الجمعة 2024/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 33.95 مئويـة
بمناسبة ذكرى استشهاد سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام وإذا حييتم بتحية .. فحييوا بأحسن منها
بمناسبة ذكرى استشهاد سيد الشهداء الامام الحسين بن علي عليهما السلام وإذا حييتم بتحية .. فحييوا بأحسن منها
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب علي عزيز السيد جاسم
النـص :

بقلم  ـ المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم

(وإذا حييتم فحيوا بأحسن منها أو ردوها) بهذه الآية الكريمة قضت العدالة الالهية والارادة الربانية وصدق الجلالة متفجرة بينبوع الحكمة والتوصية وقيام السنة والالفة والترابط والوحدة بين الكائنات فجاءت من الباري إلى الانسان رسالة هدى وعلماً ما بعده علم وكنزاً ما فوقه وما تحته كنز فالتحية طريق الصفاء البشري والأخوة العميقة وهي بلاغ وبزوغ شمس الضمير وطلوع قمر الدماثة.فما أطلق التحية إلا القادر على الحب والعطاء والايمان بالانسان والانجذاب الى صف الحق وما رد التحية بأحسن منها الا العارف بأمر الله والمنتمي اليه والمتصل به في تباين ظروف الزمان من اختلال واعتلال الى حسن حال المناجي في وقت المناجاة وحامل مصباح الحكمة في الظلمات المتوخي مرضاة الحق والزاهد المعتد برغيف الخبز على شرف المشاركة في الغذاء الذي يرى بعين الله ويستمد الفكرة من خشية الله وتعذبه معصية الله حتى اذا ما امتدت يده الى (قوت) تذكر الفقراء والمعوزين والمحرومين والجائعين ، واذا ما اصابته الهناءة من شربة ماء عذب رحلت نفسه الى الام العطائى والمفجوعين فالله، الله في رد التحية بأحسن منها ففي ذلك الشرف والمهابة واعلاء شأن السلام والمحبة والوداعة وفي ذلك حماية للنوع البشري من اي ظلم او اضطهاد حيث تفرض موازين المحبة والعدالة نفسها فيرتدع الجاني وتدور على الاثمين الدوائر.ان في رد التحية بأحسن منها شكراً لا يعد له شكر و (بالشكر تزداد النعم) ووفاء لا يعدله وفاء للجانب الرباني في الخلق الانساني ان فيها الغنى والثراء فنفس من يرد التحية بأحسن منها بحر شاسع زاخر بالكرم والاريحية ملئ لا يسبر له غور يستزيد من الحق الالهي فيفيض حباً وكرماً ونبلاً وميلاً الى المسحوقين لينقذهم من وهدة ويحميهم من عوز ويذود عنهم من بلوى الفقر وغدر الدنيا.ان من يرد التحية بأحسن منها يستضيء بنور الله فتتفتح فيه البصيرة وتنفذ الى خارجه باتساع الرؤية وشمول المعاينة ومقدرة الاحاطة وسهولة الاكتناه وسياحة الفكر برغم وقفة الجسد فلن تجد الروح في سفراتها حدود فهي تتجول في الازمنة وتخترق حصون الامكنة مشيرة الى ان كل شيء هباء أو الى هباء يسير في ما عدا موقف عدل وكلمة صدق وموضع افادة.انه يدرك الصمدانية الالهية في حياة نملة وفي نمو شجيرة وفي تغريدة طير وفي ضحكة انسان وفي التئام شمل اسرة وكرامة مجتمع متسلحاً بالحق ولو ضد نفسه منقياً اياها من الدنس والنزوع الى الظلم والطمع والانانية وعلى بركات الله يتخلى عن (النفس بالسوء) الى (النفس المطمئنة) التي لا ترى غير وجه الله ونوره السرمدي فهو الرقيب ، الرقيب والعادل الحبيب والسامع المجيب وما سواه غير الصور والحكايات في حساب الدنيوية وإليه وحده يصل العمل الصالح.