الجمعة 2024/4/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 34.95 مئويـة
رحلة المفكر المغيّب عزيز السيد جاسم من الماركسية اللينينية الى الصوفية
رحلة المفكر المغيّب عزيز السيد جاسم من الماركسية اللينينية الى الصوفية
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب أ.م.د. اكرم سالم
النـص :

لا يمكنني نسيان مشهد عزيز السيد جاسم برفقة عبد الخالق السامرائي في بداية السبعينيات من القرن الماضي وهما يغذان السير ذهابا وإيابا على شاطيء دجلة بحديقة المكتب الثقافي. لقد كانا رفيقي درب نضالي وصاحبي قضية كبرى وهمّ فكري انساني. المفارقة ان عبد الخالق اخذ يشعر مبكرا بمسؤوليته الكبيرة ازاء سلطة اسهم بقدر كبير في صنعها ونموها وترسيخها فاخذت تتغوّل وتتشيطن وتشهر ادواتها البوليسية وتتفنّن بها بوجه رفاقه وحلفائه وشعبه وتبطش بهم بشكل دموي منفلت !! .  لم يلتقيا صدفة بل التقيا على ذلك الهمّ الفكري المشترك والمباديء النضالية التي تنشد الطريق يسارا عابرين كل الجزئيات والتفاصيل التي يكمن بها الشيطان. فعبدالخالق نشأ في سرّ من رأى نشأة قومية اصيلة غير انها كانت ببداياتها فضفاضة متأرجحة يمينا ويسارا حتى عام 1964 ثم توضحت عام 1967 بعد نكسة 5 حزيران التي بلورت الرؤى والتوجهات الجماهيرية الطبقية للفصائل الوطنية والقومية والتقدمية بعدم امكانية تجاوزها او تخطيها من قبل البورجوازية الصغيرة وزعمائها العسكر الذين سبق وأن سجلوا اخفاقات تاريخية كبرى لا يمكن وصفها الا بالنكسات الكارثية على اقل تقدير. اما عزيز فقد جاء من الناصرية قرية الغازية ونشأ في بيت علوي تقي لكنه اختار منذ عشرينيات شبابه ان يسلك مسلكا ماركسيا لينينيا فصار عضوا قياديا بالحزب الشيوعي بالناصرية واصبح صوته عاليا مسموعا على كل المستويات في العراق، لكنه سرعان ما انقلب عليه بوعي ناقد نافذ ليختط خطا ماركسيا مستقلا يؤكد على الجذور القومية والاسلامية ومن هنا ابتدأ اللقاء الايديولوجي بين عزيز وعبدالخالق بشكل لا ينفصم ابدا الى النهاية وصارا صنوين لا يفترقان،التقاء على عشق الحرية والكلمة السامية والعدالة الاجتماعية وتقديس آدمية الانسان في كل مكان من المعمورة ورفض استغلاله وادوات استلابه وافقاره وحرمانه ،وأن الصراع الطبقي محرك عظيم من محركات التاريخ وضروراته الثورية لدفع عجلة التنمية والتقدم الاجتماعي، وقد توافقا على ان الاحزاب وان تعددت مسمياتها فلن تتعدى كونها هياكل ووسائل متباينة بمسميات وشعارات مختلفة للوصول الى هذه الاهداف المشتركة النبيلة من خلال اختيار اليسار الجماهيري الديمقراطي بديلا حاسما لا مناص منه. وقد ترك هذا الالتقاء والشراكة المبدئية البصمات المميزة على جميع نتاجات المكتب الثقافي القومي في حينها وقد كانت نتاجات ثرية غزيرة حتى انها قد اثارت حفيظة و غضب السلطة التي اوغلت في نهجيها المتعجرف الدموي بمقابل ذلك بصورة تدعو للخيبة ولاسيما حين اصدر عبد الخالق السامرائي كتيبه المهم المتعلق بحزب الطبقة العاملة الذي تضمن تاكيدا حاسما لنهجه الاشتراكي العلمي طريقا لا حياد عنه للوصول الى مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية وجاء ثمرة ناضجة للتلاقح الايديولوجي العضوي مع افكار ورؤى عزيز السيد جاسم فضلا عن تناغمها مع(المنطلقات النظرية) المستجدة التي تبشّر ببدايات جذرية جوهرية تماشيا مع المرحلة التاريخية.