الأحد 2024/4/28 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
دائرة التوابل لصالحة عبيد.. الأنف الأنثوي في مواجهة سطوة الذاكرة
دائرة التوابل لصالحة عبيد.. الأنف الأنثوي في مواجهة سطوة الذاكرة
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

بقلم: وفاء بونيف

(أحد المبادئ الأنثرلوبجية للرائحة هي أن تمنح نفسها ككاشف لطوية ما، وهي حقيقة جوهرية لا يخفيها شئ، الشم هو في الٱن نفسه حاسة الاتصال والمسافة، فهو يغمس الفرد في وضعية شمية من غير أن يترك له الخيار بإغرائه أو استجذابه،غير أنّه أحيانا الإبعاد والرغبة في الإبتعاد بسرعة من مكان يهيمن الأنف فيه.الرائحة لا تترك أحدا في اللامبالاة فهي إن انطبعت على جو ما، فإنّها تساهم بشكل مؤلم في الإحساس بالتلوث أو تدهور حال موقع ما.) دافيد لوبروطون...

ترسم رواية دائرة التوابل دائرة كبيرة بدايتها في العصر العباسي مع "فاطمة بن ثابت" ونهايتها عند "شيريهان" في دبي القرن الواحد والعشرين؛ ولأنّ الدائرة تمثل عددا محدودا  من النقاط فكان أبرز نقاطها حكاية" شمّا" في عشرينيات القرن العشرين، أما نقطة المركز الّتي جمعت هؤلاء النسوة هي حاسة الشم الخارقة، الّتي رسمت لهن طريقا ظاهرها الخلاص وباطنها من قبلها الأسى..

تتقاطع حكايا النسوة الثلاث في الذاكرة، فكانت شيريهان ترى في منامها رأس "عبد الله بن المعتز "الخليفة العباسي المقتول الّذي حرّرت جسده "فاطمة بنت ثابت" في النهر بوصية منه في منامها، أما "شمّا" الّتي لاحقتها رؤيا الرؤوس المدفونة، فقد شهدت زمن الجذام الّذي راح ضحيته ذو الرأس الضخم، والكثير من أهلها ؛ولأنّ إعادة خلقهم أمر مستحيل، فقد كان ترميم أجسادهم بالطين أمر مستحب لنفسها. استعانت النسوة الثلاث بأنوفهن في بناء علاقتهن وكنّ تخترن الشركاء وفق لدمغة الجسد الّتي تحددها الرائحة. عاشت فاطمة امرأة حرة ولكن قلبها اختار العبد" نجوان"؛ الّذي كان يرى أنّ استعباد النفس أكبر من استعباد الجسد، وبما أنّه حر النفس فهو حر الجسد أيضا. انتهت قصتها بميثاق شهده التاريخ بعد أن تحرر العبد. أما عن شما فقد مثلت لأهلها في بداية حياتها اللاحدث واللامعنى؛ كونها أنثى بأنف أفطس ولكن سرعان ما قلب الأنف معادلة القوى لصالح أنثى في زمن لا يعترف إلّا بالبطولات الرجالية، تحررها من قيود المجتمع الّذي منحها فرصة الاكتشاف جمعها بذي الرأس الضخم، ولكن غياب الدمغة الخاصة به أحالها إلى حالة من التردد واللامبالاة، وهكذا ولأنّ ( العرج دساس) فقد ورثت شيريهان عن شمّا حاستها وأنفها وفقدانها للإحساس برجل اختارها ولكنّها لم تحس به؛ لأنّها ببساطة لم تستطع شمه.

تقول العرب:( أشم فيك رائحة الخيانة)؛ أعادت صالحة العبيد بعروبتها الأنف في مقدمة الحواس الّتي أهملها الكثير، واعتبرته خاصية أنثوية بامتياز، فكأنّما أرادت الانتصار للمرأة بطريقة خاصة؛ فجعلت من المرأة أسطورة حقيقية تتحرر بعقلها؛ فتكون باحثة عن ماهية الموت(لعب شيريهان عند المقبرة ورغبتها في دخولها)،وعن حقيقة الوجود (تشبيه شمّا رائحة عطونة السمك برائحة جارتهم المتوفاة)، وتكون بالاضافة إلى كونها تتحسس رائحة أطفالها وتدفعهم للمجتمع بفكر قويم، مساهِمة في سدّ الثغرات الّتي تتركها الرجولة المفرطة.

رواية كتبت بأسلوب بديع؛عبارات فخمة، ولغة شاعرية قوية ومكثفة، تضع القارئ في مواجهة مباشرة مع النص؛فالرواية فيها الكثير من القفلات تتفتح على العديد من التأويلات فمثلا:( عندما رأت شيريهان ابن المعتز يخبرها أنّ االسرّ في الأنف الأفطس فإن غاب استقامت الحياة ) قامت بجدع أنف ابنتها؛ تأويلي لهكذا حدث: أنّه بغياب الأنف تغيب الذاكرة وبغياب الذاكرة ينتهي الإنسان. وبما أنّ كثرة التأويلات تزيد قيمة النص ويلتزم قارئه بالصبر لصعوبة القبض على المعنى؛ فقد كنت أراني كمن يسّير في صحراء شاسعة كلما وصلت لمعنى معين اندثر وصار سرابا. وهذا  ماكان ليؤرقني أبدا، بل إنّ قوة العمل جعلته جديرا بالبحث بين خبايا سطوره لأكثر من مرة.

لم تختزل الكاتبة الإماراتية الأدوار، بل أعادت ترتيب الأولويات بطريقة تشبهنا، تشبه عروبتنا، وساهمت في إعلاء فلسفة الحواس وفق ما تقتضيه متطلبات مجتمعاتنا العربية ،الّتي باتت تستنسخ عن الغرب كل شئ فأصبحنا كمن أحال حواسه على التقاعد وأضحى يشم بأنف غيره.

عمل برؤية جديدة، لا تترك مجالا للشّك أنّ المرأة الخليجية تصنع أمجاد بيئتها بقلبها المفعم برائحة العروبة.

المشـاهدات 162   تاريخ الإضافـة 16/03/2024   رقم المحتوى 41900
أضف تقييـم