الأربعاء 2024/5/29 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
التصوف في الأدب العربي
التصوف في الأدب العربي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

        سامي ندا جاسم الدوري

 التصوف هو تلك التجربة الروحانية الوجدانية التي يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية من أجل اللقاء بها وصالًا وعشقًا، التصوف محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفًا وتجليًّا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية . ولقد كانت العلاقة بين الجمال والتصوف والإبداع والفنون بصفة عامة علاقة أصيلة لأن التصوف يرتبط بأصل الجمال كله هذا التجاذب الفني والتداخل الصوفي بين الإبداع ومنبع الجمال  لان التجربة الصوفية رحلة روحية معراجية تغوص في عالم الأحوال باحثة عن الحق والحقيقة .ولقد كان ظهور الشعر الصوفي في أدبنا العربي معاصراً لظهور التصوف ذاته. فقد عبر أوائل التصوف عن أنفسهم، وطرقهم، وحبهم الإلهي، كما لو كانوا قد اختاروا هذا الفن الأدبي الرفيع حتى يكون وسيلتهم في نشر التصوف وأصوله. ومنذ فجر التصوف وحتى اليوم، يتخذ الصوفية من الشعر قالباً للتعبير عن المحبة التي تعني عندهم طريق الوصول إلى الله . وتعددت أغراض الشِعر العربي وألوانه على مر العصور من مدح، ورثاء وهجاء

وتشبيب، ووصف.. إلخ، وعلى الرغم من ذلك، فلم يلقَ الجانب الديني الروحي في الأدب الاهتمام الأمثل إلا في عصر صدر الإسلام حيثُ كان الشِعر قد سخَّر جهوده لخدمة الدعوة الإسلامية الناشئة . ومن سمات الشعر الصوفي الحُبُّ الإلهيّ هو الموضوع الأبرز ، فهو عندهم ليس مجرد موضوع شِعري، بل هو منهج حياة، ودين يعتنقونه، ويعيشون له.

وكذلك العناية بالحديث عن دخائل النفس وأسرارها، واستخدام أسلوب الاستبطان الذاتي والرمزية في التعبير  . فالقارئ للشِعر الصوفي والمُتمعِّن في جمال لغته وطريقة نظمه وتنوُّع أساليبه، يجد أن لغة التصوُّف في جماليتها المُميَّزة لها، تخلق وِحدة فنيّة، ومن ثم شعوريّة، وفكريّة، ترتفع بالمشاعِر، وهي تُعبِّر عن تجربة عرفانية فريدة، تكشف الدلالة عن وعي مُرهف ، وكذلك هي لُغة المتصوفة التي اخترعوها، فهي على رقتها، وسهولتها، وتنوُّعها، ذات دلالة اشتقاقية خاصّة ولقد حصرها الشعراء المتصوفة في مستوى أساسي، وهي الإشارة أو التلويح، فهذه اللغة العامرة بالدلالات هي التي تعارف عليها المتصوفة، فخصوصيتها تنأى بنفسِها كثيرًا عمّا يعتقده البعض في كونِها وليدة ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية قاهِرة . ونقول أن ظاهرة العلاقة بين الشعر والتصوّف تكمن في أن القصيدة الصوفية التقليدية هي فرع أساسي من تركيبة وهيكلية الشعر العربي ، وقد ارتبط التصوف منذ بروزه في الفكر الإسلامي بالأدب كلاهما يسمو بالروح والوجدان، وإن الصوفيين لديهم مفردات ذات دلالات خاصة متعلقة بنظرتهم تُجَاه الكون وعلاقتهم مع الله، وهذا بدوره يُغني النص الأدبي إضافةً إلى الروحانية ونظرة الصوفية إلى الغيب، حتى أن أحاديثهم في غالبها قريبة إلى الأدب، بمعنى أنها مترفعةٌ عن لغة التواصل اليومي نتيجة مضمونها الروحي والوجداني ، وقد كان الشعر الصوفي في عصوره الأولى ينبع من تجارب ذاتية يخوضها الشاعر مع ربه، وهذا جليّ في أشعارهم حيث يبدو للمتلقي أن الشاعر متشبع بالتجربة الروحانية، وشعره ليس مجرد تأثرٍ أو إعجاب بالفكر الصوفي كما هو شائع في الشعر المعاصر . وبما ان التصوف هو أحد الأنماط الشعرية التي أقبل عليها الزُهاد والمتورعون فأخذوا يُنظمون القصائد الصوفية، ويتفننون في التغزل بالذات الإلهية وإبراز المشاعر الجياشة، فانكبوا على سكب المفردات في قصائد تُفيض بالأحاسيس الصادقة. فجعلوا من الموسيقى الشعرية وسيلة للتعبير عن مكنوناتهم، فكان الإيقاع أحد الميزات الصوتية التي تفردت بها الرقعة الصوفية من الخريطة الشعرية، إذ تتميز بنبرتها الحزينة المُفعمة بالعشق الإلهي والمُشبعة بنغمات الحب المُتدفق ومُترنمة بألحان الوجود الروحاني .وتميز الشعر الصوفي في الأدب الاسلامي بعدد من القضايا والأغراض استقل بها شعراء الصوفية وتميزوا فيها، منها :التقشف والزهد في الدنيا: ويتمحور حديث الشعراء فيه حول الوعظ والتذكير من ناحية والحكمة الدينية من ناحية أخرى، حيث يمثل الزهد أحد المقامات والطرق الموصلة إلى الله. وكذلك الحب الإلهي: ويمثل هذا الاتجاه أكثر المجالات وفرة وارتيادا لشعراء الصوفية، حيث اتخذوا الغرض أداة للاستعانة على بث معاني القرب والتودد إلى الذات الإلهية .وكذلك المقامات: ويستهدف هذا الغرض من الشعر إبراز ما تحقق للعبد من المكاسب الخاصة من خلال مجهوداته وعباداته وما حصل عليه من المواهب الربانية. ثم المناجاة: ويعد هذا النوع من الشعر بمثابة سرد للتجربة الشخصية في التصوف. والمديح النبوي: وهو من أكثر المجالات إنتاجا وإبداعا لدى شعراء الصوفية. ويعتبره الصوفيون من أجل أبواب القربات إلى الله.والتوسل والاستغاثة:وهو من أهم خصائص الشعر الصوفي، ويهدف إلى التماس قضاء الحاجة بواسطة النبي وبغيره من الأنبياء والأولياء الصالحين عند الله. وأيضا مدح الشيوخ: ويستهدف هذا اللون إطراء شيوخ الطرق الصوفية وإبراز مآثرهم وكراماتهم بغرض إثبات أحقيتهم في التقديم والتبجيل . ويمكن القول ان بين الشعر والتصوف علاقة قديمة توجد  في أشعار الحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية والشريف الرضي وابن عربي وسواهم، قبل أن تتخذ في الشعر العربي الحديث طورًا آخر جديدًا من الصياغة والبناء في الممارسة والنظرية . وقالت رابعة العدوية