ومن يوجه التحية مبادر وخشوع ذو حب وكياسة ورغبة بالتواصل ومن رد التحية بأحسن منها رحب الآفاق بعيد الرؤية طموح من أجل اسعاد الآخرين ونشر البهجة واشاعة المناقب وتعميم الحب وتلطيف الحياة الدنيا فهو يعلو على نفسه بالحكمة وبعد النظر والرؤية والاصغاء لحكمة الكون حيث لا ينفع التكبر والتجبر وعنده في خطبة قس بن ساعدة الايادي أين الآباء والاجداد وأين الفراعنة الشداد أين من طغى وتجبر الخ... غنيمة التجربة ومحصلة الحكمة وكيف لا وقد نطق بها شخص قبل الاسلام قال عنه النبي الكريم انما يبعث أمة لوحدة.فالحكمة تجعل الفرد الواحد مجموعة كبيرة وكذلك الحب والصداقة والمبادئ الجليلة.محمود من يرد التحية بأحسن منها ، من لا تخدعه الاباطيل ولا يجرفه الغرور في تيار شهوات التملك الفاحش والبطش والاستنساد على عباد الله والتقوى بالسطوة لا بتقوى الله ، وبالعداوة لا بالنقاوة ، وبالويل لا بالميل.قد يحيا الانسان الآخر بكلمات المحبة وعبادات التعاطف فـ(الكلمة الطيبة صدقة) وقد يحيا الواحد الآخر بالعطية والهدية فيرد عليه بمثل ذلك وأكثر وهناك التحية العظمى، تحية الحب الانساني الكبير حب البشر والطبيعة فالتحية كتاب ضخم، جميل، يشمل تجاوب الأفكار والأعمال والمبادئ والنيات والأحلام العادلة التي ترسم للبشرية مدارج الانتقال والتحرر من الهمجية القابعة في نفوس الافراد والجماعات التي تتبرقع بألف زي ورداء وقناع. وقد عرفت الحيوانات التحية كفاتحة حب، وقصة وجدان، ومناداة تعارف، ولكن الانسان بلور التحية بالحب الرائع موحداً الحب بالحق والعدل في ملحمة كونية خالدة ،  وشتان ما بين تحية تقليدية خارجية تنبس بها الشفاه وتطلقها الالسن وبين تحية القلب والضمير الحي ، تحية الارادة والثقة والاتجاه صوب البشرية بخدمة الاهداف الانسانية السامية.فما اسوأ التحيات الكاذبة والترحيبات الشكلية وكلمات (صباح الخير) و(مساء الخير) تتخللها أفعال النفاق والوشاية والنميمة وقطع الارزاق وكسر الاعناق واغتيال السمعة وخيانة الله بالغدر بالطيبة والفكر والكرامة وبكل الرموز التي أرادها الله تشريفاً للانسان وتكريماً له وهو يحمل الامانة.التحية هي فعل الحب والخير والسلام والسخط على الظلم والعدوان والبشاعة وهي معاهدة بني الانسان في ما بينهم من أجل أن تكون حياتهم انسانية صحيحة لا يقتل فيها الواحد الآخر كما تفعل وحوش الغاب بالرغم من أن وحوش الغاب عرفت القتل الجسدي فيما ابتكر الانسان طرازاً من القتل الجسدي والروحي تتنصل منها أشد الوحوش ضراوة وفتكاً.هي التحية إذا هداية وطبع ونشيد وسيمفونية متجددة، هي نور ورسالة وتضحية وحضور في التاريخ، هي عطاء وبناء وصيانة ووضوح وتطابق بين القول والفعل وبين الفعل في العلن وفي السر، فما أمام العين الالهية سر مكتوم ولا شيء مخفي وان أمام النور الالهي تتعرى الكائنات والأفعال والكلمات متحللة إلى مسمياتها وأسمائها وإلى ماهياتها المستبطنة.بعد هذا هل آن الأوان للتحدث عن التحية البارة، تحية الحسين؟ لقد حيّا الحسين هذا العالم منذ البداية في نضارة الطفولة بقميص أحمر فيترك رسول الله المنبر في المسجد ليقبله (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يراه هو وأخاه الحسن (ع) يأتيان إلى المسجد عليهما قميصان أحمران يمشيان فيهما نضارة الطفولة وفور النبوة، ينزل من على المنبر ويحملهما ويضعهما بين يديه ويقول في حنان وحب: نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى  قطعت حديثي ورفعتهما(1).