الجمعة 2024/5/10 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
جماليات البوح في مجموعة (أرتّب الأنثى بداخلي)
جماليات البوح في مجموعة (أرتّب الأنثى بداخلي)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د. سمير الخليل

يتشكّل الخطاب الشعري في تجربة الشاعرة (آمنة عبد العزيز) على شكل تدفّق وبوح انثيالي وتفصح في مجموعتها (أرتّب الأنثى بداخلي) الصادرة عن (منشورات جلجامش – بغداد 2019) عن اشتغالات جمالية واسترسالات رومانتيكية تشتبك بها مع الواقع في محاولة لتجاوز انكساراته وترميم تفاصيله وفق سعي وتوظيف لكلّ عناصر التدفّق الشعري واستحضار كلّ اللّمسات أو التوجّهات وعناصر الإفضاء والجمال من انتقاء المفردة إلى تشكيل الصورة الشعرية، إلى استحضار القاموس (الأنثوي) لمخاطبة العالم، وإلى الميل لتكوين وابتكار الرؤى بإيجاد اللغة والصور والمعاني المبتكرة والناتجة عن نزعة لخلخلة المنطوق التقليدي باتّجاه الطاقة الانزياحيّة بمختلف تمظهراتها التركيبية، والدلاليّة والإيقاعية، وهي تتجاوز سمات القصيدة الرومانتيكية ونسقها التقليدي باتّجاه نصوص تملك فضاءها المرتكز على الخيار الجمالي ورهان السؤال الوجودي وتقمّص رؤية التحليق بحثاً عن معانٍ وصور وتشابكات تعيد انتاج الجمال بكلّ أبعاده ودلالاته، وجعل جماليات البوح الأنثوي هو المرتكز الذي يعيد تشكيل لحظة التوهّج والانبعاث وتتحوّل الأنثى إلى فينيق يحترق بعطره ليعلن عن إزاحة كلّ السكون والبلادة، فالشاعرة منشغلة إلى حدّ التوق في رسم الجمال الذي تنتمي إليه وتصدّره من ذات مأهولة بالسؤال الشفيف ومنطلقة باتّجاه عالم يحاصر البوح ويغتال رقصة الانبثاق.

وفق هذا السياق والاشتغال الجمالي تتحوّل نصوص المجموعة إلى إضمامة صادحة من السؤال الوجودي والجمالي وتتحوّل الرؤى إلى (مانفستو) لإعلان جدل التوق ليحاصر جدل الانطفاء وليضيء عتمة الانكفاء وتسعى النصوص بكلّ بسالة لوضع طوق الأنثى كإيقونة لتحرير كلّ التراكم باتّجاه إفصاح وبوح يحلّق بعيداً، ويعيد انتاج الشغف والألفة والتناغم.

نصوص المجموعة بكلّ ضوعها وعطرها وحميميتها تؤسس لخطاب يرمّم الجدب ويعيد تشكيل الواقع المأزوم بتأثيث أُنثوي، إنها تؤنث البوح والتشاكل الوجداني وهي تجعل من النسق الرومانتيكي مدخلاً للمساءلة والاستنطاق والانبعاث المتعالي، والتحديث إلى العالم من خلال مرايا وعطور واستلهام يجعل العالم يرتدي لغة الزهور وبهاء الأمكنة وبريق الأحلام المؤجّلة، ولذا نجد النصوص ترتكز على محايثة عميقة للتعبير عن قاموس أُنثوي يتشكل على إيقاعه شكل ودلالات الفيض الوجودي الذي يضيء لحظات الزوال والعتمة والإنكسار وتتحوّل القصائد إلى نسق تحريضي واحتجاجي ضد كلّ أشكال القبح والخمود .

الفضاء الشعري في هذه المجموعة فضاء متحرك ينطوي على تأرجح قصدي مؤطّر بالصور والبحث عن الاستثنائي واللاّمألوف في التراكيب والتشكلات والإزاحات، وسيميائية العنوان بوصف الإضاءة الجمالية والدلالية الأولى يتضمّن حركيّة الصورة والاستهلال بالفعل المضارع الذي يدلّ على الديمومة والاستئناف ويؤشر شكل البوح الذي يصدر من أنثى العالم وأنثى المعنى الوجودي، وليس الأنثى بمعناها وتكوينها الفسيولوجي.

لعلّ وعي الشاعرة بالارتهان إلى نسق وتأثيث اللّحظة الشعريّة جعلها تقدّم الطلاء الأنثوي كوسيلة للجذب والاستدراج لكنّها في جوهر التشابك الرؤيوي جعلت من فكرة (التأنيث) إطاراًَ لرؤية وجوديّة وفلسفية تقوم على استثمار وتوظيف أحد موجّهات ودلالات الجمال الأنثوي بوصفه الطريق لإزاحة هذا الاجتياح الفحولي الذي يخنق أنفاس الواقع واتساقاً مع هذه المقاربة ليس من المتعذّر اكتشاف الصراع السايكولوجي الذي تشيعه النصوص بين الثنائيات المتضادّة (الرجل/ الأنثى) (القوة/ الضعف) (القبح/ الجمال) (الحلم/ الكابوس) (الماضي/ الحاضر) (الحركة/ السكون) (المكان/ الهجرة) (البوح/ والضجيج) (اللون/ العتمة) (الجسد/ الروح) (الخضوع/ التمرد الوجدودي اليومي) (الترويض/ التحليق) (الموت/ الحياة)... الخ، وقد عبّرت في نص (حيَّ على الحب) عن هذه الإرهاصات في تأنيث العالم كوسيلة لإزاحة القبح القار :

