الخميس 2024/4/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
بلال المازني.. هل يعيش المسرح التونسي أزمة؟
بلال المازني.. هل يعيش المسرح التونسي أزمة؟
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

تقف المسارح الرومانية بالجم ودقة وبلاريجيا وقرطاج الشامخة، صرحا عاليا وشاهدا على التاريخ الفني الضارب في عمق آلاف السنين، وهي رمز الفن الذي زرعه الرومان في قرطاجنة، ومنارات تحدت الزمن لتذكّر بأهمية الفن وعراقته في تونس.فقد تشكل المسرح التونسي منذ عهد الرومان، حيث يروي المؤرخ التونسي عثمان الكعاك: "إنما نشأ المسرح التونسي لأول مرة على عهد الرومانيين. أي: منذ عشرين قرنا عندما أقبل سراة القوم والنخبة المفكرة وعامة الجماهير على المسارح التي أنشأها الخواص أو المجالس البلدية في كل مدينة من المدن التونسية.. لا نعلم أن للبربر تمثيلا، وهم أقدم سكان شمال أفريقيا، قد ظهروا به منذ العصر الحجري الجديد أي في عهد سابق لفجر التاريخ، ولربما كان لهم تمثيل قد ضاعت آثاره ولم تصلنا أخباره لأن البربري بطبيعته مغرم بحلقات الفن" بعد قرون من الزمن، قارعت مدرجات تلك المسارح الزمن حتى لا تبقى فارغة، لكن في المقابل تواجه المسارح "الحديثة" في تونس أزمة الكراسي "الفارغة" منذ قرابة عقد من الزمن. فهل يعيش المسرح التونسي أزمة؟ وهل هي أزمة وعي الجمهور أم مشكل في النص؟ يبدو أن المسرح التونسي بحاجة إلى خط نسخة ثانية من "البيان الحادي عشر" الذي أصدرته مجموعة من المثقفين الشبان في فترة الستينات، والذي دعا إلى إعادة هيكلة الفضاءات المسرحية حتى تستوعب جماهير عريضة من "أجل ضمان الوظيفة الاجتماعية لمسرح الإيقاظ والتوعية" و" إلى تطبيق سياسة اللامركزية الثقافية في توزيع المسارح وبنائها، وتقريبها من المواطنين، مع ضرورة تقديم العروض المسرحية بأثمنة تكون في متناول الجميع درئا لكل تفاوت اجتماعي أو طبقي" إذ انتقد البيان مسرح الترفيه الذي "يكرس اغتراب مرتاديه عن الواقع ويمدهم في ذهولهم عن مشكلات الحاضر ولا يأبه لما تعانيه غالبية الشعب.. وتأسيس مسرح ينشر الوعي بالحاضر في إطار لا مركزية تحقق العدالة في المجال الثقافي". مر أكثر من نصف قرن على إصدار هذا البيان التاريخي الذي كانت نتيجته تأسيس شركات مسرحية وفرق مسرحية تونسية جهوية أنتجت أعمالا مسرحية خالدة، لكن من المفارقات أن تلك المطالب العميقة من أجل غرس الفن الرابع في الثقافة الشعبية، تقابلها اليوم مطالب "اجتماعية ومهنية" تمثلت في تجديد عقود عمل أعضاء أعرق الفرق المسرحية، فمنذ أشهر قليلة فُجع محبو الفن الرابع في تونس بخبر فاح في وسائل الإعلام المحلية وهو تهديد بحلّ فرقة "مدينة تونس للمسرح"، إحدى ركائز المسرح التونسي التي تأسست في العام 1955، أي قبل فترة وجيزة من الاستقلال وأنتجت مسرحيات خالدة في ذاكرة التونسيين مثل "المارشال عمار" و"عطشان يا صبايا". والمضحك المبكي هو أن خطر حلّ تلك الفرقة التابعة لبلدية تونس كان بسبب تقييم رئيسة البلدية لعملها، والتي خلصت إلى أن الفرقة التي لم يتبق منها سوى ثلاثة مسرحيين مهددين بإنهاء عقودهم مع الفرقة، بعد أن كانت تضم أكثر من ثلاثين ممثلا مسرحيا، لم تعد قادرة على تقديم إضافة وأن إنتاجها ضعيف، وأثار هذا التقييم حنق المسرحيين مستغربين طريقة التقييم "الإداري" البحت للإنتاج الفني. تلك الأزمة لم تكن سوى الشجرة التي تحجب الغابة، فأزمة "فرقة تونس للمسرح"، والتي سبقتها أزمة فرق جهوية أخرى صمتت عن الإبداع، ما هي إلا غيض من فيض، فالفن الرابع في تونس يعاني من أزمة شاملة، فرغم أن المسرحيين يستبعدون وجود أزمة على مستوى النص