النـص : بين فن القصة القصيرة , والمتن الحكائيّ المنساب لسرد حدث ما بشخصياته وتفاصيل أحداثه لإيصال الفكرة أو الرسالة كما هي دون إحالات دلالية , فرقٌ يتجلى في أسلوب التعامل مع الثيمة الحكائية من أجل أن ينجز المبدع نصّه متّسقا مع المفهوم النظري الحديث لفنّ القصة القصيرة , لذلك حين نقرأ " قصة " تقليدية , تمهّد , وتصعد بالحدث إلى ذروته , ثم تنزل به إلى نهاية مقنعة , نشعر بأننا أزاء حدث متسلسل لا ينطوي على مهارة كبيرة , ولا يأخذ المتلقي إلى دلالات خارج رؤية القاص , وما سعى إليه في نصّه ,حتى لو كان خياله جامحا, لذلك حين انتهت مرحلة الرواد في القصة القصيرة وأذكر منهم " محمود احمد السيد وأنور شاؤول وذو النون أيوب وعبد الحق فاضل وغيرهم " الذين تميزت نصوصهم بتقنيات بسيطة مأخوذة في الغالب مما قرأه كتابها من آداب مترجمة , أخذت القصة القصيرة في العراق في ستينيات القرن الماضي تحديدا , آفاقا أكثر سعة في تناولها الفني , ولست هنا في باب الاستعراض التاريخي للقصة العراقية وموقعها وتأثيراتها وتأثراتها بالقصة العربية أو العالمية , فلهذا الأمر اشتغالات تخصصية لا أزجّ نفسي فيها , لكنني لاحظت كتابع وقاريء , أن السرد حقق تقدما مهما على الصعيد الفني , وصارت له رؤاه المثيرة للجدل النقدي الذي حصل مع سعي عدد من القصاصين وفي مقدمتهم المبدع الكبير محمد خضير , والراحل محمود جنداري , في تشويش المعاينة النقدية للنص السردي , ومازلتُ أتذكر الجدل النقدي الذي دار حول قصة "رؤيا برج " التي نشرها الكبير محمد خضير في مجلة الأقلام منتصف الثمانينات , حينها كتب بعض النقاد
المعنيين بالسرد عن قضية التجنيس الفني لهذا النص , الذي ابتعد في آليات إنجازه عن المفهوم المتعارف عليه لفن القصة القصيرة , ثم ظهرت بعد ذلك نصوص قصصية تجاوزت الأطر وحققت قبولا , ومازال التطوّر متاخما لهذا الفن الصعب , الذي يراه بعض المبدعين أكثر صعوبة من فن الرواية .
لا أريد المضي في الحديث عن مراحل تطورات القصة القصيرة في العراق , وكذلك تحولاتها المهمة التي أشير إليها في أكثر من مؤلّف لعدد من النقاد والأكاديميين , ولعل أبرزهم في مواكبة هذه التحولات الناقد الراحل الدكتور عبد الإله أحمد وكذلك الناقد المثابر الكبير ياسين النصير , بل أريد الإشارة السريعة والاحتفاء بالمنجز القصصي لصديقي المبدع فارس الغلب ومجموعته القصصية الجديدة " فستان مونيكا " التي صدرت مؤخرا عن دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع في الموصل وضمت أحد عشر نصّا قصصيا , أول ما يلفتُ بها عناوينها الخارجة عن المألوف في معظمها , مثل " وتر للملح والصهيل " أو " أنامل هيتشكوك في شبار " وغيرها , وما يجعل الغلب ابنا بارا للتجربة الجديدة في فن القصة هو ابتعاده عن الرؤية التقليدية والأسلوب الحكائي المباشر , ونسجه للنص باعتماد المفردة المجنحة المحلقة والجملة السردية التي لا يمكن الامساك بها بسهولة , لكنها مع الملامح الأخرى للسرد تحقق انتماءها الدقيق لفن القصة القصية , فهو يقول في قصته التي حملت عنوان المجموعة " فستان لمونيكا لوينسكي " :
يشقّ ومض العدسات جيب الصمت في ساحة قصر الريش المهجّن , يصعق لحم أفعى الغواية , نوء الكريستال فوق ورد المكيدة , فستانها اللازوردي الداكن , المغزول من الاشتهاء , ومن زغب الثريا " ..هذا هو مدخل أطّول قصة في المجموعة , وليسمح لي الغلب لأقول وأهم قصص المجموعة أيضا , ربما يجد القاريء المتعجل في هذه الجمل العصية على الإمساك عبثا في اللغة , أو مجانية في التعبير , وهو أمر قد يثقل عملية السرد القصصي , الذي اعتدنا على أن يكون بلازة " كان ... " أو " ظل ...." أو في أحسن الأحوال جملة استهلال وصفية تجذب القاريء , هذا الأمر طبعا يأتي في النص القصصي التقليدي , لكن المبدع فارس الغلب يثري موضوعاته بالمجاز واللغة البعيدة عن المباشرة في إتقان سردي ومهارة في صياغة مسارات أحداث نصه , ومن المؤكد أن هناك نقاطا أخرى في اشتغاله القصصي , ربما سأتولى الحديث عنها في إشارات قادمة , لكنني اود وأنا أشير إليه أن ألفت نظر النقاد والمعنيين بفن القصة القصيرة الجديد , لأن يعاينوا تجربته المهمة وأن يعطوه حقه النقدي وقيمته الإبداعية التي يستحقها بجدارة .
|