شرفات بين النقد والتدريس ---------------------------------- في تدريس الأدب تعمل العلاقة بين الأستاذ والطالب لتقرير قيمة منهجية مميزة في مؤلفات النقد الحديثة فإلى جانب صياغة طريقة في المواجهة وتداول أساليب الطرح وتقصي الآراء والمعلومات باختبارها في مستويات التلقي والحوار والمناقشة والاختلاف كما يقول امبرتو ايكو ldquoوتعلمت أن على المرء أن لا يؤلف كتاباً ويجعله أساساً للتدريس بل عليه أن يفعل العكس : درّس أولاً لثلاث أو أربع سنوات ثم إذا واتاك الحظ، ابدأ بالتأليف خلال فترة محاولتك جعل الصف يفهم أفكارك، أي خلال فترةrdquo المغازلة rdquo تحصل على ردود فعل مختلفة، وتعمق بذلك فهمك لما تقول، إذ بينما تحاول أن تشرح للطلبة وتقنعهم فانك تشرح لنفسك وتقنعهاrdquo. إن من المهم أن تُفعّل آلية التداول في طرح الأفكار واختبارها عبر علاقة غير اعتيادية، هي علاقة متغيرة رغم ما يحكمها من ثوابت حيث الطابع التلقيني المعتاد في موقع الأستاذ، وقد أثرت فيه كثيراً استراتيجيات مختلفة من تبادل الأدوار، أولاً الحد من سلطة هذا الموقع عبر ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968، وذلك منسجم في الخروج على سلطة المؤلف بموته عند البنيويين وزعزعة المركزية التقليدية حتى في تقصي المعنى عند أصحاب نظريات التأويل التي خرجت على تقليدها القديم المتبع في تفسير الكتب المقدسة من حيث أن المعنى واحد، يعود إلى الإله، أو أن المؤلف قد اكتسب صورة الإله الذي يقتضي استرداد قصده في المعنى الذي أرسله وقد خرجت آليات القراءة عن هذا البعد الأحادي إلى تعددية وشيوع قوّيا من مركز الطالب بوصفه قارئاً كذلك ما آل إليه تفكيك المتن والبحث عن قيم الهامش والمختلف، وانتشار وسائل التوصيل والاتصال واندثار الصورة التلقينية التي تحكم المعرفة، وهكذا تتوزع العلاقة بين الطالب والأستاذ إلى عمليات شد وإرخاء، أو جذب وطرد في أشكال جدلية متنوعة من الحب والنفرة ومن تجربتي في التدريس في الجامعة أقول لابد من قيام آلية مواجهة تعتمد غزو الآخر لاكتساب رضاه في الدخول بهذه العلاقة حيث يعد الانصراف عن الدرس شكلاً من أشكال الرفض، وهكذا تعمل المحاضرات الأولى على كسب جولة في الإقناع واتساع الصلة التي يمكن أن يستثمرها الطالب النجيب لاستمرار التفاعل، وفي ذلك معنى من معاني التطويع والإخضاع بوسائل جذابة للمجهول، إذ أن المعرفة تعد دائماً بمتعة غائبة لابد من اصطيادها بطعم. وفي التدريس هنا شكل إغواء لكن لا إلى معرفة أحادية بل إلى معرفة متسعة. يقيم روبرت شولز سلسلة تبادلية في تعليم الإنسانيات، تتضمن تبني أدوار اجتماعية بصدد النصوص، هي: المؤلف، والناقد، والمعلم، والطالب، ليس لهذه السلسلة تراتبية وان كانت تدخل في وجوه القارئ المتعددة أو أقنعته التي تقابل النص بنوع من التفاعل مختلف، وتفرض معها تقاليد وأصولاً، يظهر أثرها في المعنى المبحوث فيه سيميائياً أو تأويلياً وثمة التقاء وتفرع في الاتجاهات والجذور والاهتمام بالطالب غير مقتصر على هذه السلسلة بل في توجيه الكتب نفسها. وإهداء شولز كتابهrdquo أريد أن أهدي هذا الكتاب إلى المعلمين الذين في صفوفهم بدأ اهتمامي بالشعرية والسيمياء ولكل