الجمعة 2024/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 27.95 مئويـة
الحداثة والمطرقة.. كمال فوزي الشـرابي وأبـوة الحداثة الشّعرية العـربية
الحداثة والمطرقة.. كمال فوزي الشـرابي وأبـوة الحداثة الشّعرية العـربية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

فاتح كلثوم

لا أستطيع الجزم بأنّ قلّة قليلة فقط من قراء الحداثة /شعراء ونقاداً/ يعرفون أنّ الدّمشقي «كمال فوزي الشّرابي» هو من أوائل الشّعراء الّذين أخذوا على عاتقهم -منذ أربعينيات القرن المنصرم- الخروج من تابو «ديوان العرب» لإحلال الشّعر بدل النّظم الّذي حكم الشّعريّة العربية قروناً طويلة بذريعة أنّه «صوت القبيلة، الشّعب،

الأمّة» وصفق له جمهور اعتادت تركيبته الذّهنية الاحتفاء بما تعرفه مسبقاً، وعلى صعيدي المبنى والمعنى، طبعاً مع مراعاة النّقاط المضيئة الّتي سجلت حضوراً داخل هذا الدّيوان، واتهمت -في حينها وإلى الآن- بالزندقة سواء على صعيد البنية الفنيّة للقصيدة، أو على الصعيد الفكري الّذي حاول دحر العقلية البدوية، ومن دون جدوى في كثير من الأحيان أمثال: /أبي نواس رائد التجديد في القصيدة العربية والمتنبي والمعري وديك الجن الحمصي، وشعراء التّصوف بشكل عام/ وأسماء أخرى دُثرت أو أهملت لغياب الجهة الرّسمية المـُطالَبة بتبنيهم ومنجزهم الشّعري الّتي كانت وما زالت تؤدي دوراً مهماً بالصعود بالشاعر إلى الجماهيرية حتى وإنّ خالف منجزه ذائقتهم الشّعرية، أو قيم عصرهم، فتلك الذّهنية قد بُنيت على أصول تُمجّد الذّوبان في المجتمع بعيداً عن الهوية الفردية، فالهوية/ الذائقة/ الفكر أي الثّقافة بجميع أنساقها، تنبع من تحت عباءة الفرد الدّيني والدّنيوي الأميري المطلق فقط!، وسوف تطول حتى الّذين حالفهم حظ «التبني» بمجرد أنّ تتغير «العباءة» وبعد ذلك سيتم تداول قصائدهم على أساس بنيتها المتزندقة، أو كما يقال تحت عنوان «اعرف عدوك» حتى وإنّ تمّ إخفاء هذا المصطلح، فـ «أبو نواس» صاحب نكتة ومُثلي وسكير، و«ديك الجن» مريض نفسي، وقد قتل حبيبته وأحرقها وجعل من رمادها دناً لتعاطي الخمرة، وشعراء التّصوف ملحدون تحت ستار الدّين، و«المعري» متمنطق، ومن تمنطق تزندق... إلخ من تلك الألقاب والصّفات الّتي تطول كلّ من يحاول خلخلة «الذّوق العام» أي محاولة الارتقاء بذائقة المجتمع، ما أحدث قطيعة بين التّشكيلة المجتمعيّة العربية المتعاقبة، الشّعبي منها، والنّخبوي الفكري، وإلى الآن، حتى وإن حاول بعض النّقاد الحداثويين فرز الغث عن السمين ومناقشة الموروث الشّعري من داخله، لا من قشوره، وعلى رأسهم «أدونيس» لكن الذّهنية البدويّة الإقصائية ما زالت تؤدي الدّور الأكبر في المنجز الثّقافي الشّفوي والكتابيّ، وإلّا كيف نفسر ظاهرة الرِّدة إلى «النّظم» بشقيه الفصيح أو العامي، وسط تصفيق جماهيري عبّ من منابع العصرنة كلّ قشر يجعل منه «مودرن» وخاصةً لجان التّحكيم الّتي تمنح الجوائز، أمام جمهور افتراضي يتابع حكمتها وحياديتها من خلال الشّاشات الفضائية، العباءة الأميرية الجديدة، وفي الوقت ذاته الّذي تبثّ فيه تلك الشّاشات العري الغنائي، وأفلام الأمركة الهوليوودية، تقف عند الخط الأحمر الشّعريّ الّذي لا يجوز تجاوز بدويته، حتى وإن سُمح له ظاهرياً بالتخلي عن البداية الطللية، ليبدو أمام الجمهور الممزق الذّاكرة والثّقافة، شعراً معاصراً، تلك الذّهنية الأخطبوطيّة بأنساقها الإبداعية والجماهيريّة، هي من جعلت «أبا العلاء المعري» رهيناً لشقّ المحبس الاختياري في الماضي، وحملت المطرقة في العقد الثّاني من الألفيّة الثّالثة للميلاد لتهشيم رأسه الحجري أمام كل شاشات الإعلام الالكتروني، ليس من أجل التّخلص من زندقة تمثاله، بل لتكون رسالة مشفّرة، قادرة على إعطاء رموز إنذار قابلة للقراءة في كلّ عصر حفاظاً على روح (الأّمة/ البداوة) وذائقتها الشّعرية!