الخميس 2024/5/2 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 18.95 مئويـة
فضاءات التأمل الشفيف في مجموعة (عمر يتسابق نزيفاً)
فضاءات التأمل الشفيف في مجموعة (عمر يتسابق نزيفاً)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

على الرغم من المحمول التراجيدي لعتبة العنوان وحدّته إلاّ أن نصوص مجموعة (عمر يتسابق نزيفاً) للشاعر مهند عبد الجبار (الصادر عن اتحاد أدباء – ميسان، 2023) تنحصر باتجاه التأمل الشفيف وتتحوّل إلى إضمامة من الأسئلة وهي تتشابك مع المضامين والوقائع بروح تحمل كثيراً من البياض وتلاحق مساحات الحزن والانكسار التي تؤطّر اليومي والمهمل وتتحوّل حدوس الشاعر إلى استنطاق الرؤى ولحظات التوّهج ويحوّلها إلى مشاهد بصريّة لاستنطاق الواقع بصيغة شعريّة واكتشاف المساحة الفاصلة بين البياض والسواد والحزن والفرح والتأمّل والمعنى والغياب والحضور والحقيقة والمجاز، لاسيما أن الشاعر يمتلك قدرة على اجتراح اللغة والصور المجازيّة ولا يباشر النسق اللّساني بصيغته المباشرة والتقليدية مما يجعله يتخطّى المعطى المعجمي والنسق المعياري ليؤسس منظومة صوريّة انزياحيه وصولاً إلى المعنى المراد ولذا فإن توظيف اللغة الشعرية بطابعها المجازي هو أحد المهيمنات المركزية والدالة على مجمل نصوص المجموعة.

اتسمت المجموعة بتعدد المضامين وتنوّع الرؤى بدءاً من جعل الذات مركزاً مروراً بمساءلة الواقع بكل أبعاده وانتهاءً بجعل النصوص منظومة جماليّة للتشابك مع الواقع وانكساراته والتعمّق باليومي، والمهمل والتقاط لحظات استثنائية تمثّل الوعي الوجودي للشاعر في تصدّيه لمظاهر التناقض بين القيم الكميّة والقيم النوعية بين (الموت والحياة) و (الحقيقة والزيف) و (الحلم والكابوس) ممّا يحيل النصوص إلى مساحات لتأمّل لحظة التوتر والتماس بين ثنائية البياض والسواد.

ولعل مزية النصوص أنها لم تباشر الواقع بتضخم المضامين وهيمنة الأفكار – بل سعى الشاعر إلى جعل السؤال ينطلق من المجاز باتجاه الواقع والحقيقة وليس العكس، ويصبح المجاز الصورة التي ترحل وتحيل إلى الواقع وذلك للابتعاد عن اللغة المباشرة والتعبوية والنسق التقريري وهذه الروح المجازية شكّلت جوهر النزعة التأمليّة الشفيفة للشاعر المسكون بهموم الوطن وتمجيد الإنسان والأصدقاء والقيم التي تحيل الواقع إلى بياض شعري، ووفق هذا الاشتغال لم نجد الذات بوصفها مركزاً ولم يغرق الشاعر في فضائه الذاتي بل كان يسعى إلى ما هو إيثاري فكان الآخر هو المرتكز في تأسيس واقع جمالي وموضوعي راسخ، ولم يطرح الشاعر نفسه من خلال الهم الذاتي والسياق الفردي بل كان الآخر هو المركز وهو الدال على قيمة الذات ومن ثمّ الدال على قيمة الفكرة التي تؤسس لما هو مشترك بين الذات والآخر، ووفق هذه المقاربة فإن الآخر يمثّل المركز في مجمل النصوص بينما نجد الذات وقد تحولت إلى مساحة التأمّل والبحث عن لحظة نقاء شعري، فكان للآخر تمثلاّت دالّة مثل الوطن والأصدقاء والراحلين، والظواهر التي تدلّ على الناس وذاكرة الوقائع بشكلها الجمعي، وكان الحس أو الميل التراجيدي يحيل إلى غياب التوازن بين الانطفاء والتوثّب بين الأفول والإشراق، وليس غريباً أن يلجأ الشاعر إلى قاموس ومرموزات الطبيعة ويؤنسنها باتّجاه توظيف اسقاطي لكي يقدّم الصورة الناجزة لفكرة الرقي والصعود بوصف الدلالة المضادّة لكلّ انكسار وانكفاء.

وقد تصاعد زخم الصورة الشعرية بفعل النسق المجازي وخلق العوالم البديلة على مستوى التصوّر ليحيل إلى المضمون والفكرة وفق هذا الترحيل وخلق منطق للمعنى الجديد، وهو يعمّق روح التضاد الثنائي على مستوى الاشتغال التعبيري وقد وازن في نصوصه بين القصائد الطويلة نسبياً والقصائد القصيرة التي تقترب من الهايكو ولم يقع في الاسترسال ولفائضية والإطناب. وتتحوّل قصائده بصيغة التأمّل الشفيف المتّسق مع دلالة العتبة الأولى التي ثبتها كإشارة أو إحالة ضمنيّة "إلى من أقصده... الحصاد لن يقترب.. سيبقى قلبي مثل فزاعة... في حقول المعرفة يربك سيرة الصمت". (المجموعة: 6).

