الأربعاء 2024/4/24 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
سيمياء الدلالة في شعر عبد الهادي عباس ديوان : (البيتُ رماد والماءُ بعيد) ... أنموذجاً
سيمياء الدلالة في شعر عبد الهادي عباس ديوان : (البيتُ رماد والماءُ بعيد) ... أنموذجاً
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. أحمد جاسم الخيّال
النـص :

السيمياء هي السيميولوجيا، وتعني العلامة، وهي ((علم  يدرس  العلامة  ومنظوماتها ( أي  اللغات  الطبيعية  والاصطناعية  )  كما يدرس الخصائص التي  تمتاز  بها  علاقة  العلامة  بمدلولاتها)) ، وأول من دعا  للاهتمام بالعلامة دي سوسير  وذلك  لمنطلقات  لغوية  والذي سمّاه  بعلم  السيميولوجيا  أو علم  منظومات  العلامات ، من خلال مفهومه للغة بوصفها منظومة من العلامات تعبر عن فكر ما مع تركيز دائم على العلاقات التي تربط بين الوحدات والعناصر اللغوية  كما قرر دي سوسير اعتباطية العلامة  اللغوية بينما تقول السيميائية باعتباطية العلامة مما يمنح الدوال مدلولات لا نهائية ، وهكذا تلتقي السيميائية واللسانيات في  القول باعتباطية الدليل اللساني، وإن رأى البعض أن هذه العلاقة ينبغي وصفها بأنها ضرورية وليست اعتباطية . 

     السيميائية لا تهتم بالنص ولا بقائله، وإنما تهتم بالكيفيّة التي كُتِب فيها النص، فهي تبحث عن المعنى من خلال لغة الاختلاف ولغة الشكل والبنى الدالّة، ومن أجل ذلك يفكك النص ويعاد تركيبه من جديد لتحدد ثوابته البنيوية .

   وهذا العمل يقوم على المبادئ التالية :

أ- التحليل المحايث الذي يبحث عما يُكّون الدلالة من شروط داخلية وإبعاد كل ما يعد خارجيا، أي البحث عن العلاقات الرابطة بين العناصر التي تنتج المعنى .

ب- التحليل البنيوي، لإدراك المعنى لا بد من وجود نظام من العلاقات تربط بين عناصر النص، ولذا فإن الاهتمام يجب أن يوجه إلى ما كان داخلا في نظام الاختلاف الذي يسمى شكل المضمون وهو التحليل البنيوي .

ج- تحليل الخطاب : يعد الخطاب في مقدمة اهتمامات التحليل السيميائي الذي يهتم بالقدرة الخطابية وهي القدرة على بناء نظام لإنتاج الأقوال، على عكس اللسانيات البنيوية التي تهتم بالجملة  .  

    وهذه الدراسة هو لبيان ماهيّة أحد اتجاهات السيمياء، وهو البعد الدلالي للعلامة، الذي يهتم  بالعلاقة  بين  العلامة  وبين  مدلولاتها،  فهو  يدرس  محتوى  العلامات  والعلاقة  القائمة  بين  العلامة  وتفسيرها  وتأويلها  من  دون  النظر  إلي  من  يتداولها  . وتطبيق ذلك على ديوان (البيت رماد والماء بعيد) للشاعر عبد الهادي عباس.

   العنوان علامة كليّة يتألّف من علامات جزئية، والعلاقة بين هذه العلامات على وفق تفسيرها تحدّد الدلالة الكليّة له:

 البيت رماد والماء بعيد:

    العنوان مقتبس من قصيدة (ضياع)، وهي قصيدة قصيرة كما أغلب قصائد الديوان، يقول فيها الشاعر:

تلك شقوقُ الحائطِ مأوى

الصيّادون سكارى

والبيتُ رمادُ

والماءُ بعيدُ  

   إنه ضياع وجودي ذهني وفكري، الخطاب فيه موجّهٌ ضدّ الحياة المتغيّرة، كأنها كهف وبيوتنا شقوق في جدرانها.

- البيت: علامة على الاستقرار والأمان وتجدّد الحياة واستمرارها، لكنّه هنا مقيّدة بلفظ (رماد)، وهذا إشارة إلى غياب الاستقرار والأمان، وإن الحياة متوقّفة وأشبه بالميّتة.

- الماء: علامة على الحياة، فلا حياة بلا ماء، لكنّها مقيّدة بلفظ (بعيد)، وهي إشارة لبعد الأمل واحتمال انبعاثه من هذا الرماد ضعيفٌ جداً.

   فالشاعر أشار للحياة بلفظ (البيت / الرماد)، وأنه احترق، وهو ينظر إلى الأفق البعيد فلا يرى ما يمكن أن يعيد إليه الحياة من جديد، من إشارة (الماء/ بعيد).

   بنية القصائد في هذا الديوان ترتكز على الإيجاز اللغوي الذي يُوحي عبر العلامات عن الدلالات الواسعة التي يريد الشاعر أن يبثّها إلى المتلقّي، لذا فأغلب قصائده تتألّف من أشطر قليلة مكثّفة، كما نرى ذلك في قصيدة (الورقة)، يقول الشاعر:

  سقطتْ..

