الإثنين 2024/4/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
السماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
الوطنُ موجودٌ وصورته حيَّة في حنايا الضمير لـدى عبد الناصر الجوهري
الوطنُ موجودٌ وصورته حيَّة في حنايا الضمير لـدى عبد الناصر الجوهري
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

بقلم الدكتور : على محمد السيد

الجزء الثاني

 

 -  ومن خلال إهدائه يوقفنا الشاعر على أهمية الشِّعْر ، فالشِّعْرُ امتداد والشِّعْر ميلاد جديد . نرى أيضا نظرة مستقبلية في إهداء ديوانه لأولاده الذين هم امتداد الإنسان وميلاد جديد له  .

 -  ولفت نظري أيضا أسماء أولاده التي تجمع بين الخلود والجمال والسلامة والتدفق وهي سمات شِعْر عبد الناصر الجوهري .

    جاء العنوان على صورة الاستفهام ، وقد غلب الاستفهام على معظم قصائد هذا الديوان ، فقصائد الديوان ثمانٍ وعشرون قصيدة ، ورد الاستفهام في ثلاث وعشرين قصيدة ، تراوح بين الكثرة والندرة فقصيدة "نويت الرحيلَ غًدا " ورد بها الاستفهام ثماني مرات ، وقصيدة "ماذا الآن أسمِّيكِ؟ " ورد بها

الاستفهام ست مرَّات، وهناك قصائد ورد عنوانها في صورة استفهام ، وهي ثماني قصائد

وبدأ الشاعر قصيدتين باستفهام وهما " نويتُ الرحيلَ غدًا " حين قال : "حين تغْفلُ عينُ النَّدى ؛

هل سأُسْمعُ صوتي لــ سرْبِ المواجع ؛ إنْ شرَّدا ؟"،  و كذلك في " غدًا أُهيِّئ المُني " ، وكما  أنهما تشتركان في كلمة "غدًا " ، وأنهى الشاعر سبع قصائد بالاستفهام ، وهي " نويتُ الرحيل غدا" و "هل عاد سربُ اليمامات؟" ، و "لستُ ضد أحد " ، " ماذا حلَّ بــ جُرْنی؟" و " مقاطع من جروح العزف"     " ومضات (۳) " و "صرخةً قادمة من غرب المسيسيبي"

 -  والاستفهام من الأساليب الإنشائية التي تفيد المشاركة وإثارة الذهن والوجدان ، وفيه إشارة عبقرية من الشاعر - إن أحسن توظيفه - إذ يدفع المُتلقي  للتشويق، كما أن الاستفهام يعكس ما يمور به وجدان الشاعر من قلق وحيرة وشغف ؛لاجتذاب المُتلقى والزج به في أتون التجربة .

انظر إلى هذا الاستفهام في قصيدته التي يحمل الديوان عنوانها :

وصلتْني كلُّ رسائلكِ الولْهى

فبعثتُ شِغافي

مُدّي - بالله - أياديكِ

أتهجَّى لُغزَ أحاجيكِ

شجرُ الرُّمان..

تناثر في الطرقاتِ،

وظلِّي المفقودُ..

يجوبُ الآن  معانيكِ

ماذا الآن .. أُسمِّيكِ ؟                              الديوان ص ۲۲

یا لروعة هذا التعبير ، ويالروعة ختامه باستفهام يفتح الطريق لعشرات الإيحاءات الدالة والتفجّرات الكامنة .

-  كما نرى أن الشاعر استهل بعض القصائد باستفهام ؛ مستهدفا وضع المتلقى في قلب التجربة وعمق المعاناة منذ البداية ، يقول في قصيدته " غدًا أهيّئ المُنى "

أيُّ الحبيباتِ ... ستأتي ؟

تأخذ القلبَ وترحلْ

أو عن هُيامي قد تحنُّ

ذات يومٍ

أو ستسألْ

أو من كتاباتي الحبيسة ..

التي أودعتها شوقي

ستفتح الجوى

يومًا وتنهلْ ؟                           الديوان ص۱۷

ـ كما اختتم الشاعر بعض قصائده باستفهام ؛ لتنتهى القصيدة بذلك على الورق ، ولكن ليبقى عليها حية موارة مؤثرة في عقل المتلقى . يقول في مقطع (۱) من  قصيدة "مقاطع من جروح العزف"

أيُّ اللهجاتِ ..

ستُسْبی؛

لو عاد الإفرنجُ ..

إلى صحْن الأزهر ..