"له لون كلّما رسمته /  تراقصت الحنطة فوق مبسميه   / لم اكتف برسمه

قدّمت أوراق جنوبيتي /    فأقالني قبل خفقة   /      قلت: 

ما بك أيّها المرسوم من أقواس فرحي  /  ختمك الأحمر سراب

لم لا تجعله أمراً لله؟ قال : إذن سنعلق قلوبنا لإشعار قادم"  (المجموعة: 11).

إنَّ تأمّل مفردات النص تكشف عن هذا التوجه الجمالي عبر جعل النص عبارة عن أسئلة وحواريّة وجوديّة تعلي من شأن البوح والحب، والضربة الختامية تعكس نوعاً من الرهان وانتظار المأمول، ومفردات (اللون) و(الرسم) و(الخفقة) و(أوراق جنوبيّتي) كإحالة للعمق والقوّة و(أقواس الفرح) وجملة (ختمك الأحمر سراب) تعكس روح التحدّي ووجود هذه البلادة التي تخنق لحظة التوق والانبثاق.

وليس من المتعذّر أنَّ إحالات وإشارات النص تتجاوز المعنى الظاهري باتّجاه الترميز والإيحاء والتأويل على الرغم من قصر النص فإنّه باذخ بتعدّدية معانيه، والأنثى أكثر الكائنات إحساساً بالأسر والربقة لذا فإنّها غالباً ما تعبّر عن فكرة الانعتاق والبحث عن الحريّة، وتبحث عن سماء واسعة وكأنها طير يمتهن الرحيل إلى الأعلى وترفض الإحاطة والتدجين ولغة الأقفاص نجد في نص (خط السماء مشغول) :

في صمتي صلاة / لا تنتمي لسماء / في رأسي سجناء

سأطلقهم بالعفو الإنفرادي .. (المجموعة: 14)

ويمكن تأمّل التشاكل الانزياحي بين الصلاة والسماء والرأس والسجناء والإطلاق والعفو الانفرادي، تجتمع الدلالات والإيحاءات لتكوين سؤال الحرية، ويتحّول النص إلى نسق من الدلالات والإحالات وهو يبتعد عن المباشرة والتقريرية والقصديّة السطحية على الرغم من قصره واختزاليته العالية.

وتتكامل المعاني مع نص (حانات ومعبد وقميص) الذي يجعل من تراكم التناقضات وسيلة لإطلاق السؤال الوجودي عن الحياة والحريّة والترويض والرفض والبحث عن الذات :

" من باطن النهار / بدأت مكيدة الحلم /  حتّى نعتّق الليل

من تهم الخيانات /  حاولنا أن نصلّي للرب/ دون أن نصلب

أخذنا ثيابنا للنهر / فعمدنا بدم بارد / قلنا أشهد أن لا ...

فكانت اللا .. نحن ..." (المجموعة: 15)

ليس من المتعذّر اكتشاف أنَّ النص يعمّق التشابك والاحتدام بين الثنائيات (أعلى وأسفل) (الحلم والليل) (النهر والدم) وصولاً إلى فكرة إيجاد وسيلة لتفعيل إرادة الذات وفكّ الاشتباك بين دلالات (الحانات والمعبد والقميص) وهي علامات إحالة إلى أفكار ومعان تشيع روح اللاتشاكل بينها، ويبقى الإحساس بالألفة والتوق إلى الثبات المتعالي أحد شواغل المجموعة لاسيما البحث عن الجمال والذات والحرية وعقد جدل مع المكان وانبثاقاته.

ونلحظ أن كل النصوص التي تتناول الهجرة والابتعاد عن الأمكنة الأليفة تعكس نوعاً من الاغتراب الذاتي كما في نص (مهاجر) :

في شوارع المدينة /  قابلني وطن مهاجر/ قلت له: / أحبّك

فعانقني       /  تلك المدينة التي تتفيأ بالبحر/ ونحن نستظل بالاغتراب

سامسون تستفيق على الحلم /  فتتراقص النشوى في أزقّتها

بائعو النبيذ     /   يراقصون الوقت بالأغنيات ..."  (المجموعة: 21)

في نص (متّفق عليه) إحالة إلى مرجعية لسانية وتداولية تعكس نمطاً من التفكير (التابوي) والإقرار بوجود الثابت الجمعي، ومن سنن الإفاضة الجمالية الباحثة أنها تنشد نوعاً من الإنفراد والفردانية لتعزيز صوت الذات :

" أضرمت العطر بروحي/  فأوقدت ضفائر الحنّاء ..

الحقل القديم يخبئ أعشاشنا/ في سرّة النّهر نخبّئ سرّنا

والغبش فوق الطين / يداعب أقدام العابرين

من الحقل نحصد أمنيات يتيمة ... " (المجموعة: 22).