، ومن لا تطوله المطرقة، سيتم إهماله أو تناسيه، أو إبعاده بجميع الطرق المتاحة، وأهمها عودة المطرقة لقرع طبل مفرغ من علاماته الموسيقيّة بجانبه لإخفاء ذاك الصّوت المبشّر-المبدع، ليس عن الجماهير فحسب، بل عن عقول أجيال «مثقفة» تظنّ نفسها أنّها تخلت عن التبعيّة بمجرد التخلص من سوق النّحاسين الفراهيدي، أو بمجرد توهم التّخلي عن «الجدّ»، أو اعتناق الوجودية، أو الواقعية الاشتراكية، أو البنيوية... إلخ كخطوط حداثوية، وحتى وإن بدا هذا الظّن ذا جدوى معاصرة في بعض الأحيان، لكن صوت «الطبل الحداثوي» بات يبعدنا عن الآباء الحقيقيين المعاصرين، ويدخل الشّعرية العربية في مرحلة «اليتم» وبكلّ غرور الجاهل، حتى وإن اعتُقد أنّ الخال أو العم هما البديل المناسب، وخاصة أن القصيدة الحديثة العربية، متعددة الآباء وقتل أحدهم أو تجاهله أدخلها في مرحلة «اليتم» بكل أعبائه البنيوية، لأنّ الأب الحقيقي الشّرعي وكلّ ما أخذنا بأبوتهم قد يكونون من صلبه، وبإهماله قد تفقد الشّعرية العربية الحداثوية شرعية الانتماء من صلب إلى صلب، وبذلك لا تدخل طور اليتم فحسب بل ستقف في طابور الإبداع الحداثي كابنة حرام، ليس بمعنى تجاوز الأجداد، وإهمال الأب بغية الارتقاء والتّجديد، أي ليس بالمعنى الإيجابي لما تحمله تلك الصّفة من ألقٍ للشعر بشكلٍ عام، بل بالمعنى السّلبي، المعنى الّذي سيدخلها في العار ويجعل منها لقمة سائغة لتهتك عرضها، ورأسها بأيدي الذّهنية البدوية، وقد يكون هذا قد حدث ويحدث للقصيدة العربية الآن، أو يكون من ضمن الأسباب الّتي تساهم في ذلك، وإلى الآن مع الأجيال الشّعرية المتعاقبة، وخاصةً أنّ المطرقة ما زالت على أهبة الاستعداد لتحطيم الرّؤوس، ومازالت جاهزة لاستقدام الطبول، ومازالت على أهبة الاستعداد لتحطيم زردة من سلسة الحداثة، وتغييب «كمال فوزي الشّرابي» ومثله الكثير من ذاكرة الحداثة، هو أحد أسباب أزمتها الحالية، فصاحب ديوان «قُبل لا تنتهي» الصادر في العام 1961، الشّاعر الّذي عاصرناه عجوزاً أنيقاً، وكنّا نلتقي به كطيف في شوارع دمشق، ونظنّ أنّه من الشّعراء الّذين وافاهم «عبقر الشّعر» بعد إحالتهم على التّقاعد، وكانوا هؤلاء من الكثرة حيث تصعب متابعتهم، وخاصةً أن معظم هذا اللفيف المتقاعد كان يحمل المطرقة المتصابية في وجه الحداثة، لذا كان الأجدر بنا تجنبهم لمصلحة أعلام الحداثة، فأعلام الحداثة ممن جاد النّقاد والإعلام بهم، هم الأجدر بالمتابعة من قبلنا نحن أبناء الجيل الثّالث من أجيال الحداثة الشّعرية، كما أطلقوا علينا، وكان المقهى هو بورصة النقاش بكلّ ما نعرفه عمن سبقونا من تلك السلسلة القصيرة، حتى وإن كان البعض منهم مجرد طبول حداثة، من دون أنّ تُذكر على أقل تقدير قصيدة «العذارى» الّتي نُشرت في مجلة «عبد الغني عطري» /«الصّباح» العدد 51/14 ك1 عام 1942/ وسبقت أي قصيدة من شعر التّفعيلة، أو الشّعر الحرّ بشكلٍ عام، وهذا النسيان أو التّجاهل أخسرنا متابعة الإنتاج الشّعري للشاعر الدّمشقي «كمال فوزي الشّرابي» المولود في عام 1923 الّذي أبدعها منذ بداياته المحمّلة بهاجس التّجديد، فقد أسس في عام 1935 مجلة «الصّرخة» وهو طالب في «الكلية العلمية الوطنية» في دمشق، وفي العامين 1946 -1947 أصدر «الشّرابي» في مدينة اللاذقية مجلة «القيثارة» الّتي كانت حلقة الوصل بين مجلة «أبولو» المصرية ومجلة «شعر» اللبنانية رائدتي الحداثة في الشعر العربي المعاصر، وكان ينشر في «القيثارة آنذاك /عمر أبو ريشة، سعيد عقل، بدوي الجبل، أمين نخلة، نزار قباني، أدونيس، نديم محمد وسواهم/.

