كريم جبار الناصري

تأخذنا رواية في الطريق أليك للكاتب أستاذ أحمد خلف إلى عدة ثيم ومواضيع شتى من خلال شخصيتها الرئيسة ( سعيد )  الصحفي والموظف بالأجرة  وعلى الملاك الدائم فيما بعد  والذي طلب أحالته على التقاعد .. " الذي لم يكن راضيا في العهد الذي أصبح من  الماضي ، ولا في العهد الذي أصبح حاضرا الذي أطلق عليه عهد الديمقراطية الكسيحة .. ص 8 " وعلاقته مع المدير الجديد الغير متصالحة ، وقبل عمله الصحافي كان مغامرا قبل أن يتحدد مستقبله في الغد .." اتبع الخطوة الأولى في مغامرة البيع والشراء ، نزل إلى السوق وهو لا يعرف أي شيء ، لم تخطر الصحافة والعمل بها على باله من قبل ... ص 21 "   ..وكعادة  البطل سعيد اليومية الجلوس بمكتبه في صالة البيت  للشروع في القراءة والكتابة وبرغم وجود الزوجة ومحاورتها له عن بعض الأمور عن ماذا يفعل أو احتساء الشاي  وجلب عشاؤه الخفيف وإغفائها بقربه  لكن هذا لا يؤثر عليه فهو يفكر بكتابة رواية ..

فيأتي الاستدعاء من خلال ورقة التقطها .. " التقطت يداه ورقة قديمة ، هي رسالة لم يتأكد من مصدرها بعد ، إن قلبها على الوجه الأخر التي كتبها وقرأ كلاما أدهشه (( بأي سحر تكتب ؟ وبأي لغة وبأي مجاز ؟ وبأي فنتازيا ؟ ... ص12)) .. إذا  كيف يكتبها فلديه المراجع  والمصادر والرسائل والمذكرات اليومية وحتى القصاصات دونها في وقت ما واحتفظ بها وهنا يحلينا الكاتب إلى إحدى وسائل الكتابة ، إضافة إلى الأحداث الواقعية والمخيلة لديه .. يطرح لنا عدة ثيم ومنها تنطلق الموضوعات والأفكار ،  وان صدق قولنا فمن الثيم  هاجس كتابة رواية وصيغتها والعلاقات الاجتماعية والغرامية  وعن الملوك الجبابرة والطغاة  والخيانة  والوضع السياسي والاجتماعي قبل وبعد الاحتلال الأمريكي  والتجريب في الكتابة كما في الهامش الأخير الذي عني به المتلقي تحت عنوان ( هامش يخص القارئ  )  .." يقترح مؤلف الرواية على قارئها ، أن يختار نهاية ملائمة له ، شرط أن لا تخرج عن السياق الكلي للرواية التي اعتمدت أكثر من شخصية واحدة ، ويرى هذا امتثالا لمفهوم الديمقراطية ... ص 210  " فهنا أسلوب تجريبي للكاتب يريد مشاركة المتلقي بوضع لمساته حسب وعيه وتلقيه للراوية..

وهكذا تمر الثيم  ليخرج لنا برواية .. " كان همه الوحيد والذي قض مضجعه تلك الليلة . التي رسم خلالها خطته الحاسمة لكتابة رواية يعدها مشروع حياته ....ص19 "   سماه الكاتب على لسان سعيد : " ...يسميه بالعمل على توفر الحرية في النص . رواية أو سيرة أو كتاب يجمع الجميع ...ص 19 " " لقد خلقني الله لكي اكتب نواميس تمس حياة الناس ...ص 20 "  فهناك أصوات تلاحقه أصوات موسيقى تدهشه ومن خلالها .. " يسمع صوتا متناغما رخيا يقول  له هامسا :   في الطريق إليك ، ها أنا في الطريق إليك لا تتعجل في إصدار الحكم علي . كان الصوت الناعم المنبعث من المجهول يرغمه على السؤال : من هو في الطريق ألي أنا المنسي والمهمل الذي يحاول أن يذكر الآخرين بنفسه انه حي يرزق  ص20 "

         قد نقول إذا هي الرواية أو المدونة التي جاءت أليه ..

