السبت 2024/5/4 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 18.95 مئويـة
في ذكرى القاص يوسف الحيدري التداخل بين الواقعي والأسطوري
في ذكرى القاص يوسف الحيدري التداخل بين الواقعي والأسطوري
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جاسم عاصي        

يوسف الحيدري؛ قاص مثقف ذي رؤى منفتحة على مصادر الثقافة والمعرفة . شغلته أسئلة كثيرة تتمحوّر على ظواهر وجودية كالحرية والتجديد والانفتاح . وقد حقق مثل هذه المفاهيم التي جلّها تنتمي إلى الفلسفة الوجودية ، عبر مجموعتين قصصيتين هما( حين يجف البحر / المزامير) . وقد كانتا من المجامع المتميّزة إبان ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. كما وأنه من الداعين إلى التجديد والحداثة ،ضمن جماعة كركوك التي تميّز وجود أفرادها من التأثير المباشر على الثقافة العراقية بخصوص التحديث في الكتابة ، ومداولة المفاهيم الجديدة في كتابة النص والنقد الأبدي. بالمفهوم فاجتهد في أسطرة الواقع ضمن مناخات لم تتخلص من غطاء الموروث

ومن ضمن مسعاه في الكتابة نص ( طريد الإله باخوس) الذي نُشر في العدد الثامن من مجلة الأقلام العراقية آب 1988) وهو من بين نصوص امتازت وبشّرت بظاهرة توظيف الأساطير في النص ، حيث احتوى العدد قصص لـ ( محمد خضير/ رؤيا البرج ، محمود جنداري/ الطائر زو ،جهاد مجيد/ دومة الجندل قناع بورشيا/ محسن الخفاجي)وآخرين. إن هذا المسعى في الكتابة والتوظيف قد أضفى بادئة مؤثرة ، فتحت باب الاجتهاد في الكتابة ونوع وكيفية التوظيف . حيث لحقتها نصوص لكتّاب عراقيين استطاعت أن تقدم (اجتهادات). وأذكر ذلك لأنها منحت النص قوة محركة في ما يخص الدلالة خلال توظيف الموروث، وعبر العمل على تقشير الثيمة المستدعية من حقل الموروث ودمجها بما هو معاصر . والبعض نحى لكنها اكتسبت شرعية التوظيف بتعميق الدال والمدلول . ولعل قصة (طريد الإله باخوس)واحدة من النصوص التي تمكّنت من احداث الكيفية الذاتية في صياغة نص اتكأ على الموروث الأسطوري ، لكنه لن ينقاد إلى تفاصيله ، بقدر ما وظف أسطوريته لصالح التعبير عن واقع معاش ، بل هو جزء من حراك زماني ومكاني ، احتوى حراكاً فكرياً ضمن سلوك(زامدار) باعتباره من أبناء الإله ،أي من مريديه. كان الهم الثقافي ــ الفكري شاغل النص ،معبّراً عن واقع الصراع الثقافي المعرفي ،متمثلاً في جماعة كركوك . فكان نموذج النص ( زامدار) ممثلاً للتوجه الجديد مقابل من نعتهم بالديناصورات، كما سنرى.

