أضيف بواسـطة addustor

يقترن التجريب في المسرح بالبحث عن صيغ وتقنيات جديدة لمكونات العرض المسرحي، وبالأسئلة التي تسعى إلى تغيير السائد والمألوف والبحث عن إجابات جديدة غير تلك التي جفت وتكلّست، وتحمل بدورها أجنة أسئلة أخرى. لكن التجريب ليس تيارا أو اتجاها محددا، بل هو مفهوم وحركة وظاهرة عالمية لا تقتصر على بلد دون آخر، وقد اتخذت دلالات عديدة منذ ظهور المصطلح واستخدامه أواخر القرن التاسع عشر.إذا كان التجريب المسرحي في بدايته قد طال الشكل، فإن سمته الأساسية في مرحلة لاحقة تجلت في محاولة الانفتاح بالمسرح على بقية الفنون، وفي خلق علاقة مختلفة مع المتلقين، وتوسيع هامشه. وبذلك أخذ التجريب منحى جماليا فنيا ومنحى أيديولوجيا.وارتبطت حركة التجريب في المسرح بتطوّر العلوم الإنسانية وتأثيرها على مناهج قراءة المسرح، وحاولت إعادة النظر في شكل المكان المسرحي، والخروج من العمارة المسرحية التقليدية إلى أماكن أخرى، والاهتمام بموقع المتلقي من العرض، وبالعلاقة بين الخشبة والصالة، والإفادة من التقنيات المتطوّرة في مجال الصوت والإضاءة، واستخدامهما بمنحى درامي، والتعامل مع النص المسرحي بوصفه محض عنصر من عناصر العرض يمكن العصف به، أو اختزاله، أو تفتيته، أو تحويله من خطاب أدبي إلى خطاب بصري.

غزو المجهول

بيّن كبار المسرحيين والنقاد في الغرب رؤاهم للتجريب المسرحي وأهميته، كلّ حسب اجتهاده وتجربته، وحاول الكثيرون منهم وضع تعريف له، وتحديد معناه فنيا وفكريا، لكنه ظلّ عصيا على تعريف جامع مانع.ويبدو لي أن المخرج والناقد الإنجليزي جيمس روس- إيفانز قد حسم الأمر بقوله “أن تكون تجريبيا يعني أن تقوم بغزو المجهول، وهذا شيء لا يمكن التأكد منه إلاّ بعد حدوثه”. ومن الواضح أن إيفانز لم يكوّن رأيه هذا إلاّ بعد أن خاض غمار التجريب سنوات طويلة، وقدّم الكثير من العروض ذات الطابع التجريبي.أما مارتن أسلن فيؤكّد أن المسرح، كأي شكل فني، يصبح، من دون التجديدـ مهددا بالركود والموت، ويصيب الجمهور بالملل، ولما كانت الحياة هي التغيّر، والمجتمع هو نهر متدفّق، فإن ثمة حاجة ملحة للتجريب من أجل مواكبة الحاضر وأوضاعه المتغيّرة اجتماعيا وسياسيا وتكنولوجيا وأيديولوجيا.وبعد نحو أربعة عقود طرح المخرج والمنظّر الأميركي المخضرم ريتشارد شيكنر تصوّرا مقاربا، في دلالته، لتصوّر إيفانز حين قال إن المسرحي التجريبي هو الذي يظل دوما يخترق الحدود ذهابا وعودة، وإن الحدود ليست مادية فقط، بل هي مادية وفكرية في الوقت نفسه.إذ ثمة أمكنة وأزمنة يتعيّن فيها علينا أن نعبر هذه الحدود، أن نفكّر في ما قد لا يخطر على بال، أو ما قد لا يصدّقه عقل، وأن نمثّل في عوالم الخيال ليس فقط ما يحدث الآن، بل أيضا ما سوف يحدث مستقبلا، فالتجريب الفني يتأسّس على التجسيد، وتوظيف الرمز والاستعارة، واللعب على كل أوتار الخيال البشري، بهدف دفع الحدود مسافة أبعد، وتوسيع الآفاق، ومساءلة العقائد القائمة وتحدّيها، ولإظهار كيف يمكن للناس العبور مرارا وتكرارا، جيئة وذهابا، بين الفعلي والمتخيل إلى ما لا نهاية.