كان الرسول يقبل الحسين من تغره ويشمه ويضمه إلى صدره ويدعه يلعب على رجليه وكان يقول عنه وعن أخيه الحسن: (هما ريحانتاي من الدنيا) وكان يقول (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الاسباط)(3).فهل هناك أبلغ من هذه التحية النبوية؟ وهل هناك أسمى من المدخل الكريم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)؟ بهذه التحية المباركة الجليلة السامية المقدسة ابتدأت حياة الحسين وبهذا الحنو النبوي والحب المحمدي الجارف للحسين انطلقت البداية تحت مظلة حنان الرسول واشتياقه وتعلقه بابن ابنته فاطمة التي قال عنها (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني) كيف ردت التحية المحمدية الحسينية الاسلامية؟ لتئتاب الانسان القشعريرة عندما يستعيد ذكرى الفصل الدرامي في خاتمة حياة الحسين حينما يجهز المجرم سنان ابن انس علي جسد طاهر يضم نوراً الهيا وبذرة محمدية مجيدة فقد (طعن سنان ابن انس ابن بنت رسول الله (ص) برمحه طعنة أوقعته على الارض ثم أمر خولي بن يزيد أن يحتز رأسه الشريف فلما ارتعد الأخير خوفاً وفزعاً قال له سنان: فت الله عضديك وابان يدين..! ونزل الشقي إلى سيد شباب أهل الجنة فأجهز عليه واحتز رأسه ووقف يشد بسيفه على كل من يدنو منه مخافة أن يغلبه على غنيمته التي يرجو أن تحقق له ما يطمع فيه لدى سادته من مال وجاه فلما اطمأن دفع بالرأس الشريف إلى صاحبه خولي بن يزيد للتحفظ عليه)(4).وسنان هذا يدعي الاسلام وزمرة من الظالمين القتلة الطامعين والسفهاء ليحجبوا النور الالهي والبركة المحمدية بتقويض آل البيت وما فلحوا! كان طريق الحسين طويلاً مليئاً بالصعاب محفوفاً بالمخاطر وكانت نصائح أبناء الصحابة ورعيل المؤمنين الأوائل تحاول رده عن عزمه لكنه اختار المسير بالرغم من طول الطريق وبعد السفر خلف مكة المكرمة قبلة الاضاءة خشية عليها من حرب آتية وسار إلى حتفه ليوصل التحية، كانت تحيته هذه المرة جهاداً ضد الظلم وكان يعلم أنه ذاهب إلى حتفه لكنه لم يتراجع ولم يكن ينوي تقديم درس عن البطولة والصمود والفداء لأنه كان نفسه البطولة والصمود والفداء ولأن هذه الصفات كلها لو حشدت في بؤرة واحدة لكانت الحسين!.وليس الطريق الطويل بين المدينة ومكة والكوفة أطول (ولا أقصر) من حياة الحسين الممتدة ما بين أيام الطفولة النضرة والنور الالهي يتلألأ في عينيه وجبهته ويتوهج دونه القميص الأحمر حينما كان الرسول ينجذب بوله خاص نحو حفيده يلثمه ويشمه ويركبه على بغله (الشهباء) ويلاعبه ويشتاق إليه وبين اللحظة الأخيرة إذ تفجرت مدامع الدم في أرض الشهداء.لقد كان أصحاب الحسين اثنين وسبعين رجلاً فيما كان يقابلهم خمسة آلاف أو يزيدون ما بين فارس وراجل فكل فرد من طائفة الحسين (ع) يقابله سبعون من الطائفة الأخرى (×).كان سائراً إلى الموت حاملاً دمه على كفيه وثبت في واحد من أصابعه خاتمه الذي نقش عليه (حسبي الله) كان يقتطع الطريق الدامي صعوداً كما صعد المسيح درب الجلجلة وفي ذهنه صوت جده العظيم محمد يرن ويرن (يقتل الحسين بأرض بابل) و(ان ابني الحسين يقتل بعدي في أرض الطف..). و(أخبرني جبريل ان حسيناً يقتل بشط الفرات)(5).وكان تتردد أصداء كلمات أبيه علي بن أبي طالب (ع) في وقوفه عند مكان على شاطئ الفرات: (هذا هو موضع رواحلهم، ومناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، بأبي من لا ناصر له في الارض ولا في السماء إلا الله)!!(6).