الأحد 2024/5/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غيوم متفرقة
بغداد 26.95 مئويـة
الحرب وثقافة الهدر الإنساني في رواية (العروج إلى شيراز)
الحرب وثقافة الهدر الإنساني في رواية (العروج إلى شيراز)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. زينة إبراهيم الخرسان

تتردد الحرب في رواية (العروج إلى شيراز) للقاص (عباس لطيف) ولغتها ومعانيها وتشظياتها على لسان الشخصيّات الثلاث (حافظ الشيرازي) و(جلال شاكر) و(مير قرباني)، بل حتّى هواجس الأم التي يستشعرها ابنها (حافظ الشيرازي): "كانت تبتهل تارة وتبكي تارة أخرى وهي تتطلّع من خلال النافذة إلى سماء شيراز الصافية وشعرت بشعور غريب بأنّها تشبه هذه المدينة الجميلة التي تعاني دوماً من الشقاء وشراسة الغزاة وصلافة الجيوش التي تدّنس أرضها وبساتينها ورياضها في كلّ مرة، وتذكرت كلمة ابنها حافظ حين قال: "- بأنّ الغزاة والعتاة والطامعين يعشقون شيراز ويكفي أن اسم شيراز يعني (اللّبن المصفّى)". (الرواية: 7).

وتتردّد الهواجس في أعماق الشاعر (حافظ الشيرازي) حول الضياع والقلق الذي تسببه الحروب والصراعات والمخاضات التي تجعل من المدن تعاني قلقاً غريباً: "إنه زمن المدن القلقة والهشة وزمن الدويلات وحكم الغرباء وزمن الجيوش التي تعدو في كلّ مكان وكل دويلة أو حكم أو إمارة أو مملكة لا تصمد طويلاً، حين يأتيها الطوفان من حيث لا تتوقع، في هذه الأيام، مملكة توّدع أخرى، وأمير يقتفي أثر أمير إنه عصر الغزوات والمطامع بعد أن اختلطت الوان البشر وتعدّدت العقائد والدوافع واستعرت الرغبات والمطامع". (الرواية: 208).

هذه هي ملامح وتداعيات الحرب التي كابدها (حافظ الشيرازي)، إذ قدّمت الرواية رؤية متناظرة ارتبطت بمكابدة الشخصيّتين الأخريين اللتين انصهرتا بوجع الحرب التي امتدّت ثمانية أعوام، وفقد (مير قرباني) في إحدى المعارك وابتلعه الفقدان المجهول وظلّت زوجته المعلّمة بها تغرق في انتظار غير مجد، وهي تعاني مخلّفات الحرب فضلاً عن الهم الآخر متمثّلاً بتطلّعها إلى الحمل والولادة ولعلّ الرواية اتّخذت من عدم الانجاب أو تأخره إشارة سيميائية لمعنى الفقدان، وتوّقف الحياة وانتظار المجهول وهذه هي خصائص الحرب بصورتها البشعة والمؤلمة، بينما يعبّر (مير قرباني) عن قسوة الحرب بقوله: "كان القتال جحيماً يومياً لا يتوقف طيلة النهار والليل، وكل مرّة يرسلوننا إلى موقع جديد ولم نستقر في مكان محدد، فكل شيء يتغيّر والحركة والتقدّم والانسحاب في عالم ليس فيه غير الموت والدخان والحرائق والضياع، فلا أحد يعرف اتّجاه المعركة فهي متداخلة إلى حد الاشتباك القريب، وكثير من الهجومات شهدت قتالاً بالأيدي والحراب لقرب المسافات بين الطرفين، وكم شغلتني تفاصيل الموت اليومي الذي لا يهدأ وبشكل يثير الرعب والهلع وشعرت بأنني لن أفلت من هذه المعركة الكبرى". (الرواية: 90)، عكست حياة وسلوك (قرباني) ملمحاً مؤثراً لمّا انتابه الوجع والانكسار وانسداد افق الحياة بسبب الحرب التي ابتلعت كل احلامه، حلم العودة إلى شيراز وإلى (بهار) زوجته وحلم نشر روايته (ترجمان الأسرار) التي اطلق عليها هذا العنوان وهو الوصف الذي اطلقه الشاعر (الجامي) على (حافظ الشيرازي) بقوله إنّه: (ترجمان الأسرار ولسان الغيب)، والعنوان تناص مع ديوان الشاعر حافظ الشيرازي (ترجمان الأشواق)، ولكن الغيب الحقيقي كان هو الحرب التي لم تستهدف (قرباني) جسداً ووجوداً وإنما أطاحت بكلّ تطلّعاته وأحلامه وكان يأمل بحلم أو أمنية صغيرة وتشبث بها وهي عمله مترجماً للأسرى وهذا ما يتيح له الانتقال إلى المراكز الخلفيّة في المدن ومعسكرات الأسرى وهي فرصة لن تتكرّر للإفلات والنجاة من جحيم الحرب المستعرة، وحتى هذه الأمنية الصغيرة لم تتحقّق، وظلّ متشظياً ومنشطراً، وهو يقف على حافة الهلع وانتظار المجهول الذي أودى به وكشف (بهار) بأنّها لم تعثر عليه لا مع الذين قضوا في الحرب ولا مع الأسرى ولم تسعفها دوائر البحث وشؤون الضحايا أو مراكز الصليب الأحمر ولم يعُدْ منه أي شيء سوى المخطوط الذي حمله (جلال شاكر) بعد انتهاء الحرب ومرور عدد من السنين ليكون المخطوط هو الشيء الوحيد الذي عاد منه، ويتّخذ المخطوط وعودته بعداً رمزياً وقيمياً يدين قبح الحرب وهدر الإنسانية ويؤسس لمنطق الحياة الذي هو أوسع وابقى وابهى من منطق الموت المجّاني وصخب القتال ودفع الحياة إلى أقصى مخاضاتها العدميّة.

