السبت 2024/5/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 29.95 مئويـة
رؤى المسكوت عنه
رؤى المسكوت عنه
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

جاسم عاصي

المسكوت عنه أو المضمر أو قل المحجوب بخط أحمر ، ظاهرة في كل الممارسات الإنسانية ، ترّحلت إلى الأدب واتخذت لها أسساً معيّنة. فنحن من نسميها ونفعلها آنى وكيّف ما شئنا ، ونعالجها بأي الطُرق والأساليب . لكننا لا نواجه ذلك بشكل مباشر . إذ من الصعب القوّل للمنحرف أنت هكذا  ، ولا السارق هذه صفتك . ذلك لأننا نتعامل مع ظواهر امتزجت فيها أشكال الممنوعات والمحذورات . بمعنى غيّاب المناخ الحواري ، وإن بدا للظاهر كونه ظاهرة جديدة مصانة ومقبولة ومشاعة نوعاً ما  . فهو توّفر زائف ، يقابله فعل التصفية والمحو بما يلائم المجموعات المستجدة في الواقع ، فالخواء الفكري يوّلد العنف . لذا لا نجد سوى القلة من الذين يمتهنون الكتابة يعملون على تعرية المسكوت عنه وفئة أخرى تستخدم ممكنات التورية للتعبير عنه . وهم بطبيعة الحال الأكثر صلة بفن السرد . فثمة أدب يحتمي بالرموز والشواهد التاريخية ، وآخر يغريه المناخ ، فيتخذ من عمله مساحة من التعبير عن سخطه هذا . لكن الحذر يتنامى بين تضاعيف الكتابة . فالبعض يقوله بطريقة غير مكشوفة ، مستخدماً كل أساليب التورية ، معتمداً معارفه ، سواء في التاريخ أو الأساطير والحكايات ، ولنا في كتاب الليالي طروحات جريئة ، بمواجهة المسكوت عنه آنذاك. ولعل تبني الحكي والروي عند( شهرزاد) واحد من مهمات تفعيل السرد عبر صوت الاحتجاج من لدن الذات الأنثوية بوجه الذات الذكورية . وهي مهمة ليست سهلة ، إذا قيست بطبيعة الزمن آنذاك ، وما يحيطه من بؤر تسلط ، مركزها السلطة الذكورية . فقد كسر صوت الأنوثة جبروت الذكورة الذي عمم الخيانة وأقطها فقط على الأنثى ، وغفِل عن خيانة الرجل وممارساته الجنسية المبررة بالعُرف الاجتماعي والديني ، ولم ينظر إلى عهر الذات الذكورية ، فكانت الحكايات صوت احتجاج على ظاهرة السلطة البطرياركية . ولنا أيضاً في الأدب الوجودي على سبيل المثال أنموجاً لذلك ، كما هي عند ( كوان ولسون) في رواية( ضياع في سوهو) فهي الوجه المعكوس للمنظومة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل كتابات( محمد شكري) المبكرة في ( الخبز الحافي) تقف بالضد من حركة المجتمع ، فعملت على تعريته . وفي أدبنا العراقي ، نجد أن الكاتب( عبد الستار ناصر) واحد ممن تعاملوا مع الواقع بجرأة كبيرة وفق مقياس الزمان والمكان ، خاصة في ( الطاطران) على سبيل المثال . هذه عيّنات لا تتطلب الخوض في تفاصيلها ، فالكاتب العراقي الشاب( شهيد) قد تخطى لا فته المحذور منه ، ليعبر السياج كي يكون وسط البناء الذي شيّدته ذات مكونة من رواسب الأزمنة ، خالقة أيقوناتها المتحكمة في الوجود ،دون النظر إلى الذات ونقدها . كان ذلك عبر روايتين هما( كش وطن) و( سارق العمامة) فالأولى استطاعت أن تتداول الأشياء من الظواهر بروية وصلابة كشف وهتك حجاب المستور ، من خلال نقد الواقع ،معتمدة على جلد الذات الخطاءة من وجهة نظر المجتمع ، والمتشبثة بحراك المهنة من قبل السارد . بمعنى عمد المؤلف على زج أنموذجه في أصعب المسكوت عنه  ، وهي مهنة البغاء ومركز صفتها ( القوّادة) من قوّاد أي من يمتهن وظيفة البغاء العلني أو السري ، فقد مثّل النص صوت التعرية للذات المحاطة بمناخ اجتماعي يخفي عيوبه ، وبُسقطها على الذات الأخرى ، القدوة هنا متمثل في العفة والطهارة ، وخلفيته الدنس والفواحش.. بينما يحاول في الثانية ، الدخول إلى معبر فكري آخر ، وعكس ممارسات اجتماعية متخفية وراء مسميات . بل أنها الصفحات المخفية من كتاب الواقع ، الذي ظاهره ساطع وباطنه منطفئ ، فيه علل صادمة ومميتة . وهو ما نطلق عليه البنى التحتية للواقع . فنحن إزاء ظواهر تنتجها الخطابات الأخرى سواء كانت منفردة أو مجتمعة في مؤسسات ، غرض الكاتب هنا  تسفيه الظواهر . متأثراً  كما أشار بنموذجه الذي ذكره في هامش نهاية الرواية وكما ربطنا سياق النص بما كتبه ( الجبران). بل يمكننا القول أنه اعتبر مقولات وطروحات الكاتب العراقي( عبد الرزاق الجبران) دليلاً له في مساره الفكري الذي يُعري الواقع ويُظهره على أنه منحرف عبر تقديم الذات كنموذج   ( من المؤكد بأنهم يفكرون بهذه الطريقة ، لأنهم لم يقرأوا ( مبغى المعبد )ولا (لصوص الله) ولم يسبق لأحد منهم أن تصفح ( جمهورية النبي ) والذي يذكره في مستهل الرواية الأولى بعبارة ( أبشر يا عبد الرزاق الجبران لقد أصبحتُ قوّاداً ) وكأنه استجاب لطروحاته بشكل غير مباشر .وينهي النص بعبارة(أنت يا عبد الرزاق الجبران من يلف حبل المشنقة على رقبتي ) وهذا تأكيد على جريمة الجبران في ايصاله إلى حبل المشنقة ، بسبب التراكم المعرفي المستنبط من كتاباته .هذا الصوت فيه احتجاج واضح ، فهو يموه العلاقة عبر الخلط بين رؤى الكاتب ورؤى أنموذجه . ( شهيد) روائي استطاع ببراعة أن يتلبس قفطان أنموذجه . وأعتقد إن هذا التماهي ، هو من يخلق اشكالية قراءة نصوصه على المدى البعيد. ذلك لأنها صادمة لذائقة التلقي أولاً ، كذلك صارخة بالحقيقة التي تواجه من قبل المتلقي بما يُطلق عليه المحذورات . لاسيّما كوننا نعيش في مجتمع تتخلله علاقات وبنى تتخلى عن صوتها الحقيقي ولا تعمل على بلورته وصياغته في مواجهة الظواهر ، وتعمل على تغطية السلبيات بمنطق النفاق والتخلي عن الموقف الأخلاقي والمبدئي ، سواء الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي . وهي علّة تتعلق في فهمنا الخاطئ للديمقراطية ، أو الحوار الذاتي والموضوعي، فنحن إما نصمت ، أو نتمادى في اعلاء الصوت بما لا يتناسب مع جدلية الحوار والتخاطب .