العرب والتجريب

لكن المسرحيين العرب لم يركنوا إلى هذين التصورين، وغيرهما من التصوّرات التي طرحها مسرحيون مجرّبون ومنظّرون كبار في العالم، بل تجادلوا وتساجلوا حول تحديد مفهوم التجريب المسرحي في أكثر من مناسبة، وكانت الدورات الثلاث الأولى لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي محضنا لجدالاتهم وسجالاتهم.وقد تباينت تحديداتهم، فمنهم مَن رأى أن التجريب معناه التمرّد على القواعد الثابتة، وهو مرتبط بالديمقراطية وحريةِ التعبير، وذهب قسم آخر إلى أن: التجريب يقوم على المزج بين الحاضر والماضي، وأن التجريب انفتاح على ثقافات الآخرين، وقال آخرون “كل مسرحية تتضمن نوعا من التجريب”، وأن “التجريب مرتبط بتقنية العرض” و”التجريب عملية مختبرية” في ما ذهب غيرهم للتأكيد على أن “التجريب فن الخاصة وجمهور المثقفين” وأن “التجريب تجاوز للركود”.وثمة من اعترض على الخلط بين مصطلحي “المسرح التجريبي” و”التجريب المسرحي” في العالم العربي، عادا إياهما مصطلحين متقاربين في اللفظ، ومتباعدين في المعنى، ورى أن هذا الخلط ناتج عن التباس غذّى وهما كبيرا وخطيرا في الساحة المسرحية العربية الحديثة مفاده وجود شيء يسمى “المسرح التجريبي”، في حين لا يمكن أن يكون له وجود حقيقي أبدا.وذلك بحكم أن ما يقدَّم للجمهور دائما، من وجهة نظره، ليس هو فعل التجريب، ولا هو التمارين الاختيارية التي تسبق الحفل المسرحي، بل النتائج الفكرية والجمالية لفعلي التجريب والاختبار، ذلك التجريب الموجود دائما في كل الأزمان والأمكنة وفي كل الثقافات، بحكم أنه فعل ملازم للإبداع الفني، وملازم للابتكار العلمي، وملازم للاختراع الصناعي.وانتقد صاحب الاعتراض، وهو الكاتب المسرحي المغربي ومنظر “الاحتفالية” عبدالكريم برشيد، الكثير من المسرحيين العرب، ومنهم الكثير من النقاد والباحثين، لاعتقاهم بأن التجريب بعيد جدا عن النظر العقلي، والتنظير الفكري، في حين أن الحقيقة، حسب رأيه، عكس هذا تماما، إذ لا وجود لتجريب جاد وعملي لا تسبقه الفرضيات النظرية، ولا يمكن أن ينتهي إلى نتائج تجري صياغتها في قوانين نظرية أيضا، ولا وجود لتجريب يشكّك في جدوى قوانين المسرح الكائن، من غير أن تكون له القدرة على التنبؤ بالمسرح الممكن، ولا على اقتراح المسرح الآخر.وانطلاقا من هذا الاعتقاد، رأى برشيد أن فعل التجريب المسرحي العربي ظل، على امتداد عقود طويلة جدا، مجرد رفض فوضوي لكل شيء، ومجرد تشكيك عدمي في أساسيات الفعل المسرحي، واستهلاك للتجريب المسرحي المستورد، الذي فقد صلاحيته منذ زمن طويل، وبهذا أصبح هذا الفعل مجرد تسكع في دروب التجريب العالمية.ويذهب برشيد أبعد من ذلك متهما التجريب المسرحي العربي، من دون استثناء، بأنه لعب دورا تخريبيا بامتياز، وأفقر المسرح، ونزع عنه أجمل وأكمل وأنبل ما فيه، ولم يضف إليه إلاّ الادعاءات الفارغة، وحاول أن يقيم عروضه المسرحية على أساس الاختزال.لكن رأي برشيد لا يخلو من تعميم، ووضع جميع المحاولات التجريبية العربية في سلة واحدة، فمن خلال متابعتنا للمسرح العربي، مشاهدة وقراءة، خلال نحو أربعة عقود، نجد أنه قدّم جملة من العروض المدهشة التي اتسمت بـ”التجريب”، وشكّلت إضافة نوعية له بابتكار أشكال ورؤى وتقنيات أدائية جديدة، ومحاولة بعضها الاقتراب من صياغات تشكيلية، بصرية للخطاب المسرحي، وإطلاق العنان للتخييل الحر، والانزياح عن الإطار المرجعي، إذا جاز لنا أن نستعير هذا المصطلح من نقد الشعر، وإضفاء منحى تركيبي على شبكة العلاقات بين الشخصيات والمَشاهد والثيمات وعناصر التعبير الجسدي، بجعلها تتداخل بعضها مع بعض، بحيث يجد المتلقي نفسه أمام نوع من الدهشة والالتباس اللذين يرغمانه على المشاركة في إنتاج البنية الدلالية للعرض المسرحي، أو تأويله.