إنّ قرار (جلال شاكر) بالبحث عن (قرباني) واحساسه الأخلاقي والانساني بإعادة الأمانة هو نسق ثقافي مضمر يدل على قيم أخلاقية راسخة وهو إدانة صارخة وعميقة للحرب وتبشير بعودة الحياة وانتصار الموقف الإنساني على الموقف العدمي الذي ارتكزت عليه الحرب، وكل حرب بوصفها الخيار اللاإنساني وخيار القتل والعماء وذروة التوّحش، بينما نجد الرصد الارتكاسي في حياة (جلال شاكر) نفسه وقد تجسدّت ملامح الانكسار في حياته وكان يخوض أكثر من حرب، حرب الخنادق والمعارك وسوح المواجهات، وحرب الدفاع عن وعيه وعن حبيبته (ليلى) وهي تساق إلى قدرها البائس وارغامها على الزواج من الضابط (حميد) صديق أخيها (البراغماتي) الطامع بالخلاص والنجاة من الحرب من خلال وعود حميد بنقله من جبهة الشمال إلى دائرة الانضباط العسكري في الحارثية، واستحواذ حميد واستماتته بامتلاك (ليلى) والزواج منها على الرغم من أنه متزوج ولديه أولاد، دلالة أخرى على تأثير الحرب في الشخصيّات واشارة إلى شخصيّة الضابط كونه علامة من علامات الهيمنة والاستحواذ وتقويض الآخر، ويقدّم جلال وصفاً بليغاً ورؤية محتدمة وسوداوية عن ثقافة الحرب ومرارتها وهو يجتر همومه في السواتر وهمومه في الحياة، وكل شيء استحال إلى ارقام وأفق مجهول "صار الوطن مجرد جمع الأقراص وسلاسل العنف لكي نضمن لهم قبراً وشاهدة ومجلس عزاء ولافتة سوداء، إنه مجلس عزاء يمتدّ على طول الحدود التي تبلغ 1400 كيلومتر، وأسراب من نعيق الغربان، معلنة أن الموت هو الذي يصول ويجول ويخطف الأجساد والأرواح على مأدبة همجيّة تزوغ فيها العيون، وعليك أن تقف على قدميك وأنت تنتظر المجهول وقد تتحوّل إلى رقم كما جئت إلى هنا، وأنت عبارة عن رقم... فكل شيء في هذه الأرض رقم، رقم الفرق والألوية والأفواج وحتى المعارك اصبح لها أرقام". (الرواية: 135)، وإن الجانب السايكولوجي مثّل أيضاً ملمحاً من ملامح النتائج والمعطيات السوداوية التي هيمنت على الحياة، وأصبحت الحرب ترّوج لسلوكات وظواهر تكشف عن المضمرات النسقية السلبية والاندفاع العصابي وثقافة التوّحش، وقد تمكنت الرواية من تجسيد هذه المشاهد، والدلالات واتّخذت منها انعطافاً مربكاً لأَنَّ موت القيم والوعي واندثار التناغم والجمال، وانتشار القبح بكلّ معانيه، ولم يكن ذلك مقتصراً على سلبية واستحواذ (حميد) على (ليلى)، بل كان سلوك الزوجة (سلوى) وتحوّلها من العمل في الخياطة إلى عمل السحر والشعوذة والخرافة وهذا جزء من ثقافة الغنيمة والأستحواذ والخداع، ومن الأغرب أن تتشكل شخصيّة (ماهر) الابن على وفق هذه الميول غير السويّة التي افرزتها وحشية الحرب، وإن الحياة بدأت تسير بشكل يتقاطع مع حركة عقارب العقل والسلوك السوي والفطرة الجميلة.