وينطلق الشاعر من عتبة العنوان ومحمولها الاستفزازي ليباشر منطق التأمّل والمساءلة كما في نص (أعياد ملغومة):

اقترب الموعد/ يا له من لقاء أعزل!!

يصفوك بأعلى درجات الجمال../ تناطح القمم

أيها العبد السعيد/ افرح أنت بإغواء الجميع

لا تغريني بزحفك/ لم اجرّب الحب العذري

أعتق رقبتي من الاشتياق/ اقترب الموعد كيف اتعرّف عليك؟!

بينما أجهل شكلك وطولك ما تخبئه لياليك مثل مفاجأة..(المجموعة: 11- 12).

والنص يكشف عن قلق الذات وما تنطوي عليه من حرمان واغتراب، وحزن مقيم حتى يصبح العبد غريباً ملتبساً، لكن أبنية الإحالية تؤشر لما هو أبعد من العبد، بل كلّ شيء يحمل الفرح الذي تشعر الذات إزاءه بالغربة وهو تعبير عن ركام وترسبات الأسى العميق، وإذا كان العيد بمدلوله وطقوسه بوصفه العلامة الجمعيّة للفرح ومع كلّ هذه الخصائص نجد الذات تعيش في تضاد واغتراب سايكولوجي وبذلك يقدّم النص أزمة الذات التي تعكس أزمة الواقع عبر سلسلة من الصور والتساؤلات التي تكشف عن هيمنة السواد على البياض.

لعلّ نص (الفاصل) المهدى إلى (د. سهير أبو جلود) ينطلق في فضاءات ترسم ملامح الآخر بلغة المجاز وتمجيد الوقائع واستبصار الخطو:

قبل فوات الأوان/ المشاهد الثقيلة

تركتها خلفي/ حتّى الحدائق الخجولة

التي لم تنهض بالذكريات/ لا أريد أن أحلّق بلهفة/ في سمائك المعطّلة

بل أسير بعذوبة/ على حافة قلبك... (المجموعة: 13).

والنص يجعل الشاعر من الآخر مركزاً يهيمن ويسيطر على كل وقائع الصعود والتجسيد الاستثنائي ورسم ملامح الذات التي تتجاوز كلّ هوامش الحياة سعياً إلى متن متميّز أو كينونة منتجة ومغادرة (السماء المعطلّة) باتّجاه عذوبة دالّة وذلك الحضور الاستثنائي المتوّهج يتحول إلى إشارة أو إحالة مركزيّة استكمل معناها المتعالي في نص (المرتكز) ومزج فيها الذات والآخر وتحوّل المعنى إلى نقطة يرتكز عليها العالم:

كنقطة في هذا الكون/ ارتكز عليها العالم

يجب أن لا تقول/ أنا شاعر بحجم الألم

فالشاعر ضمير الغائب/ لايراه إلاّ الله... (المجموعة: 15).

ويتحوّل الشاعر إلى ذات كونيّة على الرغم من الألم والمكابدة، لكن الشعور بتفاصيل الوجود هو مأثرة الشعراء وبذلك يرحل النص الذات الإستثنائية من معناها الوجودي إلى معناها المجازي ويتسع المحمول التأمّلي للذات الشاعرة يتسع المعنى باتّجاه أن كل ذات ستكون نقطة ارتكاز وجودي إذا قاربت الوعي والمكابدة واستنطاق الحياة ونجد جميع النصوص تتمركز حول الاشتغال التعبيري وإعادة انتاج المضمون باتّجاه دلالات وإشارات ومفاهيم جديدة لا تستطيع اللغة التقليدية أن تعبّر ببلاغة الصورة عن هذه الأفكار والمعاني إلاّ عبر الانزياح الدلالي ومغادرة قاموسيّة اللغة.

ويقدّم الشاعر مجموعة من النصوص القصيرة التي تقترب من تكتيك قصيدة الهايكو التي تتميّز بالتكثيف والاختزال ويصبح المعنى أكبر وأكثر دلالة من النسق العددي للألفاظ وهو يبحر في نص (الثبوت) نحو مضمون وفكرة يسائل فيها عن الضياع والاغتراب بكلّ دلالاته:

تسألني عن الضياع/ فأجيبها بنظرة عاطلة

تفسّر عدم ثبوت العناوين/ بعض الزمن.. (المجموعة: 22).

وينطوي النص كما ينبئ استهلاله عن سؤال وجودي ويوّظف المعطى الانزياحي بترحيل اللغة من المعياريّة إلى استنطاق المعنى المجازي الجديد (فأجيبها بنظرة عاطلة)... ويشير باللغة الانزياحية إلى عدم الثبوت بسبب عصف الزمن وهي إشارة بليغة إلى منطق الزوال والحركة التي تحكم كثيراً من وقائع الحياة، وجمالية النص لا تكمن في الاختزال العالي بل في التحوّل إلى حوار بين الذات والآخر (تسألني) والتمركز حول فكرة وجودية هي الضياع ومترادفاته من غربة واغتراب وعزلة وانطفاء وبذلك تقترب نصوص المجموعة من صورتها الشعرية إلى مباشرة المضامين والمفاهيم والصور التأويلية.

