الخميس 2024/4/25 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 29.95 مئويـة
الطريق إلى باخمرا: عن رواية "ستة أيام لاختراع قرية"
الطريق إلى باخمرا: عن رواية "ستة أيام لاختراع قرية"
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب ​​​​​​​ضياء الجبيلي
النـص :

لا بدّ أن علي عباس خفيف قد فكر في الكثير من التوابل، لكي يضيفها إلى طبخته الروائية " ستة أيام لاختراع قرية " تماشياً مع أجواء المدينة المتبّلة بأغاني البحارة، وخطى الرحالة، ومخطوطات القصة خونية. وأرصففتها المضمخة برائحة البهارات الهندية. إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث في النهاية. إذ لا يسع المتذوق هنا سوى أن تلذع لسانه حرارة نوع واحد من تلك التوابل، حفاظا على الخلاصة، أو النكهة. وتلك هي نكهة أن نكتشف.

ماذا حدث يا تُرى ؟ هل استجاب الروائي لمقدمة مقال " روبين كار " – قلها فقط – في كتاب تقنيات الكتابة لمجموعة من المؤلفين إذ يقول كار : " التوابل الكثيرة يمكنها أن تخفي النكهة الأصيلة لروايتك " ربما لم يقرأ الروائي هذه الجملة، لكنها في النهاية تبدو راسخة في ذهنه وهو يكتب. ربما جاءت بإيحاء من ربة سرد، أو عروس شط، أو من شيف بحار عراقي، أومأ إليه من وراء درابزين مركب تائه في خليج البصرة، قائلاً : " أيها الروائي، لا تثق بذائقة الهنود، فحتى بوظتهم حارة "

لا شك أن علي عباس خفيف أضاف المذاق المناسب لروايته، حتى لا يبقى للقارئ شكاً في أن ما يتذوقه في الرواية هي أشياء تثير الأسئلة : الحوادث، الشخصيات، الأماكن. نعم كل هذه الأشياء أثارت غبار الأسئلة التي تعنى بالتاريخ والهوية والمكان، عبر جنوح محبب نحو تلك المناطق القصية، المهملة في مسروداتنا الروائية. أقرأ وأفكر بالعبارة التي قالها البائع – العطار – لعلي عباس خفيف عندما اختار الأخير ذلك الصنف من التوابل، لا شك أنها توابل محلية، ذات نكهة تجترح من الاساليب الغربية شكلها. وأظنه قال – ذلك العطار – وثمة ابتسامة تغمر كامل وجهه الأسمر : " شكراً أيها الروائي، لأنك اخترت بهاراتنا الأصلية ! "

 

رجاء، لاحظ، في الرواية شخصيات حقيقية !

 " أصدقاؤك في عملك الروائي، هل ما يزالون أصدقاؤك ؟ "

 سؤال توجهه " نانسي كريس " لعلي عباس خفيف وغيره من الروائيين الذين يستدعون إلى مستعمراتهم الروائية أشخاص من الواقع : أصدقاء، شخصيات عامة، سياسية، ثقافية، رياضية، فنية، أو ربما أحد أفراد الأسرة. وهكذا اشتغالات لا بدّ أن تأخذ بنصيحة " ناسي كريس " التي تؤكد على ضرورة أن يأخذ الكاتب حذره الشديد، وهو يستلّ من الحياة تلك الشخصيات الحقيقية. تُرى، هل فعل علي عباس خفيف ذلك ؟ نعم، أظنه فعل ذلك. لكن ربما ليس على النحو الذي ذكرته كريس في مقالتها، إذ ما زال الروائي يقلل من خطورة التعامل مع شخصياته الحقيقية، مستغلاً بذلك الفرق في ما سيواجهه الكاتب في أوربا وأمريكا مثلاً، وبين ما سيترتب عليه ذلك الإجراء، نتيجة اشتغال الكاتب في بلداننا الشرق أوسطية، إلا إذا كانت تلك الشخصية سياسية. عندئذ، على الكاتب أن يفكر جدياً في عواقب الخوض في هكذا مغامرة. وإلا فعليه أن يواجه نفس المشاكل التي واجهها الكاتب الإيطالي " ربرتو سافيانو " الذي تناول موضوعة المافيا النابولية " كامورا " في روايته التي تحمل الاسم نفسه. بالطبع أنا ألمح لشيء، أو إلى رواية قادمة من هذا النوع. لكن من أين نجيء بروائي وفيلسوف ليصنف كاتبنا كبطل وطني كما فعل أمبرتو إيكو صاحب اسم الوردة مع سافيانو. في حين أن أغلب فلاسفتنا وكبارنا يقربون البعيد ويدنون القريب !! ثم من أين سنأتي بحكومة مثل الحكومة الإيطالية لكي تحمي كاتبنا من فتك مافياتنا البابلية !!  تلك هي المسألة !