ينماز النص بكثافته وصوره الدالّة وإشاراته الموحية وبالنسق الإنزياحي لاسيما المطلع (أضرمت العطر بروحي) بإحداث هذا الخرق الدلالي، وجعل العطر أشبه بالنار والإشارة المنقولة من الروح إلى العطر، ويعبّر النّص في بنيته العميقة عن التشابك والصراع بين الدلالات الثنائية وينطلق النص في بثّ دوال رومانتيكية لتحريك الذهن والتجلّي من خلالها (العطر، الضفائر، والأعشاش) (العابرين) (إغفاءة) (النهر) حتّى يجعل الختام معبّراً عن حزن التوق عبر جملة انزياحية دالّة وبنسق تركيبي (أمنيات يتيمة) (هناك أخطاء لغوية مثل الظفائر، وبائعوا) لابدّ من الإشارة إليها.

ونلحظ التآصر بين الذات والوطن وإشكاليات اللحظة الوجوديّة متشابكة المعنى والدلالة في نص (ليل متخاذل):

 

لم يعد له عندي نعاس/ ولا سمر/ ولا أرق /  إنَّ ليل وطني  

بات متآمراً /  يرتجف صمتاً /  هارباً من حلكة النظر

إنّه ليل مسخ ثمل / كان لحظة عابداً عاشقاً / وربّ الليل

إنه ليل مراوغ / كامل الخنوثة / سأعرض عن أحلامه

سأبيع ذلك الخال في مؤخرته / لأول غانية شريفة   (المجموعة: 26)

يتحوّل مفهوم الوطن إلى متاهة من السؤال الوجودي بحثاً عن الوطن نفسه الذي تلبّس في معترك الضياع والأرق والأحزان، إنّه رثاء رومانتيكي للفكرة الوطن وبلغة الاستفزاز التي يقتضيها العتب المرّ، وكأنّ النص صرخة احتجاج وتحريض على أن يستعيد الوطن وقفته ويكون من جديد وطناً، وليس مساحة للتيه و(حلكة النظر).

ويوظف نص (صلاة طائر الفينيق) الفضاء أو القاموس الرومانتيكي في رثاء ضحايا واقعة (سبايكر) وهو نص يؤشّر على ميل الشاعرة إلى التقاط صور وزوايا تجسّد الوجدانية الجمعية وتقترب من الوطن والمكان والموقف بوصفها دلائل على الألفة وجمال المعنى:

" خرافة ذاك الطائر/ وإنّك دم ودم ودم /  كنت أرى وجهك ينحر

والنهر يصلّي        / كنت بينهم نبيّا /  لم (تحتوه)

أضرحة الأنبياء/ أيّها الجندي المذبوح في سبايكر/ قبرك تنّور طين

تشتعل به الأمهات كل حين / الدم بات سراجا / تستدلّ به العاشقات

على شقائق النعمان " (المجموعة: 27)

ويمكن الاستدلال على عمق وعذوبة هذا النص الزاخر بالدلالات والإيحاء والنسق التعبيري وبتوظيف الصور والمعاني الشفيفة ممّا حقّق مستوى من الافتراق والتجاوز للمعاني والإشارات والبناءات التقليدية للرثاء المباشر المرتكز على كلائش الاستقطاب العاطفي، فالنص يعمّق الفكرة عبر استعارة منظومة صوريّة تشير إلى الحب والمرأة، والنقاء ليعمّق من حالة الاستنكار والغضب ضد واقعة الموت المجّاني.

ويتحول الحب إلى سؤال في نص (سؤال) وهو نص يحلّق بعيداً في المعنى التحليقي والمتعالي للحب بوصفه كشفاً باذخاً للمعنى ووسيلة من وسائل ترميم الوجود:

 

"أن سألك الحبُّ عني / فقل إنّك لا تعرفني / قل إنها غيمة كانت هناك

في أطراف الروح / لم تمطرني/ قل: / هي كرمة منسية

نبيذ عناقيدها لم يسكرني/ قل له: /  غجرية كانت

تراقص خيلها على وقع / قلبي وتغني .. " (المجموعة: 42)

ولعلّ صياغة النص على شكل حوارية ثنائية أضفى على السؤال جمالية التداول ورسوخ المعنى من خلال الإجابة الدالّة وشعريّة الإيحاء والتوصيف واقتران الحب بالروح والمطر، والكرمة المنسية، والعناقيد والنبيذ، والغيمة، وغجرية تراقص خيلها، منظومة من الإحالات الجمالية للبوح بماهية الحب الجمود والجدب والبغضاء.

نصوص المجموعة تؤسس لبوح جمالي صادح وهي تعيد اكتشاف اللحظة الشعرية المؤطّرة بتوهجات الأنوثة الدّالة وكأنّها تردّد مقولة ابن عربي ورؤيته العرفانية (فكل شيء لا يؤنّث لا يعول عليه) ...!

 

المشـاهدات 50   تاريخ الإضافـة 27/04/2024   رقم المحتوى 44558
أضف تقييـم