إنّ انتشار ثقافة الغيبيات والنسق (الميتافيزيقي) هو أحد أعراض الانحراف في قيم الوجود والحياة التي تسبّبها الحروب، فالحرب ليست قتالاً عسكرياً وانزياحاً باتّجاه البربرية فقط بل هي انحراف في التوّجهات واندثار قيمي يقترب من الهوس وانتصار الدافع البيولوجي المحض على التأسيس الثقافي الإنساني الحقيقي، ويصبح الكذب والدجل الراسب في المضمر النسقي، أو المضمر الذي تظهره الحرب بوصفها سلوكاً انحرافياً عن منطق الكينونة البشرية وانحدار الخطاب إلى العراك الوحشي الذي تأباه كثير من المخلوقات الحيوانية، فالحرب وفق هذه المضمرات التي أرست إرهاصاتها وإشاراتها الرواية هي عودة شعواء إلى روح البدائية وروح التقويض وروح التدمير وإشاعة نوع من الهوس والجنون والاستئثار المرضي وإعلان صوت الذات المتضخمّة والسادية، حتى يغيب العقل والمنطق والسلوك السوي، فالحرب لا تمجّد سوى الموت، "لا حقيقة إلاّ الموت وازدياد الخسائر وتراكم الكذب والجنون، فكل طرف يدّعي أنّه المنتصر، ففي الحروب ليس سوى الأكاذيب، والنصر عبارة عن وهم، فسقوط الإنسان مضرّجاً وهو يتحول إلى (فطيسة) لا تجد من يدفنها، فذلك هو الموقف ولا أحد ينتصر به، من أين يأتي النصر وليس في المشهد غير الدفن والتراب وغبار القصف كم أدهشني وأنا أنظر إلى رؤوس الخوذ فالعلاقة بينهما قلقة وكلّ خوذة كانت قبل قليل تحمي رأساً، فماتت الرؤوس وظلت الخوذ مثل شواهد لقبر في الهواء الطلق... الحرب رأس وخوذة ورصاصة.. إنها شرق البصرة". (الرواية: 136).

انطلاقاً من هذه المقاربة التحليلية والثقافية نستدل على أن رواية (العروج إلى شيراز) هي عروج عدمي إلى جحيم الحرب وتراجيديا القتال وتقويض الحياة وتدمير الذات، وهي تعبّر عن إدانة وتعرية لقبح الحرب بوصفها المنحدر والانحراف والتوق إلى الموت والمحو وتحويل الحياة إلى فصل من فصول الهوس والجنون واللاّمنطق، ولم تسع الرواية إلى الأدلجة أو التعبويّة أو التاريخيّة المحض بل كانت خطاباً إنسانياً جمالياً لتأشير القبح ورفض ثقافة الحرب ووحشيتها.

المشـاهدات 76   تاريخ الإضافـة 02/03/2024   رقم المحتوى 41009
أضف تقييـم