النـص : كلما يحلُّ علينا شهر الطاعة الفضيل , رمضان الخير والعطاء والمحبة , أتذكّر الماضي , وأنا أعيش بعيداً عن أجوائه الحقيقية التي تمثّل لي طقسا روحيا أعيشه بكل مشاعري وهواجسي وإيماني ويقيني , وما أن تحلّ موعد إطلالته , حتى أشعر بغصة وأنا أفتح نوافذ الأمس , فأرى أهلي مجتمعين على مائدة إفطار تطيب لها النفوس , وتحلق في فضائها آيات المحبة والصفاء والتراحم والود الذي يجمع أفراد العائلة ليغدو للطعام مذاق خاص , ولتجمّعنا ونحن نشعر براحة البال وهدوء النفس , نكهة لا مثيل لها , أتذكر التزاور فيما بيننا , كما أتذكر حالات لا أظنها تتكرر في ظل الخراب الذي حلّ في العالم , وهذه الحالات تتلخص في إعانة المحتاج ومدّ يد العون بصفاء وصدق لجميع المحتاجين والبسطاء , وهذا في رأيي جزء من الرسالة السماوية التي تضمنتها فريضة الصيام على المسلمين جميعا , فالغرض الأهم والأنبل من طقوس هذا الشهر , ليس الامتناع عن الأكل والشرب والمفطرات المعروفة , بل هو غرض تربويّ في المقام الأول , إضافة إلى القيم الروحية والإنسانية وحتى الصحية التي تحملها فكرة الصيام .
كنّا نترقب حلول شهر الفضائل , شهر نزول القرآن الكريم , بشوق وشغف , فنجد أيّامه مختلفة , ولياليه مشعة بالحيوية ولهفة اللقاء بالأهل مهما ابتعدت أماكن سكنهم , فشهر الخير دائما يجمعهم في جلسات رمضانية تتوزع على البيوت , ويكون بيت الجد دائما هو المثابة الرئيسية للقاء الجميع أكثر من مرة ....
بالأمس , كانت مائدة الصائم في بلادنا الحبيبة سرعان ما تتسع , حتى تصل إلى تشكيلة إفطار متنوعة , فالجار يتفقد جاره , والمشاركة في الزاد تجلب الرزق والبركة والثواب , لذلك تُطرق الأبواب , ليفتح أهلها على طبق لذيذ من جار حميم , وما أبهى هذه العادات التي وسمت مجتمعنا وأعطته تميزا في العطاء وإضافة معنى نبيل لقيم ودلالات هذا الشهر المبارك ...
ومع أن الصيام مازالت طقوسه قائمة في مجتمعنا , إلا أن شراسة الحياة وقسوة الظروف والمعاناة التي يعيشها الناس , أفقدت الممارسات التي اعتدناها في الماضي طبيعتها فلم تعد كما هي , فتجمعات العوائل قلّت , ولم تعد الموائد قابلة للاتساع مثلما كانت , فالأمور تغيّرت والجفاف وبعض الجفاء حلّ ببلداننا لأسباب من المؤلم أن أخوض في تفاصيلها هنا , فأنا ومنذ أن حطت قدماي في أرض الغربة , تعوّدتُ على وجع الذكرى وتقليب صفحات الماضي والنظر إلى وطني من نافذة القلب , لأراه في الحلّة التي رسمتها له الظروف الصعبة التي يعيشها , وبسبب ما حلّ به من ممارسات الطبقة الحاكمة التي جعلت منه مكاناً للمآسي والمعاناة والسوء , وعدم الإحساس بالمسؤولية الذي جعل دولة مثل العراق بقدراتها الهائلة , دولة فقيرة يعاني العديد من أبنائها فقرا مدقعا , يجعل قوت يومهم صعباً عسيرا , وفيه مرارة اللهاث وراءه بطرق في غاية الصعوبة ...
لا أريد في هذه المناسبة الكريمة , وفي الأيام التي مهما حصل , فهي تحمل نكهة خاصة , أن أقلّب أوراق الوجع , لأنها فعلا مؤلمة واخزة تشعرني بالأسى , ويكفيني ما أعيشه هنا بعيدة عن وطني وأهلي وأجواء الشهر الفضيل , التي تبقى متميزة في مجتمعاتنا حتى لو اختلفت عن الماضي الأصيل المتوهج بالقيم والعطاء , لكنني اردت من استطرادي في الحديث عن أمس شهر رمضان , وراهنه , لا للمقارنة , ولكن لترويح النفس وإعادة شحذ الذاكرة وأنا منهمكة في طقس العبادة الخاص بي , وأراني أعيش بمشاعري وأحاسيسي في الوطن الحبيب , وأنا أستحضر تفاصيل شهر الخير , متمنية داعية الباري عز وجل أن يعيده على الجميع بالخير واليُمن والبركات , وأن يعود العراق الغالي معافى سليما يجمع أبناءه تحت خيمته المباركة
|