القناع وصيرورة السارد /

الكاتب مولع باستحضار المتقابلات ،آ كما فعل في أنموذجه المعرفي( الجبران) في مستّل الرواية وجملتها التي قفلت حراكها .كما أنه وضع وجهاً آخر لمثل هذه المتقابلات التي تحمل المفارقات في جملة تشكلاتها، كما في شخص( أبو نظمي) الصوت الذي وقف حاجزاً إزاء  تلبية  رغبات أنموذجه الجنسية في زمن سابق ، حيث دخل بيت الدعارة أول مرة للمتعة ، دون أن يملك نقوداً ، وبين( أبو نظمي) أثناء تنفيذ حكم الاعدام ( أبو نظمي ذلك الحقير ، الذي أهانني مرتين وفي مراحل زمنية متباعدة ، أتصوره الآن بوجهين ؛ كل وجه يناسب مرحلة زمنية معينة واهانة معينة ) ص16 وداخل المبغى . ( ها هو يظهر من جديد  ولكن هذه المرة (بلحية طويلة وجبهة موشومة بعلامة داكنة . أبو نظمي يتلو عليّ ارشادات دينية ويسألني إن كانت لديّ وصية أخيرة ) فقد ظهر كرجل دين يُلقن الذي سيعدم إشارات الموّت الكهنوتية .