العنوان (طريد الإله باخوس) فيه اشكالية فكرية أخلاقية . فالطرد يعني العزل والمجافاة ، أو المحو والالغاء . وبهذا يخلق صراعاً دائماً بين الطارد والمطرود . أي بين الابن(زامدار) وإله الخمرة(باخوس). والأبوة هنا تعنى الانتماء إلى جماعة المريدين للإله ، وجلساته الطقسية. فالطرد هنا خلق جملة مواقف للابن اتجاه كل ما هو منتسب لحاشية الإله. غير أنه بموقفه هذا حايد الأكثرية ، ولم يخلق حالة صدام ،بقدر ما خلق نوعاً من إثارة المعرفة الجديدة بقصد الحوار الذاتي والموضوعي، الذي لم يخل من نقد مباشر وغير مباشر لحراك الجماعة المنتمية إلى الإله وسلطة الإله .إن خروج (زامدار) عن الطقس المقام في حضرة الإله سببه تحذير الطبيب له ، والمتعلق بصحته (ولكن ماذا يفعل وقد منعه الطبيب ... من ذلك ، بل هدده بالموت. )من هذا التحذير حصلت اللعنة من الإله عليه ، ( وهكذا نزلت على رأسه لعنة الإله باخوس كالصاعقة . وظل زامدار رغماً عنه ضحية قرار إلهي جائر بحقه) . غير أن السؤال يطرح نفسه في من البادئ باختيار الموقف . هل هو (زامدار) بمواقفه الحداثوية وآراءه من سلطة الإله ؟ أم الإله (باخوس) بسب تمرد زامدار على سلطة الإله المعرفية؟ سؤالان ينطرحان ، والجواب واحد في كوّن المحصلتين من انتاج الموقفين . فالطرد نوع من العقوبة . فالنص في جمل الاستهلال يكاد يكون قاطعاً في دلالاته مثل( يتمزق ، هددهُ ، نزلت ، لعنة ) وغيرها ، هي بمثابة عنوانات وخلاصة لموقف . كذلك بعض جمل الاستهلال مثل( قرار إلهي جائر بحقه / يلعن تلميذه العاق زامدار) وغيرها من التداعيات التي يمارسها وهو يقلّب ما وصل إليه جرّاء اللعنة ، التي أسفرت عن موقف فكري من الإله باخوس اتجاه واقع زامدار الفكري أيضاً .فهو يمارس الطقس الذي اعتاد عليه كأقرانه بحضرة الإله ، إذ يبدو قلقاً وفي مفترق طُرق ، بين الطرد واثبات الوجود والهوية المعرفية الجديدة  ( تلفت حواليه وكأنه يبحث عن شخص معيّن ، وحين لم يجده غادر المائدة العامرة بقناني الخمر ) هذا القلق ناتج مكاني ، بدافع حيوية شعوره بالانفصال عن ركب المريدين للإله . لذا نجده يقدم اعتذاره لجماعته المتخيّلة ، شعوراً منه بأنه(يخفف) عن آلامه، حيث احساسه بالقرار الجائر من الإله الذي (يمزقه) ، فقد كان هذا أكد حرمانه من شرب الخمرة نهائياً . وهي بدء القطيعة ، وهو جزء من القرار أملاه الإله على الطبيب ،حيث أسفر الموقف المعادي والمتمركز بالطرد عن المجال . هذه الجدلية التي قام عليها النص ، هي نوع من جدل الموقف المبدئي الرافض ،وإن لم تظهر علاماته مباشرة ، لكنها كشفت عن محتواها وصيرورتها خلال التوصيف بـ(الديناصورات). هذا التوصيف أثار الإله مزحزحاً أسس سلطته الإلهية ، أي تمركزه الديني واعتبره القشة التي حاول عبرها كسر ظهر (زامدار) الابن البار لمجلس الإله الخمري . إن الخروج عن سياق الوجود المادي ، يعني التمرد على قيّم معيّنة ، أدرك بدئها الإله ،الذي أصدر حكمه الجائر ، بادئا من قرار الطبيب بتلف كبد زامدار .لقد أدرك محبيه ما تغيّر في سلوكه وانطوائه ، وشعوره بأنه( صنم بوذي يمارس الصمت والتحديق بنظرات جامدة في نقطة بعيدة ... غير مرئية.. حيث التجلي والذوبان في ذات الحقيقة الأزلية .) هذه الحالة يقابلها تذكر كمية كؤوس الخمرة التي كرعها في مجلس الإله . وإزاء هذا وكما وجدنا في تأملاته ، إنه ينظر خلال زمنه المحصور فيرى صورة مشرقة كرد فعل على ما اتخذه من موقف في( نقطة بعيدة غير مرئية) . إنه يطرح رؤاه إزاء كل ما أصابه جرّاء الطرد وهو يردد( إيه .. أنت يا باخوس.. يا واهب المتعة القاتلة لجسدي ، ومنذ ثلاثين عاماً . كن شاهداً على مأساتي . أنا الذي لم أخن يوماً تعاليمك المقدسة .. كنت أنبل تلاميذك وأخلصهم جميعاً .. فلِمَ هذه القسوة في معاملتي ؟!) . لقد حقق بهذا ما يدور في وجدانه ، مؤمناً أن ما فعله هو الصحيح على مستوى الوعي والمعرفة بالأشياء .فهو بالرغم من ولائه للإله ، إلا أنه مصر على موقفه ، لأنه نابع من وجدان مستقر.وما تشبيهه بالحلاج ، سوى تأكيد على قرابة الموقف ، فالحلاج لم يضعف أمام إجراء صلبه وزامدار( يتوضأ كالحلاج ، ولكن لا بالدم ، إنما بالخمرة الإلهية المعطرة بأنفاس إله الخمر باخوس المقدس ) .لذا استمر صامتاً وحزيناً وغرق مرة أُخرى في هيمنة روحية عميقة !!.