لقد كانت النبوة المحمدية ترافقه طوال الطريق إلى الغربة وهل هناك غربة أتعس من غدر الدعاة الذين وجهوا الرسائل وارسلوا الرسل وهم يكتبون: (أما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك ولا رأي في غيرك فالعجل العجل والسلام) وكرروا الكتابة قائلين: (أما بعد فقد اخضرت الجنان وأينعت الثمار وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند، والسلام عليك) ولم تخدعه الرسائل والرسل ولكنه كان سائراً إلى أجله وهو يهمس: (اني رأيت رؤيا ورأيت رسول الله (ص) أمرني فيها بأمر وأنا له ماض، عليّ كان أو لي).لقد كان الأمر تصديق النبوة والرؤية ففي ذلك ارادة إلهية فالبشرية في عالم المادة والغرور ومتاع الدنيا الزائل تحتاج إلى الامثلة المضيئة، إلى الشواهد العظيمة وإلى الرموز الكبرى وخاصة بعد اختتام تأريخ الانبياء وكلما كانت المأساة الدامية تفوق حدود التصور، كلما انبثق الرمز عظيماً، مجيداً، رفيعاً لا يستطيع اخفاء اشعاعاته سلطان جائر.وقف الحسين بوجه الكثرة المسلحة وكان وأنصاره قلة وكانت المجزرة هائلة مدوية تتردد أصداؤها وارجاعها بين جنبات التأريخ، فالقتل والابادة والمثلة البشعة والسبى والاعتداء على حرمة النساء الطاهرات من سلالة نبي الاسلام وذريته الباقية جرت بأيدي مدعي الاسلام وتلك هي نكبة الاسلام وغليان نزفه الكبير ولكن تحية الحسين سيد شباب أهل الجنة سيد الأبرار والمظلومين ورافع راية الجهاد ضد الظلم والفساد وحامل الهداية المؤمن التقي الورع المبجل الفدائي العظيم حامل صلب النبي وذكره ومشاعره الالهية لم تكن مثيرة فحسب بل كانت فريدة من نوعها كأنها نسجت نسجاً في ما تحمله من شجاعة هائلة واستقبال باسل للموت مع شفقة على المتفائلين ومحاولة لحقن الدماء لكن الفئة الباغية المسلحة كانت في أتم الاستعداد لتنفيذ أصول الجريمة وابادة السلالة المحمدية فما رعت ذكرى أو تذكيراً أو حديثاً أو عاطفة فكان الجيش المعادي استولت عليه فكرة تصفية آل البيت تصفية تامة فما بقيت مراعاة لامرأة أو طفل أو عليل ومن أين تأتي هذه المرعاة إذا كانت حرمة النبي بسليله وحفيده والذرية الطاهرة مستباحة منذ الوهلة الأولى؟!.هكذا كافأ (مسلمون!!) نبيهم العظيم، هكذا ردوا التحية.دعا الحسين إلى الحسين إلى الحق فلم يردوا التحية إلا نخبة من الانصار والأصحاب الميامين والأهل وقاتل بشجاعة فائقة بمواجهة جمهرة كبيرة من أعداء الله وكان الخذلان مراً عجيباً لا مثيل له في تاريخ الفجيعة والتفجع ولكن دم الحسين ظل جارياً في بطون الارض وعروقها وكانت التحية الحسينية موجهة إلى الجميع فخاطب أعداؤه محاولاً إثنائهم عن تنفيذ الجريمة فما إنثنوا وما حالت دون مؤامراتهم ملامح الرسول العظيم في صورة وجهه وبهائه ووقاره وذكائه وعلمه وجلاله وتجذرت المأساة الدامية في لغة الرماح والسيوف القاتلة وهي تطعن جسداً حبيباً قال عنه الرسول وعن أخيه الحسن عندما سئل: (أي أهل بيتك أحب إلأيك؟ قال: الحسن والحسين) وكان يقول لفاطمة (ادعي إليّ ابني فيشمهما ويضمهما إليه) وكان يقول (اللهم احبه فإني احبه وأحب كل من يحبه) ومرة قال لفاطمة عندما سمع الحسين يبكي وهو طفل (ألم تعلمي ان بكاءه يؤذيني)(7).ولكن يا رسول الله هم قتلوه شرّ قتلة!وحاشا الله أن تتأخر القدرة الالهية ويوجه الله تعالى التحية بنفسه إلى الحسين الغريب المظلوم الشهيد الوحيد الفقيد الذي تخلى عنه الدهر ويا لهوان الدهر وهزله وسخفه وهو يخذل حبيب رسول الله وريحانته وحبه وشوقه وابنه الذي أعطاه اسماً ما عرفته العرب قبلاً(8).