من خلال كتابة الرواية بعد الاستذكار والتداعي للأحداث ومن خلال ما موجود من    حكايات في المراجع لديه ،كتب وبأسلوب الميتا سرد كما يؤكد الناقد فاضل ثامر (" وتشغل اللعبة الميتا سردية مكانة متميزة في البنية الروائية ، بدءا من عنوان الرواية ( في الطريق إليك ) الذي هو صدى لصوت يتناغم رخيا يخاطبه مباشرة"  ( مقال نقدي للأستاذ فاضل ثامر  نشر في صحيفة الشرق الأوسط)  إضافة إلى أسلوب الواقعي والتخيلي . ..

فتنطلق الرواية من خلال  لحظات الاستذكار لصاحبة الورقة ناهد وأمها التي تقع في شباكه  ..  وموضوع ناهد الشابة المعجبة بكتابات سعيد والمغرمة به لكن فارق الزمن لم يستعد سعيد للعلاقة معها  لكن من خلال هذا الموضوع يطرح لنا الكاتب رؤيته عن الكتابة وصنعة الكتابة ومن خلال طرحه قصته (بئر الآبار ) ونقاش ناهد  ( " - هل قصة علي وأسرته هي التي كانت للتوظيف في الجريدة ؟ - كلا القصة لتي تقصدينها اسمها ( بئر الآبار ) وهي مزيج من فنتازيا وواقع مرير وصعب ..ص83 ) ..- أتراها من أدب اللامعقول قصتك هذه ؟ ... – يمكنك أن تقولي عنها ما تشائين من أوصاف . أنا لا أسجل الواقع كما هو أنما كما أراه أو أظنه . جاء هكذا وينبغي أن يكون بصيغة مختلفة وإذا أنت كتبت الواقعة اليومية أو سواها من الأحداث . كأنك لم تفعلي أي شيء ياعزيزتي حتى الواقع يرفض تقليده . إذا كيف الحال مع فن كتابة القصص وأي قصص ؟ أنها مزودة بعبارة قوية لا تتزحزح من مكانها قط : - قصص حديثة  - ها أنا أتعلم درسا في كتابة القصة الحديثة ؟ ...لكن الكتابة لا تخضع لكل القوانين .وكذلك القصة والرواية لا يخضعان إلى قوانين صارمة ..ص 91"  .. وقبل هذا وضح الكاتب كيف يخطط للكتابة في نقاش مع ناهد بقوله   "..عندما تريدين كتابة قصة فعليك أتباع الخطوات التالية : التخطيط وقرار الكتابة ثم الشروع بالعمل وأخيرا العنوان والمراجع 72ص " ورؤية الكاتب عن الكتابة تنطلق من طرحه في متن الرواية (ص5 ) حيث يقول في بعض منها  : " الكتابة لازمة شخصية معقدة ومتشابكة من عناصرها الخاصة وهي بالتأكيد ليست محاولة لتصفية النفس وتنقيتها من شوائب الماضي كما يعتقد البعض ، الكتابة كما أراها هي حفظ توازن مفقود ، بل أجد التوازن الضعيف والمهلل ، ليس هو الكتابة ..."    فهنا دروس يطرها لنا الكاتب عن رؤية الكتابة وصناعتها عل المتلقي والكاتب المبتدئ يستفاد منها وحتى الممارسين في الكاتبة رغم لكل وجهة نظره ورؤيته في الكتابة ..