إن نص (طريد الإله باخوس) يطرح صورة المتمرد على الأُعراف التقليدية لمجلس الآلهة ، فيقيم طقوسه المعرفية من كتابة شعر ونقد النصوص والدعوة إلى شيوع معرفة مغايرة ، والحذر من هيمنة (الديناصورات) على المشهد الثقافي . فزامدار يقود تياراً ثقافياً ، قد بدت عليه علامات تقرّبه من تلامذة (بوذا) وهو يمارس طقوسه التبشيرية ،آ فقد كان( حاداً في نقاشاته ، فأما أسوّد أو أبيض ). إنه غادر مبدأ الطاعة الأزلية التي يمارسها بقية الأبناء. فمبدئيته أغاضت حتى بعض المريدين ، فناصبوه العداء فهو ( يرفض بحدة أنصاف الحلول ، لأنها عملية توفيقية سخيفة . كانت شلة الشباب المتحمس تحيط بتلميذ (باخوس) المطرود إحاطة السوار في المعصم ، واستطاع بقدرة خارقة أن يغسل الأدمغة الغضة ، حتى تحولوا بعد فترة إلى تلاميذ مخلصين لرسول باخوس الجديد )وطبيعي إن هذا شكّل حجرة الأساس المبدئي الذي اعتمده الإله في حرمانه من طقوس تعبده . فكان الطرد ، وكان حرمانه من شرب الخمرة بسب مرض الكبد .إن موقف زامدار يقوى رغم كل ما يمر به ، لاسيّما قرار الطبيب الملفق كما تدّعيه القراءة، وهو بهذا يقوّي موقف أقرانه في التمرد على منظومة المعبد المتمركزة في فردية الإله في مواقفه . فهو لا يؤمن بالحوار مهما كان نوعه . فحين اعترض أحد الأصدقاء على زامدار ، انبرى له موضحاً موقفه ( أبداً ياصديقي .. أنت واهم جداً .. فأنا في كامل صحتي الجسدية والعقلية . كما أنني أحسّ بنوع من الابتهاج .. لكوّني قد اجتزت التجربة الصعبة بنجاح . ليظل باخوسك المقدس منغمر في أنهار خموره المعتقة .. غارقاً في أحلامه الربانية ، فقد عجز عن تحطيم روحي ، أنا رجل قوي .. يولد من جديد من رحم التجربة ..!) إن موقف كهذا يرقى إلى مرتبة المواقف المبدئية التي أدرك تأثيرها الإله( باخوس) مبكراً ، واتخذ موقفه هذا بجور  خال من الحوار .لكن زامدار بقي مخلصاً لتطلعاته المبدئية ، فقد ساقه عقله المعرفي إلى  كل ما هو جديد لمقارعة ما قد يجابهه ومريديه  ، فقد غدت للإله أسس يستطيع خلالها قيادة مجموعته ( أسمع .. ياصيدقي .. قبل كل شيء يجب أن تتعمق كثيراً في رؤيتنا للأشياء والحقائق وكل ما يفرزه العقل الإنساني العظيم ،آو القلب الإنساني الذي يرفض الفوارق والنظرات الجامدة ) هذه الأسس المبدئية شكّلت وحددت مسار (زامدار) في موقفه من سلطة الإله . وفي موقف وحوار آخر يؤكد على أن  (التاريخ لا يرحم. وكما قلت  الجامدين ، بل يحترم الذين يتحركون ويلهثون خلف قطاره الطويل ، كما نحن الآن). . .                                                                                                                                               إنه وبقدرته على أداء الامتحان ، راح يفعل ما مُنع منه فـ( كرع وفي لحظة ضعف كأساً مترعة من خمرته الإلهية المقدسة والقاتلة في نفس الوقت ؟حتى انفجرت عقدته المتليفة في كبده المشمع ) ، إنه ينتظر النهاية الرهيبة ،ولكنها لم تأت ، بل حدث ما هو معاكس ( ساعات من الأرق الشديد ، بكرت مع بزوغ أول خيط لشعاع شمس كبيرة ، راحت تُبدد جيوش الظلمة والكآبة ). وهذا يعني انتصار إرادة(زامدار)على سلطة الإله(باخوس وجوره.

 

المشـاهدات 44   تاريخ الإضافـة 23/04/2024   رقم المحتوى 44304
أضف تقييـم