واقتادوا للمنفى العلماءْ ؟             الديوان ص ٤٤

 

ويقول أيضا في قصيدته "صرخة قادمة من غرب المسيسيبي":

يتوارثنا في التاريخ الأغبر أقوامٌ

تخترع الموت بلا خجلٍ للأوطانِ

قد منحوني الجنسية يا أعرابُ،

وصارت لمواطنتي حرمةُ إنسانِ

لكنْ هل يُعقل أن أصبح

من طائفةِ الأمريكانِ ؟            الديوان ص٦٢

. - ويلاحظ أن للاستفهام هنا طاقة كبيرة في فتح النص حواريا ودراميا . ويبدو أن شاعرنا مغرم بالاستفهام في شعره ، فإن له ديوانا آخر يحمل عنوان "لمن تهدرين شجوني ؟ " وله قصيدة من روائع الشعر العربي تحمل عنوان " أما حمل الحمام إليك ردا ؟!" التي نالت استحسان الكثير من المتلقين في شتى بقاع الوطن العربي .

 - كما يبدو أن شاعرنا مُغرمٌ أيضا بالطبيعة ، شأن الشعراء الرومانسيين ، فالديوان يرتكز على محورين

المحور الذاتي والمحور القومي :

 ويتشعَّب المحور الذاتي إلى عدة محاور، فنرى القصائد التي تعبر عن ذاته المأزومة ، وقصائد تعبر عن مدی اعتداده بنفسه ، وقصائد تبين موقفه من المرأة ، وقصائد أخرى تظهر لنا مدى تناغمه مع الطبيعة

وعشقه لها

فمن يقرأ قصائد "لم أتخذْ غير جُرحی خلیلا " و "لستُ ضَّ أحد " و "عصفورتي حرة " يرى فيها مدى عشق الشاعر للطبيعة وتناغمه معها ، وقد عبر عن ذلك في صور شعرية رائعة تجذب الذهن وتثير الخيال ، وإن كان النقاد قد تعوَّدوا أن يقولوا عن صورة شعرية معينة " إنها صورة مبتكرة " ، فإننا هنا نقول عن قصيدة الجوهري " لم أتخذ غير جرحي خليلا" إنها قصيدة مبتكرة ، بما فيها من تلاحم واندماج غير مسبوق يصل إلى درجة العراك مع الطبيعة ، بل يعلمها ماذا يجب أن تفعل ، ولأول مرة نرى الزهر الملكي "الليلك" في شعرنا العربي ، فأراد شاعرنا أن يبتكر حتى في إدخال كلمات لم يستعملها أحد قبله

يقول شاعرنا :

تعاركتُ والشَّمسُ يومًا

بقرب غدير ظليلْ

هنا بادلتني التدحرج..

فوق الجُسور،

وعضَّتْ ذراعي النحيلْ

وظلَّت تُسلِّط غلمانها

بالمرايا

لتزعج أعين همِّي وطيري الغريب،

وتخمش أوج النسيم العليلْ

هنا شاهد الليلكُ الجُرْح..

يتلو

مزامير حلم قتيلْ

فتنأی تباشيرُ إرثي ..

ينوحُ على الأفْق..

هام النخيلْ                الديوان ص ٢٤ ، ٢٥

- أما عن موقفه من المرأة فإن عبد الناصر الجوهرى لا يتذلل ولا يتصاغر أمام المرأة ، بل يحب في سمو وشموخ ، يريد من محبوبته أن تعرف قدره ومنزلته ، على طريقة أبي فراس الحمداني "ولكن مثلى لا يذاع له سرُّ " . ولكنه يفي لمحبوبته ، ويشهد الطبيعة على ذلك ، ويجعل لها من الأشعار بستانا ومنزلا .

ويعلن الجوهرى أنه يعشق " أفكار بكر" ويسمو بهذه الأفكار ، ويبلغ عشقه لها أعلى وأسمى منزلة ، وهذا يذكرنا بقصيدة "الشاعر وصورة الكمال " لعبد الرحمن شكري التي يقول فيها :

قد حدثوا عن شاعر نابغ             مجود الشعر شريف المقال

لم يعشـق الغـيد لكنـه                 هام ببكر من بنـات الخيال

والجوهري لا يبحث عن الجمال الجسدي ، لكنه يبحث عن الجمال الروحي ، الجمال المعنوي الذي يزين صاحبه ، فهو يحب بقلب شاعر نبيل ، إنه يبحث عن "ملهمة" ، إنه يبحث عن "ريحانة"

يقول شاعرنا في قصيدة " ماذا أبقى جرح هيامك ؟ "

إنى يا مسكينة. ..