تجارب عربية ناجحة

من بين أحدث هذه العروض، تمثيلا لا حصرا، العرض الجزائري “جي.بي.أس”، والعرض الأردني “فراغ في فصل خامس”. الأول من إخراج وتصميم محمد شرشال، وهو العرض الفائز بجائزة أفضل عمل مسرحي في الدورة الثانية عشرة من مهرجان المسرح العربي، التي أقيمت في عمّان مطلع العام الحالي.وقد تناول ثيمة ضياع الإنسان المعاصر بين الأفكار والمبادئ، وموقفه من الوقت، وإدمانه الانتظار دون الوصول إلى أي هدف، بل إنه قدّم صورة للإنسان المسخ الذي يتحوّل ويفقد حتى حقيقته، سواء بفعل فاعل أو بإرادته.فالأبطال ينتظرون منذ ولاداتهم الخلاص دون جدوى، والقطار الذي هو رمز الخلاص يمرّ في كل مرة دون أن يستقلّه أحد، فبينما هم ينتظرون ينشغل بعضهم ببعض، لا ينتبهون إلى الوقت، ولا إلى عبور القطار حتى بلوغهم الشيخوخة.وانبنى العرض على لوحات تكاد تكون منفصلة بأسلوب جعله أقرب إلى الفرجة والفكاهة، معتمدا على قدرات الممثلين في الحركة والإيماءات والرقص، أي بكل تعبيرات أجسادهم.أما العرض الثاني “فراغ في فصل خامس” فهو للمخرج الحاكم مسعود، وقد فاز بجائزة الهيئة العربية للمسرح لأفضل عرض في الدورة الثانية من مهرجان رم للمسرح الأردني الذي أقيم في شهر يوليو 2019.وهو عرض ينتمي إلى مسرح الصورة، تحدّده أربعة فصول تشكّل المشاهد الأساسية التي تتماشى وحقيقة الفصول بربيعها وصيفها وخريفها وشتائها، وينسج بناؤها الدرامي جدلية أزمة الكارثة، وكارثة الأزمة، كما لو أن الجميع اتفقوا على أن الأزمة هي مجرد أزمة يعيشونها ويواجهونها صراحة.ويرتكز العرض على تجليات موسيقى الصورة بتفاصيلها في شرح الأزمة ضمن كارثة الفصول، هذه الكارثة الإنسانية التي تتّحد فيها كل طبقات المجتمع في أزماتها المتتالية، والتي أصبح الوعي الإنساني ضروريا في تحديد مفهوم جماعية الكارثة من خلال إدراكه ومحاولة فهمه لجدلية الأزمة التي يعيشها، والمتمثلة بكم هائل من أشكال الضياع والنزاعات المحيطة بالإنسان العربي في فراغ فصل خامس لمستقبل مجهول، لم يتبقّ له فيه سوى الأمل.

المشـاهدات 917   تاريخ الإضافـة 16/06/2020 - 03:32   آخـر تحديـث 29/03/2024 - 14:29   رقم المحتوى 7369
جميـع الحقوق محفوظـة
© www.Addustor.com 2016