تركتْ صورتَها

حملتْها الريحُ

ومضتْ في جيب النسيان .     

الورقة: دلالة على عمر الإنسان، أي انسان. وكأنّ تعريفها دلالة على تخصيصها بجنس الإنسان.

سقطت: السقوط دلالة على النهاية، فالورقة بعد أن تسقط عن الشجرة تنتهي دورة حياتها، وهي إشارة لانتهاء دورة حياة الإنسان لتبدأ أوراق جديدة بالنمو، لتجدّد الحياة والأجيال. واستعمل الشاعر صيغة الفعل الماضي للتعبير عن حتميّة السقوط، حتى بالنسبة للأوراق التي ستنمو في المستقبل.

تركت صورتها: هذه العلامة هي بؤرة النص، فسقوط الورقة ليس هو النهاية، إنما تترك وراءها صورتها التي كانت عليها، فتبقى أعمال الإنسان دالة عليه في الحياة وإن رحل عنها.

حملتها الريحُ: الورقة لم تسقط إلى الأرض، بل حملتها الريح، لكن إلى أين؟ لم يحدّد الشاعر وجهتها، إلى مكان لا يعلمه الشاعر، مكان لا يقدر على وصفه، لذلك سكت عنه ولم يذكره، إنه مكان مجهول خارج حدود معرفته، لذا ترك التنبّؤ به.

ومضت في جيبِ النسيان: الغياب علّة النسيان، سقوط الورقة وانقطاعها عن أصلها/ الحياة، سيضعها في جيب النسيان كأنها لم تكن، إلا إذا كانت صورتها التي تركتها فاعلة في الحياة ومؤثرة، فإنها ستبقى وتخرج من هذا الجيب الذي يغيّبها عن الوجود.

    العلاقات الدلاليّة في هذه القصيدة القصيرة تكشف عن قلق الشاعر الوجودي من الحياة التي لا بدّ أن تنتهي في يومٍ ما، تنتهي رسميّا بحساب الأيام والسنين، لكنّها تبدأ في مكان آخر لم يكشف عنه، كما أن صورته تبقى مع الأثر الذي يتركه، رغم أن النسيان القاهر سيغيّبه مع تجدّد الشجرة وتجدد أوراقها.

يقول أيضاً في قصيدة أخرى بعنوان (القافلة):

كلّما مرّتِ القافلة

مسّكم هاجسٌ نحو تلك الديار

إنّكم ها هنا..

لا ملاذ لكم في الفرار  

القافلة: علامة على الرحيل، الانتقال إلى مكان آخر، إنها رمز يشير إلى دلالات كثيرة في ذاكرة الأدب العربي، لكنّها هنا، في سياق هذه القصيدة كانت علامة على قلق الشاعر وخوفه من الرحيل المنتظر الذي يثير هواجسه.

كلّما مرّتِ القافلة: تكرار مرور القافلة يثير قلق المتلقّي، ماذا يقصد الشاعر؟، وأي قافلة يعني؟ هل إنه يقصد الرحلة من الدنيا إلى الآخرة؟ ولمَ استعار لفظ (القافلة) ليكون علامة دالة على هذه الرحلة؟ إنها أسئلة مفتوحة بلا نهايات تتشظّى في ذهن المتلقّي ليكمل هو أعادة بناء النص.

مسّكم هاجسٌ نحو تلك الديار: هاجسٌ: فاعل نكرة مبهم للمسّ، المسّ الحسّي الذي يشير إلى المعرفة، معرفة الكلّ به، الديار: معرفة أشار لها بـ (تلك) لأن هذه الديار بعيدة عن الأدراك، على المتلقّي أن يقيّد لفظ (هاجس) بما يشاء، هاجس من الخوف أو القلق أو الرغبة أو أي شيء آخر، الاحتمالات لا تنتهي، وقصد الشاعر إلى هذا الإبهام، لأنه نفسه لا يستطيع تقييده، فهو أيضا يجهل كنه هذا الهاجس، إنها ديار غير مرئية وبعيدة جدا، وما معرفتنا عنها سوى هواجس.

 إنّكم ها هنا.. لا ملاذ لكم في الفرار: تحوّل الخطاب هنا، من خطاب ترويضي إلى خطاب واقعي صادم، إنّكم ها هنا... أي موجودون بالفعل، لكن هذه ليست دياركم، إنما تنتظرون القافلة والرحلة نحوها، واستعمل الشاعر النفي ب (لا) النافية للجنس مع اسمها (ملاذ) للتعبير عن رؤيته، فلا ملاذ ولا فرار من هذه الرحلة.

