الثلاثاء 2024/4/16 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 30.95 مئويـة
نبض الهايكو # قصيدة الهايكو العربية # - مقدمة بحثية في الأفاق والتحديات -
نبض الهايكو # قصيدة الهايكو العربية # - مقدمة بحثية في الأفاق والتحديات -
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

.سمير منصور / الاردن

قيل لراهب : ما الحلم ؟

قال : أُمنيةٌ تمرُّ !

قالوا : فكيف نُمسك بها ؟

قال : بالكتابة !

.

كلّ لحظةٍ في الحياةِ هي أُمنيةٌ عابرة .. وكل أنواع القصائد هي محاولات حثيثة للقبض على أمنياتها المتلاشية .. وعادة ما تستمّد القصائد وجودها من مخيلة الشّاعر وتقنياته الفنيّة للوصول إلى أعلى تجلياتها .. بإستثناء قصيدة الهايكو ! هي وحدها التي يستمد وجودنا نحن معنى له من فرادة تجلياتها .

.

عُصفورٌ على النّافذةْ

يُشاركُنيْ الوَقتَ

في زنزانةِ الحياةْ

( محمود الرجبي )

.

مأدبة للعواءْ ،

ذئابُ البراري يجمعها

قمرُ الصيدْ

( عبدالستار البدراني )

.

في عربةِ الدّفنِ

أخيراً جَسَدُها

يَختبرُ الرّعشةْ

( سامر زكريا )

.

ظلّي

على السّور المُثقّبِ

يُشبهنيْ

( سامح درويش )

.

مقعدُ الحَديقةْ

سَبقنيْ إليهِ

صقيعُ الصباحْ

( عبدالقادر الجموسي )

.

الشجرة

والخريف حولها

يوسع الفراغ

( ربيع الأتات )

.

هي هناك .. بجلالها الكامل تنتظر من يلتقطها ، ولا تحتاج إلا إلى ترجمة أنيقة تليق بها .. من لغة الواقع والطبيعة إلى أي لغة إنسانية من اللغات المتعددة !

مُروراً بزهرِ الكرزْ

ماذا أُسمّي

خَفقانُ قلبيْ

( هالا الشّعار )

.

مقعدٌ قديمْ ،

تنبتُ الأزهارُ

حيثُ إنتهى الكلام

( فاتن أنور )

.

نصفُ قمرْ

حتى زهرة الماغنوليا

تبدو باهتةْ

( نجوى شعلان )

.

أنا مثلكِ ،

أطفو فوق أحلامي

يا زهرةَ اللوتسْ

( كبرياء إبراهيم )

.

خلف الشّفق

ثمّة شيء أذهل الطائر

أجهلهُ أنا

( رنيم جسار )

.

صباحاً ،

تُغريني بالبكاء

قطرةُ ندى على خد زهرةْ

( شيراز إبراهيم )

.

إلى المقبرة

ترافقُ النّعشَ

أوراقُ الخريفْ

( حربة الحصري )

أذكرُ مرةً أني قضيت سهرةً مع أحد أصدقائي الشعراء في إحدى مزارع الأغوار الشّمالية بالأردن ، قبالة حقلٍ لعبّاد الشّمس ، والذي لطالما تغنّى شعراء الهايكو بشتّى لقطاته الجّمالية ، حتى حسبت أنه لم تبق زاوية منه أفلتت من قصائدهم المتعددة .. وفجأة .. إنتبهت وأنا أتأملُ الحقل .. إلى القمر الذي كان يعبر الليل أعلى زهرات الشّمس المنكّسة .. غير عابئة بمروره الفاتن .. فقلت لصديقي : تلك قصيدة هايكو ! تحتاج لمن يلتقطها ، فقال صديقي : نعم ، أكتبها هكذا كما هي :

.

حقلُ عبّاد الشّمسْ ،

ولا زَهْرَة ً تُباليْ

بِالقَمَرْ

.