إن قناع السارد قد احتكم لصيرورة فكرية ، كان قد استمدها من فراءات متعددة ، ومن تجارب له ولغيّره ، لا نوّد الخوض فيها . ونلخص استنتاجنا ، على أنها مؤثرات بنيوية على صعيد الفكر أولاً ، وعلى صعيد الممارسة الفعلية ثانياً . إننا بإزاء احتكام فكرة القناع وقدرة صاحبه على تقديم تداعياته التي قد تنمي فينا اللعنة ، غير أنها في المحصلة النهائية ، أي القراءة العادلة ؛ إنها ونقصد الممارسات ( العاهرة) لم تكن إلا نوع من تقديم المسكوت عنه بروية سردية ، وقدرة على خلق اللعنة هذه ، والتي هي ناتج التابوات الاجتماعية والدينية ليس إلا . والسؤال الذي يتطلب الطرح هو ؛ من  يجرأ على كشف المستور في الكشف عن حياة هذا النموذج؟ وقد يكون الجواب مقتصراً ومحاطاً بالحذر في كتابات( حسين مردان) وبعض مما تطرق إليه( غائب طعمة فرمان) ثم ( عبد الجليل الميّاح) في روايته المبكرة ( جواد السُحب الداكنة) حيث كانت بطلته هاربة من واقعها الريفي خوفاً من غسل العار، ومنزوية في معمعة (شارع بشار) في البصرة القديمة ، حيث حيّ البغاء المعروف ، كما هو في جزء من منطقة ( الميدان) في بغداد . المهم أن الكاتب( شهيد) استطاع أن يوفر للقناع أساليب ممكنة ، وممكنات مستحقة من أجل تحقيق معادل موضوعي ، قابله معادل فني للنص ، وفي مركزها اللعب في الزمان والمكان ، وتداخلهما على نحو فني ، غير مربك لأبجدية النص بشكله العام .

 

المكان والزمان /

تعامل المؤلف مع الزمان بتعادل بعيداً عن ظاهرة التأثير النفسي وعكسه كحالة من التوتر في السرد ، فالزمان يتراوح بين القديم ، وبين ظِلاله الممتدة إلى الحاضر كناتج له أبعاده الأخرى الممتدة والمؤثرة عبر الأزمنة .  وما اختياره لبيت الدعارة ، سوى   تحقيق معادلة مفقودة أسسه الواقعية الجارية في المجتمع . فقد مر النموذج بتجارب كان خلاصتها أن يكون مكانه الأخير في المبغى ، متأثراً كما ذكر بأفكار( الجبران) . كما وأنه حين أكد على أن المكان له خصائص إنسانية بقوله( المبغى هنا مركز لاستقطاب الضعفاء . مكان لإفراغ العُقد وإعادة ما انهدّم من الذوات المحطمة ) إنما يحاول استعادة موازنة طرفيّ المعادلة ، التي وجد نفسه داخلها ، مرغماً أو على رغبة ذاتية . المهم إنها استجابة للضرورة القصوى في الوجود ، وبالتالي تنتظم ضمن معالجة الظواهر السلبية والايجابية ، سواء من وجهة نظر الفرد أو المجتمع . كما وأن ما حصل كان للتأكيد على صحة ممارسته ، حين التقى صديق له يدخل في بيت البغاء ، تلبية لحاجة جنسية. ويجري معه حواراً يكشف عن النزعة المقنعة ذاتياً بصلاحية المكان كالآتي :

{ ــ نعم فقد غادرت الوطن منذ عشرين سنة ، كنت مضطراً لذلك . ذهبت إلى المنافي وتركت خلفي وطناً يصرخ ، نعم كان يصرخ بصوت عال ، ولكني لم أفهم ما كان يقوله .

ــ ولماذا رجعت ؟

ــ رجعت لأنني تركت أشياء عديدة وجئت للبحث عنها .

