أدرك نوري باشا السعيد رئيس حكومات العهد الملكي المزمن والمتكرر بحكم حاجة العراق لخدماته ولقيادته ، ادرك قيمة المتغير الدولي ، وعلم عن قرب كيف تتشكل خرائط العالم الجديد ،بعيُد الحقبة الكولونيالية وظهور الاستعمار الحديث في عهد الامبراليات التي كانت فرنسا و بريطانيا المملكة التي لا تغيب عنها الشمس حواضر رسم سياسات العالم انذاك ، و رغم ضباب عاصمتها لندن وجفاء طقسها ،

ادرك الباشا أن عالماً يتكون بعُيد الحرب الاولى باقصاء الرجل العثماني المريض الذي انهكه التاريخ الطويل من الهيمنة على العالم ، الذي بدد أحلام شعوب كثيرة في مقدمها العرب ، واخذت امبراطوريته تتقهقر باندفاع الدول الاوربية التي قوضت تلك الامة العثمانية وردتها الى خارطتها الاقليمية الطبيعية منسحبة و تسعى للتفاوض قبيل الاذعان التام لتاخذ ولايتي الموصل والاسكندرونة بين ممتلكاتها، كاخر مكاسبها ً لكن الباشا برجاحة عقله وحنكته انتزع ولاية الموصل وابقاها بين ضلوع الوطن العراقي ،ليرفع علم مملكة العراق عاليا ويدخل عصبة الامم العام 1932 ويهوّس  في البرلمان : ( دار السيد مامونه ) ، والسيد هنا يعني الملك الهاشمي جلالة الملك فيصل الاول مؤسس الدولة العراقية الحديثة ، وبانيها ، و مهندسها الباشا الذي أجتاز رسوم سايكس-بيكو ، وتمكن ان ينتزع شكل الدولة العراقية الحالية التي نفخر بها ونقاتل في سبيلها ،

ونوري باشا تاريخ من المنجزات والمحطات التي اوجزت زمن التاسيس بجدارة يطول ذكرها لكنها  أسست  لركائز وطن من أغنى وافقر البلدان في أن ، وقتها ، فلم يكن هناك بيتا ً واحدا ً في عاصمته يصلح لمقام ملك العراق القادم من الحجاز  وهو سليل ملوك نجد والحجاز وابو الملوك والامراء فتبرع احد اعيان بغداد ببيته قصرا ً للملك ، وكانت البلاد شيعا ً وخليط بشري لم تقم فيه بعد فكرة المواطنة والوعي الموحد ،ولم تكن زعاماته سوى أطراف  منقسمة على نفسها محتربة مع الاخرين بالكاد تدرء غزوات الصحراء وجيوش الاعداء وقد تخلصت من حقبة طويلة من الهيمنة بدات منذ سقوط العصر العباسي الزاهر 1258 ،ولسبعة قرون من الاستعمار والتبعية التي جعلت العراق مطحنة بل ( مثرمة )للصراعات الاثنية و الاقليمية، بدأها المغول باحتلال العراق وتحطيم صروحه وعدد من دول الاقليم لتنتهي بصراع الغرب مع العثمانيين وغلبتهم عليهم ،

لكن نوري باشا كان يدرك ان العالم يتغير وانه أضحى يتحاصص على المستعمرات والاقاليم كمناطق نفوذ فلابد ان ياخذ العراق حصته ووضعه الطبيعي رغم خسارات فرضها منطق الاستعمار البريطاني في اقصى الجنوب وشرق العراق و الخليج العربي بولاية المحمرة، التي سارع رضا بهلوي لاقتطاعها من ارض العرب ليحول أمارة المحمرة  العربية الى  ( خوزستان) ويندفع نحو المياه الدافئة،

لكن نوري باشا بقدرات محدودة  وجيش وليد تمكن من التربع على عرش دولة كانت ومازالت مختلفة بكل شي ، ومتقاتلة على أي شي بحكم انقسام الوعي العام و تدخل قوى أقليمية مازالت نافذة منذ ذلك التاريخ ، لكن نمط قيادته وحنكته انتزعت اكبر قدر من المكاسب  للعراقيبن  وعمل على تقليل الخسائر باقل ما يمكن ، بروح عراقية عروبية لن تتكرر في التاريخ، وهو يحارب على جبهتي الداخل والخارج ، ليقول في اخر المطاف لطلابه في المدرسة  الحربية ببغداد  ؛ ( اتعرفون مغزى ان يكون للعراق أمن وطني ؟ فيفغر اولئك الشبان افواههم منتظرين أجابته ؛ ويردف : انا اقول لكم حين يؤمّن العراق منابع نهري دجلة والفرات ويمتلك منفذاً  كفوءأً  على البحر )

وما ان مضت سنوات على هذا الجرس الذي علقه نوري باشا على أبواب  بغداد خلاصته ؛ المنفذ الكفوء وتامين منابع نهريه  ، حتى انقلبت الدنيا عليه ودفعت أموال طائلة لأسقاطه  حتى قتله و سحله  في شوارع بغداد ، لان العراقيين  لم يدركوا  بعد مغزى رؤيته التي تقدمت عليهم نصف قرن ليجد العراق نفسه في الاخر ؛ جيشه ممزقا ً وشعبه مقتولاً  وثروته مسروقة وعاصمته مخربة وحدوده منتهكة بلا منافذ محكمة ونفطه مسروقا ًوعياله مشردين !

ماذا فعلت بنا أيها الفريق الركن ،وانت خريج سانت هيرس لتهمس برؤسنا عن سر البقاء !

اما كنت تعلم ( أن للحيطان أذان ) !؟