أجل هكذا .. كما هي تماماً .. بمنتهى البساطة .. وبأقل حروفٍ ممكنة !

غادرت صباح اليوم التالي بقصيدةٍ إلتقطتها أنا .. وصاغها صديقي ، أو قبضت عليها أنا وكتبها هو .. تشاركنا في القبض على أمنية عابرة .. تماما كما قال راهب الأمنيات ذات مرة !

تلك الواقعة الفارقة ، أعادت لي شيئاً من إحساسي بجمالية المكان الحسي .. في زحمة الإنشغالات اليومية التي تشتت ضوء ( اليقظة الدائمة ) ، والتي من المفترض أن يعول عليها شاعر الهايكو عادةً  في قنص اللمحات المواربة .

علمني ذلك أن أعيش كل لحظةٍ  كما لو كانت آخر لحظة ! وفي كل مكان كما لو كان أصل الأمكنة .

تعلمت أن أتوقع اللامتوقع من عناصر الواقع المراوغة ، وشيئاً فشيئاً إبتعدت عن إستحضار ما فاتني من مفارقات الجّمال في مواقف عشتها سابقاً ، قبل أن يأسرني عالم الهايكو !

وتعلمت أن المشهد الواحد له ما لا يحصى من زوايا الجّمال التي تميز كل زاوية منها بطابع قصيدته وتجعلها مختلفة تماماً عن باقي قصائده السابقة .

ما يهم أكثر في قصيدة الهايكو المميزة ، هو لقطتها الجّمالية المختلفة عن كل ما سبقها من اللقطات الجّمالية لنفس المشهد .. أما المشاهد فهي مجرّد صفحات من الصور اليومية المتلاحقة التي تمر عليها الحواس وتقدم للوعي فرصة القبض على اللحظات المتلاشية .

ولأن لا نهجاً جمالياً في رحلة الوعي بلا بدايات .. فقد عدت إلى حكاية " قصيدة الهايكو" بقراءات غاية في الإستفاضة ، ونهلت من جماليات أدبياتها المتعاقبة .. حتى جذورها في القصائد الصينية القديمة منذ عهد " لي باي " و " دوفو " قبل بزوغ شمس الهايكو بألف سنة ، وأتخذت من  ملامحها جوهراً جمالياً خاصاً تتكيء عليه حاستي الشعرية .

كانت قصائد الهايكو الأولى في شرق آسيا عموماً تتجول بين الجبال والأودية ، محاطة بأغان حقول الأرز ورحلات الصيد الطويلة ، وأحيانا بإبتهالات الفلاحين للسماء ، وأغاني الحصاد ، وأناشيد الحُبّ الضّائع على السّواحل المنسيّة ، أوصيحات الطّيور المهاجرة نحو السّهول الجنوبيّة .

كانت هذه المشاهد هي الينبوع الذي تدفقت منها جميع المشاهد التفصيلية الصّغيرة.

بالمقابل وجدت الكثير من المشاهد المناظرة الموازية لها جمالياً ، في أقاليمنا العربية بدءً من صيحات النّوارس المحلّقة فوق سواحل الأطلسي مروراً بأسراب السّنونو العائدة من الجنوب ، وقمر الحصاد الدافئ فوق الفزاعات الصامتة أمام أغان الرعاة في سهول القمح الذهبية .. وحتى حكايات البحر المرصّعة بالمحار واللؤلو وحصى الشطآن الملونة ، وحكايات النخيل الدافئ مع الريح الباردة .. وليس إنتهاءً بهذيان شمس الظهيرة فوق فيافي الصّحاري الشّاسعة .

ولك أن تتخيل ما تبقى من هذه المشاهد ومشتقاتها من المشاهد ذات التفاصيل الصغيرة ( الإسكتشات اليومية ) ، ومدى غناها بألوانها في محاكاتها الطبيعية لإنماط وعينا الشّعرية .

مساءٌ باردْ -

بلونِ الحنّاء زغبةُ أمّي

على المشط الفضّي

( حسن رفيقي )

.