في عام 1966 انتقل «الشّرابي» إلى بيروت وسوف يكتب عنه «سعيد عقل» في مجلة «لسان الحال» /9-آب – 1972/ بعد صدور مجموعته الثّانية (الحرية والبنادق): «يردُّنا -أيّ الشرابي- إلى أيام الصّبا، يوم التقينا في جامعة دمشق، حيث كُنّا نحاضر، ذاك الفتى الشّاعر.. هذا الشّاعر المنشرح الجنان هو اليوم في عز النّضج. يكتب -أحياناً- كما الآلهة، ويبقى طفلاً».

في عام 1999 وبعد أنّ عاد إلى مدينته «دمشق» أصدر مجموعته الشّعرية الثّالثة والأخيرة (قصائد الحبّ والورد)، أمّا على صعيد الترجمة فقد أصدر «الشّرابي» مجموعة شعرية للاسباني «أولفو غوستابو بيكر» وروميو وجوليت لـ «شكسبير» وفاوست لـ «غوتة» ومجموعتين شعريتين لـ «عزمي موره لي» ودراسات أدبية وعلمية معمّقة للكاتب الأمريكي «كارل إي شورسكه» وملحمة العهد المعاصر من سبعة أجزاء للشاعر «نهاد رضى»، إضافة إلى ترجمات عديدة أغنت الصّحافة والمجلات العربية بموضوعاتها المنتقاة والمميزة، إضافة إلى دراسات نقدية لم يتوقف عن نشرها حتى وافته المنيّة وحيداً بمنزله في دمشق بتاريخ 23/ك2 /2009، من دون أنّ يدري به أحد، تاركاً لنا -أيضاً- 29 مساهمة غنائية، أخذ «السّراج» الحصة الأكبر منها أداءً وتلحيناً، ووصية يطلب فيها أن تدون على شاهدة قبره الأبيات:

«هنا يستريح كمال الشّرابي/ من الكذب والظلم والاغتراب/ هنا شاعر أحبّ الشآم/ وغنّى لها في الرّضا والعذاب/ لها بالوجود وما في الوجود/ من المغريات الملاح العِذاب/ ويسألك الآن ،يا ربّ، عفواً/ وسُكنى بظلّ الجنان الرّحاب». فأي ظلم لحق بـ «الشرابي» بالرّغم من تلك المسيرة الفنية بعطاءاتها؟!! والسّؤال يتوسع بحيرته، عند السّبب الّذي غيّب «الشّرابي» وتجربته الشّعرية والنقدية عن جلسات ومكتبات جيلنا «الحداثوي» وما تلاه من شعراء، أهو غياب النّقد أم تجاهل الإعلام له لأسباب بقيت تحت «الحصيرة» كما يقال، أمّ إنّ جيلنا الّذي أغراه تداول السماء الحداثوية الأخرى، وقلّة الوفاء للكثير من حلقاتها، ومن منطق الغرور لا أكثر، هو من ساهم في تغييب «الشّرابي» قبل مناقشته داخل تجربته، وهو الّذي كتبت عنه «هيام كيالي» ذات يوم من عام 1961 أيّ منذ صدور مجموعته الأولى «بأنه شاعر عملاق للمرأة والإنسانية والحياة والوطن وأن مستقبل نزار قباني في خطر لظهور شاعر ينافسه»، كما ورد بقلم «غسان كلاس» في الكتاب التوثيقي الّذي تحدث عن «الشرابي» والصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب عام 2015، وقد خاطبه «نزار قباني» قائلاً: «أنت يا كمال شاعري الأثير ورفيقي في الدّراسة والشعر وصديقي بالروح وتبقى أكثرنا نقاءً...»، وقد يكون الأكثر جدارة بأبوة الحداثة الشّعرية العربية، حتى وإنّ اختلفت ذائقتنا معه، لكنّ للمطرقة رأياً آخر!.

المشـاهدات 763   تاريخ الإضافـة 11/04/2020   رقم المحتوى 5990
أضف تقييـم