الجمعة 2024/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 36.95 مئويـة
أدب السجون العراقي  علاگات تعبان
أدب السجون العراقي  علاگات تعبان
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب  بولص آدم
النـص :

رُغم أنَّ اسمُهُ كما يُنادى به هو (تعبان) الا أنه حرص على أن يَعرف كُل مسجون جديد، أنه ليس أسمه الصريح بل الحَرَكي.. يعيش انتشاء تمتعه بذلك الأسم، حتى عندما كان يُسئ فهم آخرين يقصدونه لابالأسم بل بالتعب الذهني، لم يعد مُهتما مُنذُ زَمَنٍ بعيد أن يوصف بأي شئ، فقد عاش أثناء التحقيقات والتعذيب والأيهام بحبل المشنقة كل الملفوظات وسمع اقذعها وفات قطار ذاكرته ذلك النفق المظلم وها هو الآن في محطة سجنية أُخرى..

معروف لدينا، هو من يتكفل تشغيل جهاز التلفاز وكانوا يتندرون معه، هذا الصندوق تعبان مثلك! لايهمه طبعا، فهو سيُطفئ الجهاز ويُديره ثانيةً ويصفعه عدة مرات حتى تستقر الصورة قليلا وكانت أبيض أسود، يتخللها نمش واشكال حشرات، يستمر في طقسه حتى يخرُجَ ( النملُ والقمل وابو سبعة وسبعين) من التلفاز، يتقرفص امامه، حتى تنتهي فترة فيلم الرسوم المتحركة لِيُغادر..

تعبان، كان من أَغزَر مساجين أبو غريب تداولا، نقلا وتأليفا لمُختلف أنواع العلآگات ( إشاعة العفو العام ) يتجدّد الأمل لدينا بها ومن ثم، بعد انتظار طويل دون تحقق وعد العلاگة، نُصابُ بأحباط شديد..

في أحد الأماسي التلفازية وبينما يُطارِدُ الذئب والسيجارة في زاوية فمه أرنبا، إسودت الشاشة، ولم تنفع كل العمليات التقنية للخبير الفطري تعبان في ظهور الذئب والأرنب ثانية، دَخَلَ في نحيب وعويل طويل، وما أن سكتَ بعد قليل، تفتقت قريحتُه بعلاگة ( تعطل التلفاز يعني عدم الحاجة اليه، لأنَّ الرئيس ولابُد غَداً سيوقعُ قرار العفو العام)!

.. حينَ اخذهُ سجَّانُ عجوز الى الأدارة لكي يتغذى معه مثل كل يوم جمعة بعد الصلاة، عادَ الينا بأقوى علاگة، تتمثلُ بأنَّ الرئيسَ وعد أُمَّاً طالبتهُ بالرحمة من أجل اطلاق سراح ولدها بأن (سيحصل خير) وأن الرئيسَ قال لها، القرارَ في دُرجِ مَكتَبِه وينتظر توقيعُه فقط لا أكثَر!

في ظهيرة اليوم التالي، رفض الكشف عن وسطه عند فحص السجناء، بحثاً عن حبوب الجَرَب الحمراء مُتعذرا، لاحاجة لفحصه فالعفو العام تحت التوقيع! صُفِعَ وقيلَ لهُ :

ــ وهل يشتغِلَ الرئيسُ في بيت أبيك ياحيوان؟!

.. أُختيرَ كنموذج ضمن آخرين ليقابلهم طلبة علم نفس واجتماع جامعيين ليكتبوا ميدانيا، فأجابَ عن سؤال حول أُمنيتهُ الكُبرى:

ــ تصليح تلفاز الزنزانة.

استغربَ الطالبُ، عدم تمنيه اطلاق السراح؟

ــ وهل من داعٍ لقول ذلك والقرارُ في دُرجٍ عند الرئيس؟!

ــ ماحكايتُك أخي؟

ــ انتظَرتُ اعدامي شَنقاً أياما وأُعدِمَ زميل لي كان معي، وسَلَّمتُ قَميصَهُ لوالده عندَ حضوره بعدَ التنفيذ بأيام، فدفنَ رأسَهُ فيه..

ــ وأنتَ مازلت حياً

ــ قبل التنفيذ بقليل، وصلتنا مرحمة الرئيس، مُوقَّعة بحبر أحمَر بمناسبة عيد الأضحى وخُفضَ الحكم الى مؤبَد، قفزتُ من شدة الفرح وقَبَّلتُ الممرضة وفقدتُ الوعي..

