي حريق قد يحصل". (الكتاب: 67).

هذه التفاصيل والخفايا تشكل المحمول السردي الذي يكشف عن المسكوت عنه والسلوك الإيثاري الذي كان يلجأ إليه المثقّفون وليس الحزبيين من أجل إشاعة الوعي وانتشار الرفض والاحتجاج غير آبهين بأساليب السلطة ومتحدين السجون والأقبية والمحاكم الصورية، ولم يكن (وعد الله) إلاّ أنموذج من نماذج هذا التخطّي للذات باتجاه تحقيق حلم (يوتوبي) ثوري، وظلَّ متوّهجاً ومتدّفقاً حتى وهو يصعد إلى حبل المشنقة من أجل المجد وخلود الفكرة.

إنّ هذه المدونة اشتغلت على بنية إحالية وتبادليّة وهي تتعاطى مع التاريخي والسياسي والثقافي والاجتماعي والسلطوي والحراك الذي يبديه المثقّف ازاء السلطة، ويكشف الكتاب عن أساليب القمع والاقصاء التي كانت سائدة في ستينيات القرن الماضي والانحراف الدموي والتاريخ الأسود لكلّ الأنظمة المتسلّطة وعساكرها والمجاميع المتطرّفة التي ناصبت الفكر العداء كونه يمثل البؤرة المركزية لتأسيس المنطق وتأسيس مستقبل قائم على القيم والعدالة والرقي، والكتاب فسحة للتأمل بما مرّ به العراق من أحداث وظلم ومعاناة اجتماعية، يقدم الكاتب (حسب الله يحيى) انتباهة ورؤية تؤشّر إلى دور الثقافة في تأسيس الوعي بمنطق التغيير ولم يكن يركز على الجانب التنظيمي والحزبي وإن كان هذا الحراك يسهم في توجيه الأحداث والمشاركة في صنع عوالم ومديات التعبير والتغيير، ومن جمالية هذه المدوّنة انها لم تقدّم بطلاً مفتعلاً أو توصيفات جاهزة بل كان ملتصقاً بالواقع، وبتفاصيل الحياة التي يعيشها كلّ مثقف وهو يتطلّع إلى النور ويحدّد القبح ومعاناة الإنسان في ظل واقع محتدم سلبياً وبذلك لم يكن الخطاب السيري غير إضاءة شاملة للواقع ووصف المكابدة التي يجابهها الإنسان العراقي الاستثنائي إزاء واقع غير استثنائي، إلى جانب التوكيد على أن كل واقع وكل حلم وكل تأسيس ينبغي أن يتوالد ويتناسل من قوة السؤال وقوّة المواجهة والإصرار وتلك هي مأثرة هذه السيرة.

المشـاهدات 111   تاريخ الإضافـة 14/02/2024   رقم المحتوى 39635
أضف تقييـم