لكننا نرى الشخصيات الحقيقية في أعمال علي عباس خفيف " عندما خرجت من الحلم " و"ستة أيام لاختراع قرية " هي شخصيات تؤدي الفعل وتساهم في تمثيل الحدث وتضفي على العمل جمالية، وفقا لمقولة أن بعض الواقع أغرب من الخيال ! عندما تساهم لا معقولية الواقع في رفد المخيلة ! بمعنى أقرب أن الروائي هنا لم يعمد إلى إلباس شخصياته الحقيقية ثوب التنكر. نعم ربما منتج أو أضاف بعض النكهات الخفيفة، لكنه في النهاية تعامل معها بحذر طفيف، ومداراة، كما لو أنهم أولاده ! ولعله اهتم بشخصية ناصر قوطي في روايته ستة أيام لاختراع قرية، إذ أظهره فجأة، بمظهر الفنان المهووس بالتاريخ. وأظن أن جزءاً من علي عباس خفيف تلبّس ناصر قوطي بعد أن رأى أن من غير الملائم أن يبدي شخصاً ما للمتلقي سعة أطلاعه على التاريخ، تلافيا للمباشرة، لذا قال كلمته، ووظف المنحى التاريخي في عمله من خلال تلك الشخصية. في حين لم يخفِ ملامح ناصر قوطي كشخصية قلقة، لا تكاد تستقر على حال. شخصية تتوق للصعلكة والمغامرة والحياة البوهيمية. ولا يعلم كاتب هذه الانطباعات في ما إذا كان شيطاناً حقيقياً، من شياطين السرد الذين ذكرهم الكاتب. لكن، تتملكني غبطة طفل في السابعة من عمره، يشير إلى اسمي قائلاً لأصدقائه : " انظروا.. هذا أبي في رواية ! " أقول ذلك، وفي نفسي لوعة وتوق لمعرفة من هو " بكان الترس ! "

 لا تكن بخيلاً، وفرّ شيئاً من المتعة !

 الأحرى أنها نصيحة علي عباس خفيف لكل من يقول أن لا متعة تُجنى من كتابة الرواية ! إلى جانب نصائح أخرى مثل : تخلّص من الإسهاب. نعم الرواية لعب ولذّة وشيطنات كائن خفي، يسكن ذوات الرواة وبياعو الكلام. شيطان، أو ملاك السرد، سمه ما شئت. في النهاية هو ذلك الشريك الخفي، الذي لا يقل خرافة عن " بريس " صبي مفكرة الأحلام. وقد يعلو بخياله درجة على " كاظم مظلوم نجم " وربما هو أروع فتنة من " دهر " الجميلة، وأشجع من عشيقها خال بريس، وألمع سحراً من باخمرا المدينة وأعمق غموضاً من " السرّوجي " وقد تفوق غرابته غرابة أطوار " التنديل " أو هو أكثر عطاء من بقرة أم بريس، وأبسط حكماً من صقور قرية بيت سنحه. تلك هي كائنات علي عباس خفيف، التي تتحرك انسجاماً مع الإيقاع التراتبي أو العددي المشحون بفوضى استهلالية بناءة. إنه ذلك الإيقاع الذي ينأى بالنصّ – متناً وهامشاً – عن قصص الفرسان والشطار والبطولات الهشّة. إيقاع ساخر أحياناً أو فيه فكاهة، وأحياناً أخرى تجده يخطو على جمر الحكايات. لكل يوم حكاية، وعين تُفقأ. فالكاتب ومنذ استهلاله، بل منذ مقطع الشعر العائد إلى الشاعر عادل مردان يخبرنا أن ثمة متعة في الطريق إلى باخمرا ولعب يحمله النصّ. ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً، هو ذاك الذي يطرحه العنوان. هل لاحظتم أنه اختراع وليس اكتشاف ؟! ترى هل هي محاولة لشدّ المتلقي لاختراع طريقة جديدة للقراءة، إذا ما سلّم أنها رواية تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة ؟ أم أنها دعوة لابتكار نهاية مع الروائي، تلك النهاية التي طلب ناصر قوطي من الراوي اختراعها – المقبرة !

 خارج المدينة

 لقد جمع علي عباس خفيف أشيائه هذه المرة في سدانة تشبه تلك التي جمع فيها صبي الحكاية نايه وسن الذئب، ريشة، ومفكرة الأحلام. أشيائه المحببة التي دفنتها أمه معه في القبر حتى عثر عليها " عباس مسير " في فجر ذلك اليوم. وقد حمل الروائي صندوقه هذه المرة خارج أسوار بصرياثا المدينة – المركز، لينأى بأشيائه وأدواته بعيدا عنها، في باخمرا تحديداً – الدير حالياً. ليودع في تلالها ومقبرتها ونهرها أسراره الجميلة. لكن، ماذا جمع علي خفيف في ذلك الصندوق، سدانته المدهشة ؟ أنصحكم بقراءة الرواية ثانية !

المشـاهدات 635   تاريخ الإضافـة 05/07/2020   رقم المحتوى 7870
أضف تقييـم