كنتُ أفتِّشُ عن أفكارٍ بكْرٍ

تحشو أشعاري

أما أفخاخكِ أتركها خلفى تتفتَّتُ عريانةْ

أيتها الشَّيطانةْ

إنِّى عزَّافٌ للأقمار،

وكنتُ أفتِّشُ عن ريحانةْ          الديوان ص16

فإن شاعرنا الجوهرى يسمو بنفسه ويرتفع بها ،ويظهر هذا الاعتداد بالذات في قصائد "لن التفت ورائی ، "برأ الشِّعْرُ ساحی" ، "للنوارس القادمة" ، "أنتظر المدد" ، يقول شاعرنا في قصيدة "برأ الشِّعْرُ ساحي" :

قد أُغيَّب؛

لكنني في القصائد..

في أوَّل الصفِّ..

يوم السِّباقِ                        الديوان ص54

 

. ويقول في " أنتظر المدد"

عاشتْ مُعلَّقتي هنا .

عُمرًا خلُدْ

أنا لن أموت ..

على ركامٍ للهددْ             الديوان ص61

 

ثقة في شاعريته تذكرنا بثقة المتنبي في مقدرته الأدبية واعتزازه بذاته ، وإلى جانب هذا نجد قصيدتين تظهران شاعرنا مأزوما معانياً في قومه ، وهاتان القصيدتان هما "نويت الرحيل غدًا " " هل عاد سربُ اليمامات ؟ "

 

يقول شاعرنا :

اسْقِني

لا دعتْنى اللحونُ لأعراسها ذات يومٍ

ولا تركتني أعاودُ عشق الحكاياتْ

اسقني

 للقريحة .. ما للبلاد من العيش

حيث اللجوء لأخبيةٍ للفُتات

اسقني مرةً قبل أن يأتيَ الحلمُ ..

مُتكئًا في الغروب على شجوهِ

عِنْوةً .. يسْتردّ المتاهاتْ                     الديوان ص۹، ۱۱

 

كان هذا هو المحور الذاتي الذي ضم خمس عشرة قصيدة ، أما المحور القومي أو الوطني فقد ضم سبع قصائد ، أظهرت مدى حب هذا الشاعر لوطنه ، ووعيه بقضاياه ، ورغبته الشديدة في تقدمه . ويظهر هذا منذ الوهلة الأولى لمن يمسك بديوان الجوهري فقد جعل الشجرة الكبيرة التي تملأ الغلاف رمزا للوطن الكبير ، ويظهر أيضا مدى وعى هذا الشاعر بالتاريخ وعمله على استنهاض الوطن ، ويرى ذلك مهمة الشعر الأولى ، فمهمة الشِّعْر هي إنهاض النفوس إلى فعل شيء أو طلبه أو اعتقاده أو التخلي عن فعله أو طلبه أو اعتقاده .. على حد قول "حازم القرطاجني "

انظر إلى شاعرنا يرثى لحال التخبط والتيه وفقد الاتزان التي يعانيها الوطن ، ومن ثم يدعوه إلى اليقظة وأن ينفض عن نفسه غبار النوم ،يقول في قصيدة "ما جدوى النوم؟" :

وطنی

يمشى أثناءَ النَّومْ

وتختلط لديه اليقظةُ بالغفلة،

بغطيط الأوجاع،

ورائحة الثومْ

وطني يتجوَّلُ  دومًا في عُزلته

إني أعرفهُ

يغرق في بحر العولمة ..

ويخشي العومْ

...............

وطنی

استيقظْ يا وطنی

الهربُ مِنَ العتق ..

أضاع بقايا الحلمْ             الديوان ص 69 ، 70

 

في قصائده السبعة ـ التي تتناول المحور القومي - تناول شاعرنا قضية فلسطين ، وقضية التشرذم العربي ونبه إلى مكاند العدو الصهيوني وكشف ألاعيبه ؛ يقول شاعرنا :

فالذئبُ يحتل الذرا

يلتفُّ دومًا بالخدور

اليعربيةْ

وأشعل الأحقاد..

في كل المرابع ..

الفقيرة / الثريةْ

...............

فالذئبُ خرَّب ماءنا

أجراننا

زیتوننا

أحلامنا

ونومنا قرب المعابر الذكيَّةْ

والآن يرفع رايةً بيضاءَ ؛

کي يغتال وقع الانتماء بيننا

ويحتمي بالعالميَّةْ.                الديوان ص۷۹ ، ۸۰ ، ۸۱

 

وفي القصيدة الأخيرة من الديوان يتناول الهم القومي بطريقة رائعة ، مازجا بين الماضي والحاضر ، متنقلا بين الجغرافيا والتاريخ ، بين زمن العز وزمن الذل ، مركزا في الوقت ذاته على ضياع الهوية العربية ، مكررا لعبارة في غاية الجمال والإيحاء وهي عبارة " أنكرني البناؤون" التي كررها ثماني مرات . وهذه القصيدة "مشغول قلب بلادي" هي أطول قصيدة في الديوان - عشر صفحات ـ وكان الشاعر يريد أن يقول لنا أن همه الأول والأخير هو الوطن ، وأن نبع الشعر لديه ما زال متدفقا قويا ، يستطيع أن يصمد ويثبت

يقول شاعرنا :

أنكرني البناؤون..