على الورقة البيضاء

رسمُ الحمامة

يطيرُ مع الرّيحْ

( عمار حمودي )

.

إنقلابٌ ربيعي -

عالقٌ بين فصلين

قمرُ البركةْ

( طارق نصر )

.

مفترق طرق ،

أغصانُ البلوطة الجرداء

توزع الإتجاهاتْ

( فراس حمدان )

.

طريقُ المقبرةْ -

بماسحاتِ الزّجاجِ

أُزيلُ آثار الفراشاتْ

( أحمد الحكمية )

.

مثل كل شيءٍ عابرٍ

تُلهيني عن الموتِ

فراشاتُ المقبرة

( عبدالحق موتشاوي )

مِرآة ،

بينما أسرحُ في الشّيبِ

تُباغتني بسمتها

( محمد إبراهيم )

.

بين الأقاحيْ

أعبرُ العالمَ ،

خالي الوفاضْ

( الهادي زويتن )

أليست قصيدة الهايكو الحقيقيّة تشير دائماً لوعينا بلمحة فذّة عن لحظة الجّمال العميقة ولا تصرح بها أبداً أو تفسّرها ، بدعوة نبيلة للمشاركة في تخليقها حتى !

إن إدراك ما هو موضوعي ( موجود تماماً كما هو ) وما هو غير موضوعي ( مزين بإضافات المخيلة ) ، هو ما يؤهلنا تماماً لصياغة قصيدة هايكو تستحق الإهتمام وتتمتع بجماليّة مؤثرة ، ويمنحها شعريتها الصّافية ، ويكمن سرّ ذلك في وصول وعينا تماماً إلى أقصى درجات الحياد مع المرصود في تلك اللحظة وفي إعترافنا النقي  بأصالة حقيقته ، وذلك هو عُرف كبار شعراء الهايكو - كما قرأت - والذي هو أبسط الشروط المتبعة في قواعد الرؤية الحقيقة الأصيلة في النظر إلى الأشياء .

وهذا تماماً ما يجعلنا نضع مشاعرنا جانباً حين نكتب الهايكو ونقدم فقط العناصر التي أدت إلى إثارتها ، وبذلك نترك لمشاعر المتلقي الفرصة القصوى للتجلي والإفاضة والتدفق عبر الصياغة الذكية للقصيدة .

ليلاً ،

شوارعُ المدينةِ ينيرها

ماءُ المطرْ

( نضال حرب )

.

لا أحد ينتظرني

ولست بإنتظار أحد ،

محطةُ قطارٍ خاليةْ

( رحيم جماعي )

.

فمي مفتوحْ

أبتلعُ الكثير من الضباب

ويبقى الكثير

( شفيق درويش )

.

السوق ،

يضبطُ إيقاعَ الضجيجِ

بائعُ السّوسْ

( فراس الصّفار )

.

بمظلّةٍ مقلوبةْ ،

طفلةٌ

تجمعُ المطرْ

( علي القيسي )

.

من حقله إلى المشفى

يُشَيَّعُ الوردُ

إلى مثواه الأخيرْ

( حميدالله حميدالله )

.

زيارةٌ صباحية ،

ظلُّ مئذنةٍ

على جدار كنيسةْ

( عصام زودي )

.

حوض البقدونس -

آخرُ تغريدةٍ للدّوريْ

وثبةُ القطْ

( محمد طبر )

.

ذلك يقودنا تقنياً إلى أهمية أدوات القطع في قصيدة الهايكو ، فحين بدأت أكتب الهايكو كنت أظن أن أدوات القطع مجرّد محطّات وقوف أو تريّث للمتلقي فقط ، مع الوقت تبين لي أن أنها أكثر من ذلك بكثير ، إنها تمثل المفصل الرئيس بين جزئي النص لصورتين لا علاقة بينهما ظاهرياً ، لكن في الخفاء تُحاك في ظلالهما المتقاطعة عناصر الحركة الناسجة بصمت .. للقطة النص الباهرة .