والإخراج، ويرجعون المشكل إلى أسباب خارجة عن العمل الفني مثل الصراع بين المسرحيين وضعف الدعم المادي الذي تقدمه وزارة الثقافة، فإن البعض الآخر يعتقد العكس، إذ يرجع نقاد كثيرون أزمة المسرح التونسي التي يمكن القول عنها أنها احتدت منذ أكثر من عشر سنوات، إلى محاولات تسييس الفن الرابع وضعف أعمال كثيرة على المستوى التقني والإبداعي التي قد تكون نتيجة للتصحر الثقافي الذي عاشته تونس خلال حكم بن علي الذي مارس نظامه رقابة على كل عمل إبداعي. يقول الممثل والمخرج محمد العوني في إحدى حواراته الصحفية إن المسرح التونسي يواجه "قاعات عرض فارغة وغياب واضح لجوهره الدرامي، شخوصه باهتة، ولسانها هجين او معتم وغريب، وقصصه غامضة ومبتورة، وصناعه يعانون من ضيق في الخيال والافق، وأخشى ان يكون التجريب نتيجة فراغ هائل في العقلية الدرامية العربية، فنحن ومنذ ان بزغت شمس المسرح في بلادنا على يدي مارون النقاش، ويعقوب صنوع، وغيرهم من الرواد وهو يعاني من تحديد لماهيته ولدوره فحتى المصطلحات والاسماء فيه جردت من جوهرها" ورغم أن تشخيص علّة المسرح التونسي هو عملية معقدة، ولا يمكن أن تسعها كلمات هذا المقال، فإنه يمكن حصر بعض ملامح أزمة المسرح التونسي الراهنة والتي تستوجب حلولا مستعجلة، في إشكاليتين يمكن أن تتفرع، وهي غياب النقد المسرحي والإقصاء، إذ يرى مسرحيون تونسيون أن المسرح بوصفه مشروع حضاري ضخم، يجب أن يقابله نقد عميق في الحجم ذاته. فالخطاب المسرحي باعتباره لغة قائمة بذاتها يحتاج إلى معرفة كبيرة ودقيقة بجميع عناصرها وبتفاعلاتها في الحدث المسرحي. ويعيب بعض أبناء المهنة على النقاد إصدارهم "لمحاكمات" للأعمال المسرحية، وهو أبعد ما يكون على النقد القائم على التحليل الذي يركّز على تداخل كل العناصر المكونة للعمل المسرحي دون إصدار حكم ما، فالتحليل هو الوجه المحض للنقد الذي يحتاجه المسرح التونسي حتى يتمكن من المساهمة في النهوض بالحركة المسرحية. ويرى آخرون أن أزمة المسرح في تونس ليست مرتبطة بأزمة نص، بل في العلاقة التي تربط بين المسرحيين، فلم يكن الفن الرابع في تونس بمعزل عن "سلعنة المحتوى" وهو يصارع طوفان غزو الفضائيات للمنازل وسيطرتها على جمهور عريض، لذلك يحاول بعض ممتهني المسرح جر هذا الفن إلى تلك "الغزوة الرقمية" عن طريق لا استعمال أسلحتها فحسب بل "الاستفادة" من المحتوى الذي يصنعه "متساكنو العالم الافتراضي"، لكن الأخطر هو ما يواجه الفن الرابع في تونس من أبناء المهنة أنفسهم ، إذ يعيش المسرح التونسي أزمة الرأي الواحد والإقصاء، فقداسة خشبة المسارح ورقي هذا الفن لا تعني قداسة فرقة أو ممثل أو مخرج أو مؤلف، فالمسرح هو احتفال جمعي ونهوضه يتطلب عشقا وحماسا من أجل الوصول إلى الأمثل، وهو عبادة جماعية لكنه أيضا فعل ديناميكي وحيوي. فهو يحمل مفارقة عجيبة فمن خلال الرؤى المختلفة يخلق الانسجام. يواجه المسرح التونسي مسألة فهم القائمين بطقوس الفن الرابع على خشبة المسرح سميت خطأ في اللغة العربية ب"التمثيل" في حين أن " الممثل" هو "لاعب" على خشبة المسرح، فمسألة ارتباط ممارسة هذا الفن بشهادة تخصص تقدم من إحدى جامعات الاختصاص هو فعل اقصائي عمّق أزمة المسرح في تونس، فروافد هذا الفن ليست مرتبطة بشهادة بقدر ما هي فعل إبداعي يمكن ان يصدر عن فلاسفة أو شعراء مثلا، فمثل جميع الفنون الأخرى لا يمكن أن يتطور المسرح التونسي ضمن هذه العقلية "السكتارية" أي الاقطاعية التي تحاكم من لم يملك شهادة تخصص أو من لم يمرّ عبر أحد مخابر بعض الفرق، حتى وإن كان زاده الإبداع.

المشـاهدات 688   تاريخ الإضافـة 17/03/2020   رقم المحتوى 5424
أضف تقييـم