الآخرين الذين غالباً ما أعطوا في حالتي أفضل مما اخذوا ldquo، وهمه التعليمي حاضر في توجيه أفكاره أيضاً وانشغاله بالتوضيح والكشف عما في المناهج الحديثة من صعوبات في التأسيس الفكري وآليات التطبيق والمفاهيم المستثمرة، باشكاليتها الاصطلاحية أيضاً وبحسن التوظيف وفي هذا تستدعى نماذج عديدة من اللغة النقدية المكتوبة تحت هاجس التعليم، خاصة في مؤلفات نقادنا منذ بدايات تأسيس الجامعة فلغة طه حسين النقدية مثال على طابع التكرار والإعادة وتقليب المسألة من جوانب مختلفة للإيضاح، خاصة في المؤلفات التي اعتمدت في جمعها لتكون محاضرات وهي كثيرة. يصف رولان بارت نفسه أنه أقرب إلى مجلة تيل كيل منه إلى أن يكون محتضناً من الكوليج دي فرانس، بأنه عنصر قلق، ذلك لما تقتضيه هذه الدار من دقة وبحث منتظم في حين يتمثل طرحه بنوع من قهر صعوبة فكرية تجعله يسوق تساؤلات حسب هواه، إلا أن إشارته إلى التقليد الذي يفترضه نظام الكوليج والكتاب الذين يعلمون فيه الشعر بالخطورة فعلا فالتأسيس الأكاديمي غير سهل بالمرة، وان كان يعطي طابع حرية، يعبر عنه بارت، بأنه يشكل من بين المؤسسات أحد الأشكال الأخيرة لمكائد التاريخ. في الحقيقة يصف بارت خصوصية الممارسة العلمية في المؤسسة الجامعية من خلال السلطة، فثمة وضع جديد لتدريس الآداب بعد التمزق بين ضغوط المتطلبات التكنوقراطية والرغبات الثورية للطلاب. إن شكل التدريس إذن، هو الآخر قد اتخذ استراتيجيات مختلفة داخل الأطر، ولم تعد العملية التدريسية فعلاً متواتراً، وإنما يخضع للتقويض الذي خضعت له مظاهر السلطة المتعددة، منها اللغة نفسها التي تُعتمد في التوجيه وإذا كانت الغايات التي ينبغي أن يحققها التدريس متعددة فان الوصول بهذه الغايات إلى الشكل الذي يستوعب مهامه الأولى أمر غير يسير أبداً. فثمة ما يحول إلى تاريخ أدب من منطلق الضم إلى المعارف المعتادة من الطرح النقدي الحديث المختبر في مفردات قد استثمر تقديمها العلمي إلى الطلاب. وبتاريخ الأدب تخرج عملية التدريس من مراحل تغييرها إلى نقطة ثبوت معدمة وقارة قابلة للتجاوز بعد استنفاد ما كان في جزء كبير منه دوراً من أدوار الموضة. في التدريس إلى جانب العمل الجاد نوع من اللعب يتضمن صياغة ما بها سرعان ما يتحول الأستاذ إلى مؤرخ صارم في ثبوتية ترتيبه القيمي يكون بذلك قد انغلق في مدار ضيق وأصبح من مأثورات المتحف المحاصر بالأزمنة والحدود. إن هذا الحاجز يخلق نوعا من الانقطاع والغربة، وفي ذلك يمكن تخيل صورة المعلم أمام تلاميذه بالوثن الذي يراقب نهراً جارياً مسرعاً في تغيره، في حين ينكفئ هو في خلاصات قاتلة، تجعل منه صورة أخرى للإله الذي انتهى البحث عن معناه الواحد، أو المؤلف الذي قتلته مرحلة التحديث المنهجي الذي ينصرف إلى فسحة الإمكان المستمر إلى ما لا نهاية حيث المجهول الذي تنفتح إليه كل المعاني . ---------------------------------- فنارا أضيف بواسـطة : addustor المشـاهدات : 601 تاريخ الإضافـة : 16/03/2020 آخـر تحديـث : 29/03/2024 - 03:07 رابط المحتـوى : http://addustor.com/content.php?id=5402 رقم المحتوى : 5402 ---------------------------------- جريدة الدستور Addustor.com