ــ وهل وجدتها ؟

ــ بحثت عنها في كل الأماكن ولم أجدها . فتشت عنها في كل  زويا البلاد ولكن للأسف الشديد لم أتمكن من العثور عليها . لم يبق أمامي سوى هذا المكان لعلّي أجدها في .}

التكريس هنا لصيرورة المكان( المبغى) ولّد قناعات ذاتية في كونه المكان الرحب الذي يستوعب همومه ومصيره . بعد أن مرَّ بمجموعة احباطات ، الغرض منها ايجاد مستقر له . لذا كانت النتيجة هو البحث المحبَط  ( وجدت المدينة مقفرة ، الخراب هو ما كان يستقبلني أينما توجهت ) . من هذا كانت قناعاته مبنية على تجربة مريرة من الخيّبة والفشل الذي واكبه طيلة حياته .كما وأنه فشل فكري بحت ، بدليل اتكائه على مقولا غيره في بناء معماره العقلي ، الذي أكد فشله أيضاً في عبارته الموّجهة إلى ( عبد الرزاق الجبران) وطروحاته التي قربت رقبته من حبل المشنقة ، لا لشيء سوى إدانة للزمن الذي لا يعرف لغة الحوار أسلوباً لتصفية اسس فكر الآخر المختلف ، سواء في صلاحيته أو عدمها . المهم أن الرواية مبنية على                                            خلاصة فكرية ــ اعتبارية.               .                                                                         

قناعات متوّفرة/

إذاً كان هذا حاصل تحصيل للسارد ، ومحصلة واقعية لمجريات النص فأن للمؤلف ممارساته في  الكتابة عن مناخ وفضاء لم تطأ أرضه التفاصيل في العرض ، لاسيّما أراءه في ما كان يجري في الأزمنة . فعلى سبيل المثال موقفه الوجودي من كل الممارسات التي كانت نتيجتها التضحية ( أليست هذه نوعاً من العبودية ، تضحي بنفسك من أجل فكرة معينة ! ) كما وأنه واجه فضاء المحكمة بجرأة مفترضة من خلال حواره مع القاضي :

{ إذاً أنا هنا لغرض المحاكمة . وهذ دليل كاف على كوني انساناً محترما يمكن ان يكون محلا لتطبيق العدالة . ليست العدالة السماوية طبعا وانما عدالة العباءات السود والوجوه الصارمة}

شهيد / كش وطن / دار سطور للنشر والتوزيع ــ بغداد ولعل المد في أسلوب المحكمة ومجرياتها الافتراضية ، كونها لم تبتعد عن الواقع ، سواء في وطبيعة المُحاكَم أو في منطق مجلس القضاء . فهو يعترف بما أوكلت إليه من تهمة فيقرها :

{ نعم انا قواد هل تعلم يا سيادة القاضي ما معنى قوّاد هل جربت ان تكون قوّادا، ان تجرب الانعكاسات النفسية لهكذا سلوك انساني حين تضع راسك على الوسادة وتحصي مقدار السعادة التي قدمتها للبشرية }

ومن بعد هذا يُلّخص السارد محصلته من كل ما عاش ورأى وسمع . فقد صرّح بجرأة ذات نكهة من الخيّبة من كل شيء ، وبعد أن رأى بعيّنيه ما ألت إليه الأمور وجور الأزمنة ، خاصة في ما رأى من تحوّل( أبو نظمي) من قوّاد إلى رجل دين يُلقنه ما يستطيع قبل تنفيذ حكم الإعدام به فيذكر عن لسان أنموذجه :

               { انها المرة الأولى التي يرفعني فيها الوطن إلى الاعلى }

وهو صوت احتجاج مضاف إلى حياة الأنموذج ، ورؤاه اتجاه عقوق الوطن الذي أوصى في عتبة الرواية ، بأن لا تُرفع النقاط الثلاثة ، فقد تؤدي إلى نعت فاحش أكثر اتجاه الوطن ( قبل اعدامه ؛ كانت وصيّته الأخيرة .. رجاء لا ترفعوا النقاط الثلاث

 

المشـاهدات 49   تاريخ الإضافـة 02/04/2024   رقم المحتوى 43177
أضف تقييـم