وحيداً على الطّاولة

يحتسي الفراغ

فنجانُ القهوة

( حسني التهامي )

.

كانت إحتمال سنبلة

حبة الحنطة

التي إلتقطها الطائرْ

( سميرة سلمان )

.

غراب راحل

يتركُ لرجلِ الثّلجِ

ريشةْ

( نور الدين بوشماوي )

.

لننتظر قليلاً

من حقلِ النعناعِ

سيأتي المساءْ

( مريم لحلو )

.

نسماتٌ صيفية ،

على فراشك الوثير

تغالبني الثّمالةْ

( لبنى منان )

.

متجر الالآت الموسيقيةْ ،

يشدُّ الصقيعُ

أوتار الكمانْ

( سامي حمروني )

.

أجل ..هي  لمعة البرق في ظلال النّص المعتمة ، تلك هي ( واو ) المتلقي ببساطة ، وبقدر ما تكون اللقطة عميقة بقدر ما يشرق النص بالدلالات والمعاني المؤثرة .

وذلك علمني أن لصور المشهد المتجاورة طاقة إيحاء لا يستهان بها تبلور بلاغة حداثيّة تتجاوز في التعبير كل الإمكانيات البلاغية التقليدية .

قصيرٌ هذا النّهار

لكّنه طويلٌ

أثرُ الحلزونْ

( مهدي موسى )

.

شمسُ الصّباح

مع آخر قطرة ندى تميلُ

زهرة الأقحوانْ

( نزار داوود )

.

بصوت الحذاء

أستأنس ،

طول الطّريقْ

( صلاح مأموني )

.

ليت لي جرأة ،

أزهار الخوخِ تتفتّحُ

على أغصانٍ عاريةْ

( نداء سليمان )

.

ولأن الزمن مهما إستطال يتكرّر دوماً في فصوله الأربعة ، فقد أصبحت هذه الفصول  هي الأبعاد الحقيقية لشعريّة المكان في فلم الهايكو القصير وخلفيته الموسيقية ، بخلاف ما تضفي هذه الأبعاد من الدلالات الشعورية على حدث المشهد ، فورقة صفراء مثلاً لا توحي بالخريف فقط ، بقدر ما تمنح ضوء الإستدلال على عناصر الخريف الأخرى وأصواتها المتقاطعة ، كخشخشة الأوراق وعويل الرّيح وغيرها من الأصوات التي يستخدمها المخرج أحياناً كخلفية موسيقية لمشهده السينمائي .

إن ما يجعل نص الهايكو الحقيقي يتميز بشعرية خاصة هو إنعكاسه منفرداً من لاوعي الطبيعة والواقع المّادي - وعيها الصافي مجازاً - والذي لم يلوث بطبقات المعرفة المسبقة والحقائق الخاصة المتعددة والمعقّدة ، لذا فهو يحتاج إلى رهافة ودقة عالية في إختيار المفردات الأكثر ملائمة وتوظيف إيقاعها ودلالاتها المناسبة لسياق النص ونسقه ، كي يبنى عالماً آخر يوازي المشهد بجماليته ، عبر حوارية ولعبة اللغة المتوترة ، والتي تلامس تلافيفاً عذراء في أعماق وجداننا لم تصلها من قبل قوارب الشعر عبر بحور اللغات المتعددة ، وكما لو أننا نقبض على سرّة الشّمس .. في سرير العتمة .. ذات ليلة شتائيةٍ باردة !

.لطالما ذكرني ذلك بمقولة فارقة للموسيقار الشهير hans zimmer

" if i play you apiece of music ,

that's when you can truly look inside me ! "

." أن أعزف لك قطعة موسيقية ، فذلك ما يجعلك حقيقةً ترى ما بداخلي ! "

المشـاهدات 995   تاريخ الإضافـة 04/04/2021   رقم المحتوى 10406
أضف تقييـم