   الخطاب ذو شحنة دلالية مكثّفة بالإيحاءات، لم يذكر الشاعر الموت وإنّما تجاوزه إلى ذكر الديار ما بعد الموت، وهذا يؤكّد على أن الشاعر غير قلقٍ من الموت وإنّما هاجسه الحياة بعد الموت، واستعمل الخطاب الجمعي للدلالة على أن الكلّ سوف تأخذه هذه القافلة في هذه الرحلة نحو زمان ومكان غير معلومين، إنها رؤية بعيدة المدى علاماتها كانت دالة تمام الدلالة على مقصد الشاعر بإيجاز فنّي استثمر طاقة اللغة الكامنة ليعبرَ من خلالها إلى ضفاف المعنى الآخر.   

    وفي قصيدة (العاصفة) يقول الشاعر:

طيرٌ سعى

فراح يجمع الأشياء من حوله

يبني له عشّاً هنا

في حضرة الذاكرة

لم يكترث للعاصفة

ما اجمل الطير هنا

ما أصعب الكارثة 

   إن لغة الشعر شديدة الارتباط بموقف الشاعر من الحياة ورؤيته لها ، وهذا ما نلاحظه في قصائد الشاعر، فتجربته تصاعدت لترصد ما وراء الحس، وتغيب في ارهاصات المكان الآخر اللامرئي، ونص (العاصفة) يثير عدّة تساؤلات أهمّها، هو هذا الاصرار على تجاوز كلّ ما هو حسّي، والبحث عن المعادل الموضوعي للوجود، وهو ما يُلحظ في أغلب قصائد الديوان.         

طيرٌ سعى: الطير هو المعادل الموضوعي للحريّة، ورغم ذلك فهو في سعي دائم ليحقّق وجوده.

فراح يجمع الأشياء من حوله ... يبني له عشّاً هنا: ألفاظ هاتين الجملتين تتفق مع غريزة الطير في بناء عشّه، لكن لفظ (هنا) انحرف بمسار الدلالة نحو التخييل، فالإبهام في تحديد المكان رغم الإشارة له يستفزّ المتلقي ويجعله غائباً عنه رغم تحديده.

في حضرة الذاكرة: هذا التقييد للمكان بـ (حضرة الذاكرة) يمثّل التمويه العميق لمركزيّة النص، وينتقل به من المباشرة إلى الإثارة الشعرية المناسبة لقلب الواقع إلى حلم مفترض، فالطير وسعيه وعشّه هو استقرار مفترض لحريّة مفقودة في مكان غير متحقق، إنما هو ذاكرة، وهو قلق وجودي عميق يشغل الشاعر اتجاه حقيقة الحياة.

لم يكترث للعاصفة: دلالة (العاصفة) تحمل اثارة وجودية تتماهى مع إرادة الطير رغم إدراكه بفناء رغبته بالاستقرار والبقاء، فهو لم يكترث في بناء وجوده في مكان سيكون ذاكرة مستقبلاً.

ما اجمل الطير هنا ... ما أصعب الكارثة: جملتا التعجب أظهرتا موقف الشاعر المتناقض من حركة الوجود، فهو يرى أن الوجود برمته كارثة، لأنه في النهاية محض ذاكرة وجزء من خيال سينطوي يوماً ما، على الرغم من ذلك فالطير/ الانسان، مستمر في السعي الحثيث في بناء حياته واستقراره، وهذا سرُّ جماله.

   فالطير دلالة على الإنسان وطموحاته الواسعة في هذه الحياة، لم يوقف سعيَه علمُه بحقيقة النهاية المأساوية على هذه الأرض، وكأنه يقول لنا: كل ما في الحياة مفترض لأنه مكان في ذاكرة، لقد حقّق النص غايته في اقتناص اللحظة الشعرية المعبّرة عن قلق الشاعر الوجودي.

الديوان فيه عتبات كثيرة تشكّل علامات سيميائية دالّة أبدع الشاعر عبد الهادي عباس في توظيفها توظيفاً فنيّاً مبدعا، فكان بحق عبوراً نحو الضفة الأخرى في اكتناه الشعرية المعبّرة عن حساسية التلقي المعاصر.

..........................

  - إبراهيم صدق، السيميائية اتجاهات وأبعاد ، محاضرات الملتقى الوطني الأول، السيمياء والنص الأدبي : 77.

  - فرديناند دي سوسير : محاضرات في اللسانيات العامة ص 87.

  - ميشال أريفية وجون كلود جيرو : السيميائية أصولها وقواعدها ترجمة رشيد بن مالك مراجعة وتقديم عزالدين المناصرة ص 28 ، 29.

  - . جميل حمداوي ، مدخل إلى المنهج السيميائي ،مجلة عالم المعرفة 

  - محمد السرغيني – محاضرات في السيميولوجيا ، دار الثقافة الدار البيضاء ، ط 1 ، 1987م ص 55.

  _ د. بشير كاوربريت ، مناهج النقد الأدبي المعاصر ص 136  

  - ديوان: البيت رماد والماء بعيد، عبد الهادي عباس: 89.

  - الديوان:  7.

المشـاهدات 1470   تاريخ الإضافـة 12/07/2020   رقم المحتوى 8049
أضف تقييـم