 

وردد الحسين أبياتاً من شعره:

 

يا دهر أف لك من خليل

 

                        كم لك بالاشراق والأصيل

 

من طالب أو صاحب قتيل

 

                        والدهر لا يقنع.. بالبديل

 

وإنما الأمر إلى الجليل

 

                        وكل حي سالك السبيل(9)

 

كان الحسين قاصداً إلى الخارج مفارقاً الدهر، وبكت زينب صائحة: (واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة، وعلي أبي، وحسن أخي، يا خليفة الماضي وثمال الباقي). وأوصاها، الشهيد وهو يعلم بعث الشهداء في انسال البشرية: (يا اخيه/ إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدعي بالويل والثبور إذا أنا هلكت). وقبل الاستشهاد اغتسل وانطلي بالنورة وتطيب بمسك كثير! (10). وقبل تناول الرد الالهي للتحية الحسينية، تحية البطولة والاستشهاد والخلق، وتفطر القلب على الضحايا، وتحية سمو النفس، وعلو الحكمة، ورباطة الجأش، يتساءل المرء، لماذا جرى كل ذلك القتل البشع، والمثلة، والاعتداء على عيال ونساء أهل البيت، وفي الحروب أصول وفصول واعتبارات، بين الأعداء المختلفين من أمم وشعوب متضاربة؟ لماذا حدثت جرائم بشعة مقززة، لا قياس لقذارتها برغم وجود روابط دينية واجتماعية وقبلية مشتركة أو محدودة أو بشكل أو بآخر في الاطار التأريخي العام؟ (لم يقف القوم، في ايذائهم للحسين (ع)، عند هذا الحد من تقتيل أصحابه وأبنائه وأهل بيته، بل تعدوه إلى تكرار محاولتهم الدنيئة، للوصول إلى منزله الذي به نساؤه وعياله، ولكن الحسين (ع) صاح بهم موبخاً: (ويلكم..! إن لم يكن لكن دين، وكنتم لا تخافون يوم الميعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً وذوي احساب.. امنعوا أهلي ورحلي من طعامكم وجهالكم..)(11). وكان شمر بن ذي الجوشن قائد الطعام والجهال، وكان أبرص، فنظر إليه سيد شباب أهل الجنة وقال: (صدق الله ورسوله.. قال رسول الله (ص): (كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي..)(12). وحينما يبلغ الألم المرير في نفوس الشجعان، البررة، الأحرار، الكرام حدا ما من ورائه حد ولا سد، وحينما ينشق الجسم عن كبرياء الروح، بمواجهة أوغاد، وحثالات، هائجة بجبن، وعقارب وديدان أخذت من الانسان الهيكل الظاهري والاسم، وحينذاك وقبل الدخول النهائي في أزلية الاستشهاد المقدس، وقبل تطليق دهر مترع بالنذالة، وتوديع بضعة أحباب، في لوعة الوداع المحتوم والهجرة الدنيوية، بما في التوديع من قلق على مصادر الأحباب الباقين قيد الحياة وقيد التهديد الوحشي الرهيب، تصرخ النفس بالدعاء، بعد أن ابتلت العيون بالدموع، وسالت تلك الدموع إلى الوجه والعنق وخضبت اللحية الطاهرة، بماء الأحزان، فالشجاع يبكي أهله وقومه وحتى بعض أعدائه السفهاء الذين لا يفقهون من أمرهم شيئاً! وكم من آل البيت ذبلت عيونهم من البكاء، فماذا يفعل الشجعان الحكماء الصادقون غير ذلك، والأمور على ما لا يرام بأيدي من لا يستطيعون معهم التوجيه وأخذ كلمة حق وطاعة؟! وكان دعاء الحسين إيذاناً بإفناء الجسد، وانطلاق الروح الى بارئها. لقد تفجرت الروح دعاء، بعد ان امتلأت النفس بالمرارة الوخيمة، واشتد العطش، وحيل بينه وبين قطرات من ماء الفرات، وتفجر دمه الزكي من جسده الذي تناوشته السهام، فجاء الدعاء، مبتدئاً بـ(اللهم)، وهل هناك من ينادي غير الله الذي بيده الحياة والموت والقدرة، وعينه التي تسع السماوات والارضين ترى ما حل بريحانة رسوله وذريته الكريمة من تسابق على بشاعة التقتيل، فـ(اللهم) كانت الملجأ الأول والأخير، من قبل ومن بعد، فهي لوذة الملتاذ من المؤمنين، وهي الاسعاف والمبتغى، وهي التوجه والانتماء، وهي العشق والفناء، وإنها (اللهم) التي تعطي ما تعطي من ماء رقراق أو سيل عرم، أو زلزال، أو نار لاهبة، أو صواعق محرقة، ففي (اللهم) احتمت، روح الحسين الثائرة، وبها تشبثت، فلم تشعر بعد بعذاب الجسد الذي سالت دماؤه المتبقية من كامن العطش واللواعج، كان وحيداً غريباً، مدمياً، محاطاً بأشلاء أصحابه وأهله، تكاثرت عليه الجموع القاتلة، كالصيادين المجانين الذين استهوتهم الطريدة، وعظم الجائزة، فهل هناك غير (اللهم) بها يدعو، ويستصرخ، ويخاطب، ويختار الاصطفاء الأخير إلى حيث تدعوه روح جده النبي (ص) وأبيه الامام (ع) وأخيه الحسن (ع)؟! ويا لهول الدعاء اذا ما انطلقت (اللهم) من صدر مخنوق كصدر الحسين (ع) تضيق عليه دائرة القتل فكان الصدر يتسع بـ(اللهم) فقط، وتخرج الروح من دائرة القتل الضيقة، إلى دائرة الاستشهاد الواسعة العظمى، التي هو منها في المركز، وعلى محيطها ينتظر الأبرار، والأخيار، والاطهار، والأصحاب، وكل من يبتغي عز الله، ورضوانه، وفضله، وصاح: (اللهم اني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تذر على الارض منهم أحداً). وعبر الزمن ترد التحية الالهية، رداً بليغاً، هائلاً وتظل كلمات الحسين نفسها هي أخذ الله الشديد: (وايم الله لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم الله لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الاليم)(13). وكانت الآية الكريمة تحف برأسه هالة نور، مبشرة له، منذرة لسواه: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)(14). وكان قصاص الله شديداً، لا امهال فيه، واستمرت ذرية النبي، ولم يبق للقتلة عقب، ولم يفلت من عقاب الله أحد. و(إنه قل من نجا من اولئك الذين قتلوه من آفة أو عاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض، وأكثرهم أصابهم الجنون)(15). ودخل الحسين عالم الآخرة شهيداً، بل سيد الشهداء، وسيد الأبرار والاطهار، سيد شباب أهل الجنة، وأصبح على مر التاريخ رمزاً فذاً في الدفاع عن الحق، والتمسك بعدالة القضية، والذود عن المظلومين، والرد على الظالمين، وصلابة الموقف برغم قلة الناصر والمعين، وتفتق الحكمة والعلم برغم ما أحاق به من مكر وقتل واجرام، وظل ذكره خالداً على امتداد العصور، وتلك مشيئة الله التي لا تبدلها مشيئة. وردت البشرية التحية على سبط النبي (ص)، فأصبح علماً في الحق والتصميم على الكفاح والفداء.