ذلك الكتيب الايديولوجي دق بمنطلقاته الجوهرية ناقوس الخطر وصعق الركائز السلطوية اليمينية فهزها من الاعماق تماما ،فالسلطة قد ادركت ان هذا النهج الذي يقوده عبدالخالق بالتنسيق مع عزيز متجسدا على الارض بصيغ وانجازات مختلفة منها الجبهة الوطنية التقدمية مع الحزب الشيوعي العراقي وحل القضية الكردية حلا سلميا ببيان آذار وتأميم شركات البترول في العراق وتأكيد الدور المحوري للطبقة العاملة وتحالفها مع الفلاحين والجماهير الكادحة، ادركت تلك السلطة وكانت سلطة ماتزال غير متسقة في هيكليتها الغالبة سلطة تجميعية عسكرية يرأسها جنرال لايميزه عن الجنرالات الاخرين سوى كرم اخلاقه وصفاء سريرته الوطنية لكنه ملتزم تماما بولاءاته المناطقية والقبلية التي آلت الى تقوية سلطة نائبه الشاب الطموح بلا حدود المتعطش للدماء والهيمنة والتفرّد ، ادركت السلطة ان مداد اقلام المفكرين في المكتب الثقافي اصبحت روافد وانهارا تغذي العقول الجماهيرية التي يحدوها ركب عبد الخالق الذي يمثل الشرعية الحزبية بلا جدال على المستويين القطري والقومي ،فكان على النائب بحادلته البوليسية الشرسة ومنظمته الدفينة (حنين) التي تحولت بعد 1968 الى جهاز مباحثي بامتياز ان يزيح من طريقه عبدالخالق السامرائي وجميع الملتفين حوله من كادر مناضل وبخاصة من العمال والمثقفين الثوريين..وقد حصل ذلك فعلا عام 1973 بما اطلق عليه بمؤامرة ناظم كزار التي لا تخلو من بصمات النائب ومنظمته العميقة (حنين)..وذلك جرّ الى اعتقال عبد الخالق السامرائي على وفق تمثيلية هزلية مفبركة وسيق للاعدام غير ان محمد عايش رئيس نقابات العمال ارسل صديقه عزيز السيد جاسم الى بيروت حيث نخبة من قادة الحركات الوطنية التقدمية و القومية ورموز العمل الفدائي الذين نجحوا في تجميد اعدام عبد الخالق وتأجيله الى ما بعد ست سنوات اذ اعدم عام 1979 مع المتأثرين بأفكاره ومثله النبيلة ،وباعدام السامرائي ادركنا وبخاصة نحن القريبين من عزيز السيد جاسم ان  سنواته وايامه اصبحت معدودة اذ ان ذلك النوع من السلطات الاستبدادية لن تنسى مطلقا ولن تعفو وإن جرى التسويف بفعل الضغوط العربية والعالمية.  قبيل اعدام عبدالخالق وتحديدا في عام 1978 صدرت قرارات سلطوية جائرة بتحجيم دور عزيز ونقله لوزارة الزراعة واحالته للتقاعد والتنكيل به بكل الصور التي تمثلت بنوع من الاقامة الجبرية ومنع تداول مؤلفاته وكتاباته غير ان ابا خولة واجه كل تلك الاجراءات التعسفية الظالمة بشجاعة منقطعة النظير وصار معتكفا في بيته الا من  بعض الزيارات لصديقه بناي ومكتبته في الباب الشرقي معتزلا العالم تماما ، كما و انني زرته بصحبة الكاتب الراحل رزاق ابراهيم حسن وجلسنا في بيته وجرنا الحديث الى اعتقال زميل صحفي لنا بتسفيرات الداخلية فوجدناه بغير حالته التي نعرفها اذ كانت علامات الاحباط واضحة عليه بالرغم من ابتسامته المتكلفة التي تخفي وراءها ما تخفي من رؤية حالكة متشحة بالسواد لمستقبل العراق في اتجاهه نحو نفق مظلم ومتاهة!! فقد عرف ابو خولة ببصيرته المستقبلية الثاقبة كما لمست منه تلميحات لا تقبل الشك عن توجهاته الصوفية المعبرة عن انكساره المفجع و يأسه عن تحقيق مشروعه الثوري الاشتراكي النهضوي الذي اشترك به مع عبد الخالق. بعدها ايقنا كما ايقن ابو خولة انه ذاهب نحو الموت ومواجهته برجليه ليتوحد مع الكون والذوبان بطينه ومائه وجزيئاته في الطريق الى الله . فالصوفية ترفض المنطق العقلي للوصول الى الله ولكن يمكن ذلك من خلال شعائر معينة وتجربة شخصية بغية الوصول الى اليقين من خلال التطهّر النفسي و الفناء في الله ،كذلك فانها لا تقتصر على الاسلام وانما تمتد الى كل الحضارات والاديان والنحل ،وهي كما جاء في مقدمة ابن خلدون العكوف على العبادة والانقطاع الى الله والاعراض عن زخرف الحياة وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة . الاتصال الاخير مع استاذنا ابي خولة حينما اتصل بي عام 1986 بجريدة الجمهورية  و اراد نشر مقالة صحفية تعبر عن تحولاته الفكرية الصوفية الجميلة .لروحي أبي دحام وابي خولة ولأرواح المغيبين الشهداء جميعا السلام والسكينة الابدية..ولترقد اجسادهم وتذوب وتختلط مع التراب والماء وتتوحد مع العراق ومع الكون في حقيقته المطلقة.

المشـاهدات 672   تاريخ الإضافـة 20/01/2021   رقم المحتوى 9579
أضف تقييـم