وردهةُ داري منذ قرونٍ

لم تسْتقبلْ أحدًا من حفظة آياتي

لم تأتِ إليها أفراسُ فتوحاتي

لم تسمعْ أناتي

ماذا حلَّ بإرثى ،

بالردهاتِ ؟

......

حتى بئرى المملوء إباءْ

يتحصن في بارجة الأعداءْ

يرفع علمًا للحلفاءْ

يُخرج من كتفى الزاد .. ويخرج من كتفى الآخر ماءْ

للغُرباءْ                                                               الديوان ص95 ، 96

والمتأمل في الصورة الشعرية عند "الجوهري" يرى شاعرنا خصب الخيال, صاحب صورة مبتكرة .

ولاشك إن الشعر خيال ، أو كما قال الرافعي "إن الخيال روح الشعر " ، فالصورة الشعرية مرتبطة بتجربة الشاعر ارتباطا وثيقا ، حيث تأتى الصورة ؛ لتجسد فكرة أو عاطفة فهي قوية الصلة بالمشاعر التي تسيطر على القصيدة ، وهي جزء منها يتآزر مع بقية الأجزاء الأخرى لتنقل لنا تجربة شعرية كاملة

ومن يقرأ ديوان " ماذا الآن أسُمِّيكِ ؟" يجده حافلا بالصور الشعرية الخصبة والصور الشعرية المبتكرة ، اذكر منها - مثلا ـ تلك الصورة الخيالية الرائعة.

كأني أخاف النزوح إليكِ بلادي

إذا ما المرايا

أضلَّتْ شعاع اليقين الهزيلْ            الديوان ص ۲۷

ويقول :

ما عدت أحاول ..

حتى الجرى

وليس لدى المقدرةْ

صارت قدمای

مُحمَّلةً بالذُّعر ..

وكان الذعرُ القاطرة .                  الديوان ص۳۳

ويقول في "مقاطع من جروح العزف " :

والآن إذا طُعنتْ في الليل ..

مُعلَّقةٌ

تركوها تنزفُ

غارقة في بحر دماءْ                    الديوان ص44

وانظر إلى هذه الصورة المبتكرة :

وغذا

حين تشب بمرج الشِّعْر .

ظبائی

سأزوج أحلامي للمجد القادم ..

من أرض القدماءْ

سأهيِّيءُ أعشابي

أن تفتح أذرعها

حين تعود

خيولُ الشرفاءْ                الديوان ص50

 

أما قصيدته الرائعة "هل عاد سرب اليمامات ؟ " فهي غنية بالصور الخيالية حيث نرى أن كل سطر من هذه القصيدة به خيال سواء أكان بسيطا أم مركبا أم مبتكرا

أما عن الألفاظ عند الشاعر فهي الفاظ موحية مؤثرة قوية ، أجاد الشاعر توظيفها، ومن يقرأ دواوين شاعرنا يدرك أن لديه ثروة لغوية عظيمة ، وأنه من الشعراء الذين يحسنون اختيار الألفاظ ويفجرون طاقاتها ، وكل ذلك يصدر عن ذات شاعرة ووجدان عميق ، فقد استخدم الجوهري ألفاظ ذات دلالات شعورية ونفسية خاصة ، قادرة على تصوير إحساس الشاعر وعلى التأثير في نفس المتلقى .

انظر إلى قول الشاعر في القصيدة المهداة للشاعر "محمود درويش" وكيف وظف الألفاظ وفجر طاقاتها:

البيت ظل كحالنا

پرتاب عزفًا في الشتاتْ

ضلَّت حروفي الغامضاتْ

ضلت كأجنحة العصافير المهيضة. .

تصرخ الزيتون

تصرخ للفلاة

والآن .. من يرثي البروقَ..

على مصبِّ النهر من ؟

والبندقيةُ فوقها بصمات غلٍّ للحُداةْ

اليوم يضحكُ عزفكِ المغروس

في قلب الحياةْ

واليوم يضحكُ في وجوه البارجات ..

العادياتْ

واليوم تكشف كل أقنعة الجُناةْ                الديوان ص48 ، ٤٩

 

المشـاهدات 69   تاريخ الإضافـة 11/03/2024   رقم المحتوى 41581
أضف تقييـم