ويقدّم الشاعر صورة أخرى تنطوي على نسق تأمّلي وإلى تجسيد مادية العالم وتنافذ عناصره وعلاقة الإنسان بالأرض وفق ثنائية الأصل والامتداد والعود وهذا التجسيد التأمّلي نجده في نص (الأجساد) :

شئتم أم أبيتم/ سينهكها العطش

هذه الأرض التي لم تزل/ تلهث خلف أجسادنا.. (المجموعة: 24).

الشاعر عبّر عن فكرة الموت بصيغة التوّحد بين الأرض وأجساد البشر وكأنّه يرسم ملامح العود إلى الأصل ولم يباشر فكرة الموت بشكلها التقليدي بل عبّر عنها بلغة المجاز فالأرض (تلهث خلف أجسادنا) وخلق علاقة تأمّلية بين مفهوم الموت والحياة عبر حركيّة دائبة وكأنّ الأرض تحيا حين تلتهم الأجساد حتى تتحوّل الأجساد إلى أديم هذه الأرض كما ألمح المعري في إحدى التقاطاته الوجودية التأملية، فالصورة في النص صورة إحالة وترحيل إلى معنى الموت والحياة وحركة الأرض وحركة الأجساد التي تشكّل سرّاً أو نظاماً كونياً، وليس مجرد ظاهرة انتفاء عابر أنه جدل الوجود وإنّ الجسد يمتلك عائديته كما تمتلكه تلك العائدية المتجسدّة بلهاث وحركة للأرض التي تنتظر الأجساد وهي تهوي إليها. ويعبر عن فكرة أو معنى القلق في نص مؤثّر موسوم بـ(الإرتجاف):

برحابها/ اللعنة خامدة

أنا وإياك نسمتان/ تعبران عن ليل يرتجف... (المجموعة: 26).

فعتبة العنوان تحيل إلى قلق وحركة وعدم الثبات ويتجسّد الإرتجاف أو القلق بين الذات والآخر حتّى تتحوّل إلى (لعنة خامدة)، ويتحوّلان إلى نسمتين تعبران عن (ليل يرتجف)، واقتران الإرتجاف أو القلق باللّيل وسواده يزيد من لعنة هذه العلاقة الملتبسة بين الذات والآخر، ونجد معظم النصوص تتمركز حول هذه العلاقة الملتبسة سلباً أو ايجاباً، فالآخر يتحول إلى سؤال وكينونة ثمّ من خلالها وجود المعنى الذي ينطوي عليه الآخر، فأما أن يكون كينونة متزنة ومنتجة أو فضاء يكشف ضعفاً أو ارتكاساً ويتّسع المعنى لهذه العلاقة الملتبسة إلى كل الأشياء والوقائع والموجودات ونكتشف التأرجح الدلالي في تحوّلات موقعيّة هذه الثنائية فمرّة يتحول الآخر إلى مركز والذات إلى هامش أو بالعكس والفكرة تتساوق مع الرؤية الشعريّة المعبرّة عن روح التأمّل الشفيف والتعمّق بالظواهر الناتجة عن هذه العلاقة.

ويتحوّل الرثاء في نماذج عديدة إلى سؤال وتعمّق في معنى الرحيل والغياب ويطلق الشاعر سؤالاً استفهامياً هو (لمَ الرحيل...؟!) في نص (تغريدة حزن) الذي يرثي الشاعرة لميعة عباس عمارة:

لمَ الرحيل/ أيتها الأسطورة السومريّة

من جذوة قلوبنا إتخذي أعشاشا/ كي تتناسل الذكريات...

ويولد العشق من جديد/ لِمَ الرحيل سيدة المنافي؟

أبهذا الأفق الذي يضيق/ دون اختصار الحنين

فالبحار التي تفصلنا/ ستظل سواك يتيمة... (المجموعة: 60- 61).

ونستدل في النص على تصوّرات تأمليّة للموت والشعر والمنفى، ويتمركز النص حول ثنائية الذات والآخر سواء أكان الآخر انساناً استثنائياً مثل الشاعرة أم الموت بوصفه الدينامية المضادة للحياة والشعر والوجود، والنص مكتنز باسئلة وتأملات وجودية شفيفة وفيها تتجسّد مديات التوظيف المجازي والإختزال الدال، هذه المجموعة تكشف عن القدرة التعبيرية الحاذقة للشاعر سواء على مستوى الشكل أم المضمون فضلاً عن أنها قصائد أفصحت عن حضور المتعة الفنية، والتأمّل والاشتغال الجمالي الدال.

 

 

المشـاهدات 56   تاريخ الإضافـة 14/04/2024   رقم المحتوى 43715
أضف تقييـم