في محبتها للإله /

أحبّكَ حُبَّينِ حُبَّ الهَوَى

وحُبّاً لأنكَ أهْلٌ لِذَاكَ

فَأمَّا الذِي هُوَ حُبّ الهَوى

 فشُغْلِي بذكرِكَ عمَّنْ سِوَاكَ

وأمَّا الذِي أنْتَ أهْلٌ لَهُ

فكَشْفُكَ لِي الحُجْبَ حتَّى أرَاكَ

علما ان التصوف تبلور في نهاية القرن الثالث الهجري، كمذهب ديني فلسفي يسمو بالروح والوجدان، بما فيه من اصطلاحات وعبارات لها دلالتها الخاصة في الفكر الصوفي، وكان للشعر نصيب الأسد في الأدب الصوفي، وقد برع شعراء الصوفية في التعبير عن تجاربهم الروحية والوجدانية مع خالقهم، هذه التجارب هي التي أثرَتْ مواهبهم . وان الشعر الصوفي لاقى في الثقافة العربية، شهرة واسعة وترك أثرًا عظيمًا لاهتمام الباحثين به منذ وقت مبكر، إضافة إلى القالب الموسيقي الجميل  كما انتهج شعراء الصوفية منهجاً لغوياً، وفلسفياً خاصاً بهم، فأصبحت هويتهم الشعرية، والفلسفية، متميزة عن غيرها، واضحة وضوح الشمس . ومن النماذج الشعرية لشعراء صوفية:قال الحلاج /

أُقْتُلُوني يا ثقاتـــي

 إنّ في قتلي حياتـي

ومماتـي في حياتـي

وحياتي في مماتـي

أنّ عنـدي محْو ذاتـي

 من أجّل المكرمـات

وبقائـي في صفاتـي

 من قبيح السّيّئــات

سَئِمَتْ نفسـي حياتـي

 في الرسوم الباليـات

فاقتلونـي واحرقونـي

 بعظامـي الفانيــات

ثم مـرّوا برفاتـــي

 في القبور الدارسـات

تجدوا سـرّ حبيبــي

 في طوايا الباقيــات

وقال ان الفارض /

لَها البَدرُ كأسٌ وهي شمسٌ يُديرها

  هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجتْ نَجْمُ

 ولولا شَذاها ما اهتديتُ لِحانِها

ولولا سناها ما تصوّرها الوَهْمُ

 ولَمْ يُبقِ منها الدهرُ غيرَ حُشاشةٍ

كأنّ خفاها، في صدور النُّهى، كَتْمُ

فإن ذكرتْ في الحيّ أصبحَ أهلُهُ

  نشاوَى، ولا عارٌ عليهم، ولا إثمُ

ومِن بينِ أحشاء الدّنانِ تصاعدتْ

وَلَمْ يبقَ منها، في الحقيقة، إلّا اسمُ

والحقيقة لا بد لي من القول أن التجربة الصوفية واسعة خصبة تنتشر بغزارة في عروق الفنون المعاصرة انتشارًا واسعًا وربما يحتاج هذا إلى متابعات نقدية متعددة تقرأ النصوص بمحبة تليق بها، وتعطيها ما تستحقه من مكابدة في التلقي والتأويل لتكشف أسرارها وتستقبل على مرآة القلب ما تمنحه النصوص من البشارات والفتوحات والتجلي .

 

المشـاهدات 94   تاريخ الإضافـة 14/05/2024   رقم المحتوى 45801
أضف تقييـم