ــ من شدة الفرح؟

ــ لا، تلقيت ضربة بأنبوب مطاطي على عنقي وفي مُستشفى السجن، تكلم معي الطبيب طويلا وقال للسجان بأن حصل لي مَنقوص!

ــ هل تعني نُكوص؟

ــ لاأعلم..

.. في صباح غائم رصاصي غامق، دبَّ لغطٌ ليس كمثله لغط تلك الأيام، سَقَطَت مروحية وزير الدفاع، وما همَّ تعبان من كُل الخبر غير تأليف علاگة غير قابلة للشك و طعن مُكَذبيه فيها، وصَرَّح:

ــ وإذاً، قال الرئيس بأن النجم هوى، فهل من شئ أكثر من ذلك أملا، ياجماعة، العفو العام على الأبواب!

.. تَكَفَلَ السجّانُ العجوزُ، تصليح التلفاز خارج السجن وأعادهُ الى الزنزانة، معروفٌ أخير في حياته الوظيفية كسجّان، رُبما لأراحة الضمير، فقد أُحيلَ على التقاعُد.. كأن شيئا لم يَكُن، ظَلَ تعبان مُمَدداً يعاني حُمى شديدة، يُتابع مطاردات الذئب للأرنَب من بعيد، رأسُه غائر في وسادة صفراء كانت يوماً ما بيضاء، فيها اسوداد بيضوي بحجم رأس تعبان، بمرور الأيام أخذ يصرُخُ ألماً من شدة الصُداع. لايشرَبُ ولايأكُل .. تمَّ تَفسيرُ ذلكَ، بوقوعهُ مرة أُخرى ضَحية لعلاگاته حول العفو العام.. إنتابتهُ حالاتُ تقيؤ وشحوب المَرعوب..

..حضرت والدته في المواجهة بعد توليها ذلك الواجب، والده الذي كان يأتي ويدخن سجائر اللف الواحدة تلو الأُخرى، كان قليل الكلام ويهتم بالمسبحة السوداء الطويلة أكثر من ولده تعبان، إنتقل بالسكتة الى رحمة الله .. والوالدة التي لم تفارق الأبتسامات والنظرات الحنونة وجهها ابدا، كانت تُكرر همساً:

ـ يُمَّه، موش تكللوله أبوه متوفي، مو ناقصة قَهَر وطلايب..

أنزلت العباءة على كتفيها وجمعَت أطرافها في حضنها وقالت:

ــ هالمرة ماكو عِدكَم ذبان، يعني صحيح راح يبيضون أبو غريب؟

وقصَّت على تعبان وأسمعته أجمل العلاگات، فالدُّنيا في المشخاب وبغداد وحتى في الباص الذي نقلها الى أبو غريب، لاشُغل لها غَير الحديث عن عفو عام، ترحُّماً على وزير الدفاع الذي رَحَل!

فما كان من مُطرب أبو غريب المحبوب دعَيّر، الا وأن نهض من مكانه قرب رأس تعبان ورفع كفي دُعاء:

ــ آمين يارب العالمين..

ــ يُمّه موش تنسى تجي بعرِس تعبان وَرا العفو وتغنيلَه.

فأنطلقَ موال جنوبي عذب، تتمايلُ معه نخيل الجنوب وقصب الهور تحتَ تحليق الدراج..

ــ ياحضيري.. أريد وياك، بالله وياك وديني، بالله وياااااك وديني…

رَفعَ تَعبان رأسه والعرقُ يَزُخ:

ــ كافي.. كافي مو دَيطحَن راسي طَحن…!

بمَرَضِ تعبان وعدم تحقق نبوات العفو العام، إنحسر مَدُّ العلاگات وكُل علاگة جديدة صارَت سَبَباً لمُشاجرات..

.. نُقِلَ تعبان الى المُستشفى و أنقطعت الأخبار..

..أتى سَجانٌ في يوم أربعينية وزير الدفاع وجمع حاجيات تعبان:

ــ بأمكانكم استخدام مكانه، تعبان لن يعود ثانية، تنتظره سيارة السجن لنقله الى بغداد.. في رأسه سرطان.

المشـاهدات 655   تاريخ الإضافـة 16/02/2020   رقم المحتوى 4560
أضف تقييـم