  يشرع ( سعيد ) بالكتابة بعد إن وجد في حكاية الملكة زبرجد وخادمها عبد الواحد أمرا محببا إلى  نفسه وموضوعا شيقا ..ص 37 " فتستدعيه الكتابة  بثيمة عن الطغاة والجبابرة والحب والخيانة في هذه الحكاية  المستوحاة من أساطير ألف ليلة ولية  وكما في الأحداث  لهذه الثيمة نجد الملك الجبار وزوجته زبرجد  والتي هملها فتقوم بعلاقة مع الخادم ومن ثم  قتلها على يد  أزلام الملك الجبار  بأمر منه . وتشوقنا أحداثها والدخول في موضوع  الايروسية – التلذذ الجنسي والانصهار وقوة الجذب والرغبة التي يشعر بها الشريكان  في لحظة النشوة والذروة - خاصة في لقاء الملكة والخادم عبد الواحد حين تفتن  به الملكة وتدعوه إلى مخدعها " ...لكنها أشارت بيدها الجميلة عليه أن اتبعني أيها العبد ...ص48 " " – أريدك أن تأتي إلى غرفتي بعد صلاة العشاء ... أردفت لما أعجبها جسده القوي : ستسهر على راحتنا  - أمر مولاتي الملكة ..ص49 " "...عندئذ رفعت ساقها الناعم إلى أعلى حتى بان كنز الكنوز أمام عينيه ، سألته بصوت أتعبته الرغبة في المواقعة معه : - ما ذا ترى يا عبد الواحد ؟ ...أرى عصافير الجنة تنطلق في هواء عليل وحديقة غناء وأصوات مرح وغناء . تنادي تعالوا نلعب تعالوا نتسلى ، أرى فاكهة محرمة وارى فرحا أتمنى لو المسه الآن .ص68 " ...- لتمدد يدك أليه وتتلمسه برفق انه شديد الولع والتدلل ...ص 68 "   فهنا لا تغيب عن الكاتب كل شاردة وواردة وخاصة في لقاءات العشاق وحميميتها فمن باب هنا الملكة أفرغت شهوتها ولذتها في هذا العبد بينما الملك له ملذاته ورحلاته في الصيد وغيرها ، ومن باب هنا وردت الخيانة الزوجية بالنسبة للملك وحين عرف بأمر الملكة قضى على العبد والملكة وتستمر حياة الملك الجبار في زواجه من رباب بنت وزيره هذه الشابة الجميلة التي أمتع  بجملها الأخاذ وهنا ندخل ثانية في الايروس بين الملك وزوجته رباب ( ص 152 ) لكن الشابة خيبت آمالها في فكرة القضاء على الملك بعد إن تقربت إلى احد الخدم وكذلك قضى عليها . فهذه هي حياة الجبابرة ونساؤهم غدر وخيانة وملذات..

ثيمة أخرى عن الطغاة وتقييد حرية الأخر في الرواية في حكاية ادم  ( حاكم محمد حسن ) صديق سعيد وكيف عانى من ويلات النظام الدكتاتوري في هروبه من الخدمة العسكرية أثناء حرب الثمانين  والذي  اعدم من قبل النظام حاله حال من يهرب من الخدمة العسكرية آنذاك برغم  محاولة  مساعدته من قبل صديقه سعيد ..

 استذكار  ومشاهدات كما قلنا كثيرة وتوثيقية لأشخاص عاشوا واقع حياتي مع ادم وعلى ذكر أسماؤهم عقيل علي وشوقي وغيرهم   وذكر انتفاضة الفرات الأوسط 2020   وكذلك تواريخ الشروع بالمدونة 11 / 2 / 2021 والمضمون الرئيس هي مدونة توثيقية ما بعد الاحتلال الأمريكي  وما فعلته السلطات الحاكمة وجماعاتها تحت مسميات شتى في ممارساتها البطش والقتل وغيره ضد أبناء الشعب .

والجميل هناك تناصات توثيقية وشفوية متداولة أغنت الرواية من خلال الموضوع التي طرحته  ومنها :

(" ابسط الشمع فوق ألواح الكتابة المساء

قبل أن تخط عليها

ودع كتابك يكشف عن نواياك

يحمل نبض وجدانك وانبهارك بمفاتنها ،

كي تستميلها

وأضف ضراعات الحب عربونا ) ص 19

( اوفيد – فن الهوى – ث:د ثروت عكاشة دار الشروق ص85

  وكذلك الأمثال والأقوال ومنها ( كل غد آت قريب ) ( صوموا تصحوا ) ( اليوم خمر وغدا أمر ) ( براءة الذئب من دم ابن يعقوب ) ( العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم ) ( تأتي الرياح عكس ما تشتهي السفن) ( ما طار طير إلا وقع )

أخيرا نحن أمام رواية تجريبية لا تخضع لنظام صارم ادخل فيها الكاتب .. الكثير الكثير من  المواضيع وبسرد سلس وجمالية اللغة  والانتقال من حدث إلى  أخر دون أن يشعر الملتقي بالملل لكن يعي ما يدور في الرواية من بداية المتن من خلال سعيد وزوجته وشروعه بالكتابة وتداعيه واستذكاره الأحداث والشخصيات التي عايشها أو قرأ عنها وكتب عنها حسب ما يراه وقاعا وخيالا..وهذا المنجز إضافة إبداعية لمنجز الكاتب القدير الأستاذ أحمد خلف ..