(1)سورة النساء: آية 86

(2)د. الشيخ عبد الحليم محمود في تصديره كتاب (سيد شباب أهل الجنة) بقلم حسين محمد يوسف.

(3) المصدر نفسه.

(4)حسين محمد يوسف: سيد شباب أهل الجنة (كتاب الشعب – القاهرة – مؤسسة صحفية عربية) وقد اعتمدت هذا الكتاب الجيد – على ما فيه من تكرار – مصدراً أساسياً يغني عن بعض المراجع.

(5) السيوطي – الجامع الكبير (المصدر المذكور).

(6) ابن كثير – البداية والنهاية (المصدر المذكور).

(7)المصدر المذكور.

(8)عن قول النبي (ص) (الحسن والحسين اسمان من أسماء أهل الجنة، ما سمعت العرب بهما في الجاهلية). عن تاريخ الخلفاء للسيوطي- المصدر نفسه.

(9)،(10)،(11)،(12)،(13) المصدر نفسه.

(14)سورة الانعام: 44 و 45.

(15)ابن كثير (البداية والنهاية) – المصدر.

م- كانت جارية عند الحسين أعطته طاقة ورد، فكان ان اعتقها، برد التحية إلى ما هو خير منها (الخبر مثبت في المصدر الأساسي).

((( من ارشيف مركز عزيز السيد جاسم للبحوث والدراسات))))

 

المشـاهدات 813   تاريخ الإضافـة 06/10/2020   رقم المحتوى 8726
أضف تقييـم