السبت 2024/4/20 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غيوم متفرقة
بغداد 33.95 مئويـة
ترميم الشخصيّة العراقيّة ثقافيًا
ترميم الشخصيّة العراقيّة ثقافيًا
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د.عبّاس آل مسافر
النـص :

لم يكن الإنسانُ العراقيّ بحاجةٍ ماسةٍ إلى إعادة الثقة بنفسهِ، كما هو بحاجة إليها اليوم، فالكوارث والمحن التي مرّت على العراق منذُ الانقلابات العسكريّة والحروب والاعتقالات والسجون والتعذيب، قد أتت على الإنسان العراقيّ  سحقتهُ وصيرتهُ ذا طبيعة ومزاج متغيرين وحادّين ومتقلبين في الوقت نفسه؛ لذلكَ بدأ يملك نظرة تشاؤميّة للمستقبل، ومثلما خرج البعض من تلك الأحداث وهو حاملٌ ذكرى حزينة لفقدان جزء عزيز منه، فإنَّ البعضَ الآخرَ قد خرج أيضًا مشوهًا فكريًا وثقافيًا ونفسيًا. ومحاولة إعادة (الثقة بالنفس) أو (confidence)  وترميمها في هذا الوقت الحسّاس من تاريخ الأمة العراقيّة، تُعد هذه المحاولةً لبناء وطنٍ جديدٍ ورسم عوالم حقيقيّة وليست خياليّة أو ورقيّة، تتكئ فيها على بقايا روح تلك الأمة العريقة.   سؤالٌ دائمًا ما يداهمني ويشغلني فأقوم بتقليبه يمينًا وشمالاً، وهو، هل يملك الآخرون ما لا نملكه نحنُ العراقيون من مؤهلات للنهوض من الكبوات التي تعثّرنا بها طيلة هذه العقود الماضية ؟ أم هو قدَرْنا أن نبقى مكبلين للماضي دائمًا؟ الجواب بأنَّ الله لم يخص أمةً بسمات طبيعيّة لم يخص بها أمةً أخرى، ومادام الأمرُ كذلكَ لما لا نتعلم من الأخطاء السابقة.إنّ الانعتاق من الماضي القريب والبعيد، هو أول شروط السير في طريق "ترميم الشخصيّة العراقيّة"، بشرط أن لا يؤدي هذا الانعتاق إلى الاستخفاف بتاريخ الأمة التي ننتمي إليها، أو يؤدي إلى العزوف عن الاستفادة من تراثنا الضخم، الانعتاق يعني أن لا نعيش أوهامنا وأن لا نكرر حروبنا أو نجدد الكراهيّة بطرق جديدة مغلّفة؛ بل نستوحي من هذا التراث أرواح أسلافنا في طلب العلم والصبر على التعلّم، والخوض في الصعاب من أجل تحصيل العلوم، وأن ننصهر في تجاربهم من أجل طلب العُلى، وأن نفتح نوافذنا على الآخر من دون أن تركها عرضةً للتطفل أو التلصلص، أن نسمح للحداثة بالمرور من أمامنا، ونستوعبها كحركة معاصرة تسعى إلى إحداث هزة داخل بنية المجتمع لا فجوة حضاريّة تزيد من البون الشاسع والشرخ الواسع. إنّ مسألة "استعادة الشخصيّة العراقيّة" وانعتاقها من النمطية السيئة التي درجت عليها المخيلة الشعبيّة المحليّة، وساعدت بعض العوامل الخارجيّة على تشويهها، هي مسألة وطنية بالدرجة الأولى وتقع على الجميع، مثقفين وباحثين في التاريخ، كتاباً وروائيين، رسامين وشعراء وفنانين، رياضيين ومسرحيين، ولا تتوقف عندَ إقامة ندوات وعروض ومهرجانات، إنّما ترتكز على رؤية علميّة وخطط وبرامج عمل كما هو معمول به في دول الجوار العربيّ وغير العربيّ. سأستعير من الدراما العربيّة مثلاً واحدًا على محاولة ترميم الشخصيّة ثقافيًا؛ بما إنّ الدراما تشكل جزءًا كبيرًا من بنية الثقافة عالميًا وعربيًا،  في عام 2006 تمَّ عرض المسلسل السوريّ الشهير "باب الحارة" الجزء الأول، أذهلتني وبدهشةٌ كبيرة الفكرة الأساس لهذا المسلسل، وهي التأكيد على الشخصيّة السوريّة المعاصرة لاسيما الشباب، من خلال استعادة شخصيّة "الأباضاي" ابن الحارة الذي يغض الطرف عن حريم حارته و يعدّهن جزءاً من عائلته الكبيرة، وهو الذي لا تغمض عينه على الضيم أبدًا، ومع ذلك فهو العاشق الولهان، المفتول العضلات، والثائر على المستعمِر الفرنسيّ، جاء هذا العمل وكأنّه محاولة لمحو صورة الرجل السوريّ المسحوق دائماً والذي قدمته الدراما المحليّة بصورة مهمشة إلى درجة كبيرة ومبالغ فيها، ولولا شخصيّة أبو بدر الهزليّة التي اختارها المخرجُ بعناية ودقة فائقتين لكان كلُّ رجالات الحارة ونسائها هم بدرجة "الأباضاي"، والدليل على نجاح هذه المحاولة أنه تم إنتاج عددٍ من المسلسلات الدراميّة تحاكي شخصيّات المسلسل المذكور.أقول إنَّ عملًا دراميًا واحدًا بأجزائه استطاع أن يغير الصورة النمطية لشخصيّة الإنسان عند المتلقي العربيّ على اختلاف مستوياته الثقافيّة، ويؤسس لملامح جديدة مختلفة للشخصيّة المألوفة، فكيف لو كان هناك مشروع ثقافيّ تقف خلفه مؤسسات لخلق شخصيّة عراقيّة مختلفة برؤيتها وفلسفتها. ألم يحرضنا شاعر العرب الأكبر الجواهريّ بأن لا نرضى بالقليل ونقف عند تخوم معينة للطموح قائلاً:

ولم أتكفَّفْ باليسيرِ ولم أكنْ      كمستأنِسٍ بالقُلِّ مستكثِرٍ نَزْرا

طموحٌ يريني كلَّ شيءٍ أنالُه   وإنْ جلَّ قَدرْاً دونَ ما أبتغي قدرا 

المشـاهدات 1107   تاريخ الإضافـة 13/07/2020   رقم المحتوى 8127
أضف تقييـم