رسول يحيى

يعتبر الناقد الروسي ميخائيل باختين الرسالة أقدر الأنواع السردية على استيعاب الخطابات المختلفة، وتطويعها في خدمتها، لقد استخدمت الرواية الرسالة استخدامًا جزئيًّا على شكل خطابات بين شخصياتها. وهذا ما نلاحظه في كثير من الروايات على تفاوت في التأثير في بنائها من رواية إلى أخرى، ولا عجب أن تُدرِك الرواية بوصفها نوعًا من الخطاب السردي الذي يوجه إلى الآخر أهمية الرسالة، التي هي الأخرى نوع سردي يتوجه به المرسل إلى المرسل إليه؛ ليبلغه معلومات وبيانات وأحداثًا؛  لتحقيق هدف أو أهداف معينة، وقد تتخذ الرواية من هذا الالتقاء شكل الرسالة في بناء فضائها، وتقديم عالمها وقد استخدمت الرواية الرسالة استخدامًا كليًّا وجعلتها بنيتها الأساسية وشكلها؛ ليتبلور لدينا ما نطلق علية رواية الرسالة ومن هنا تتضح رؤية الروائي جابر خليفة جابر ورسائله في رواية مخيم المواركة الصادر عن دار فضاءات الطبعة الاولى عام 2012.

هذه إحدى رسائل عديدة كان عمار إشبيلو وهذا هو اسمه أرسلها لي بمبادرة منه. أدهشتني أولى رسائله، لا أدري لماذا خاطبني بالمريسكي، تفاصيل كثيرة يعرفها عني، ص11

هنا استخدم الروائي جابر خليفة جابر في رواية  مخيم المواركة ضمير المتكلم والمخاطب في بنائها واعتمادها الكلي على الرسالة حيث احتوت الرواية على متلقين اثنين المرسل إليه والذي نشر الرواية باسمة، وخارجي وهو القارئ.

هل يكفيك هذا تعريفاً بالدكتور أحمد رودميرو؟ أتركك اليوم، لأحدثك بعدها عن مخيمنا ص13

اسمع صديقي ص13

سأروي لك حكايات أجمل، انتظرني.. محبتي / عمار إشبيليو ص27

الرواية عامة تميل غالبًا إلى تقديم شخصيات كثيرة، وتتوسع في استخدام الزمان والمكان، وتتعدى تناول قضايا العلاقات العاطفية إلى تناول قضايا كثيرة في المجتمع ولكن هنا نقلنا الراوي إلى نوع من رواية الرسالة تختلف اختلافا جذرياً عن السائد حيث أتخذ الحكاية أو القصة القصيرة جداً منطلقاً لأحداثها وبعض الأحداث التاريخية والعلائق الاجتماعية بين طوائف متعددة الأعراق والديانات عكس المعلوم عن رواية الرسالة التي لها خصيصة الرومانسية، وأحداثها قريبة من الواقع

إن الأقفال، وهو عنوان القصاصة السردية، تثير عند القارئ انثيالات شتى، ص23

لم تذكروا خاتمة الحكاية يا إخوة، لا شك أنها مؤلمة ص24

لنعد الآن إلى إكمال حكاية سوق القيصرية، وفقا لما كتبته الخيمة الحمراء، وخيمة غرناطة.. ص61

التبئير الفكري أو البؤرة الثابتة

قدم جابر خليفة استراتيجية في كتابة النص تحديدًا, في التناص التاريخي, ونقصد بالتناص التاريخي الالتزام بحُبَك قديمة وتغذّيها بمجريات العصرنة في التطوّر والتجريد أي أن التاريخ يعيد نفسه, بماذا؟ بإعادة الحوادث التاريخية, فالأدب يعيد نفسه في الحدث الإنساني إذًا لا تخرج رواية ومخيم المواركة عن  شاعرية ملهمة وعن التناص التاريخي الشامل, وتعطينا عبرة جديدة عند التفسير التدريجي المدعّم بذرائع علمية موزعة على المستويات الذرائعية تعتمد على أشياء علمية فهي رواية من أدب وثائقي يثبّت الوقائع حيث تُعتبر الرسالة المكتوبة نصًّا, أي وثيقة لا يمكن التغيير فيها

لهذا خرج كريم إلى الأحراج المحيطة بإشبيلة زمنا، ثم شارك في ثورة الأندلسيين بعد عام من قرار فيليب بإغلاق الحمامات، كان قائدا شجاعا وقتل خلال معركة في جبل البشرات قريبا من غرناطة ص41

أن المحتوى العام الذي كُتبت فيه الرواية هو البؤرة ( التاريخية) التي تحملها تلك الرسائل, واستطاع فيها الكاتب أن ينقلها ببراعة من بؤر إلى أحداث مرتبطة بخيوط سردية تجنح نحو خيمة الروي بتشويق مرهون بوجود تكنيك. استخدم جابر أدب الرسائل, وهو أدب شحيح في أدبنا الحالي,  وقد يعتقد الكثيرون أن أدب الرسائل هو أدب رومانسي في التجنيس الأدبي, لكنه ذرائعيًّا يُعتبر أدب وثائق أيضا،

ومن لحظة الإهداء الأول إلى الإهداء الأخير،  يحيل إلينا أن العمل سيرة تاريخية تخييل تاريخي  كتبها كاتب مجهول عن أحداث جرت في القرون الوسطى وصرّح فيها الراوي لذلك نحيل السرد بكل الرسائل والوثائق والمذكرات إلى ذمّة الراوي، حيث راع الراوي نشر الرسائل المنظور مع الخصائص العامة للرسالة, و ذكر المرسل والمرسَل إليه، على المستوى اللساني فالألفاظ المستخدمة هي ألفاظ سهلة مألوفة, صاغها في تراكيب وجمل تراوحت بين القصيرة والمتوسطة, في سياق النظم والنحو والقص أو الحكاية وهي العنصر الأكثر بروزًا في هذا العمل, ولا نستغرب ذلك, فموضوع العمل قائم عليها منذ الاستهلال فكان مقدمة زمانية إلى النهاية, استخدمه الكاتب في بناء الحدث بالطريقة التقليدية، حيث تدرّج من المقدمة حتى العقدة ثم النهاية وكان الخيال يستلزمه للوصف, متتبع التطور السببي المنطقي. أما سردية الحدث أي طريقة سرد الأحداث, فقد استخدم الكاتب طريقة السرد المباشر حيث قدّم الأحداث في صيغة ضمير الغائب ( المرسل), كما استخدم طريقة الرسائل كوثيقة عند معالجته لموضوع الرواية.

أما الصور الأدبية فقد زخر بها العمل لأغراض الفهم والتوضيح من خلال بلاغة التعبير وبلاغة الإقناع والتأثير ضمن عمل علَمي البديع والبيان، أما الموسيقى الشعرية تخلّلت بعض فقرات الرسائل, فالمرسل عارف وبليغ, فكانت الصياغة الأدبية لا تخطئها لا العين ولا الأذن, وبالعودة إلى تعريف أدب الرسالة سنجد أن أهم ما يميزه هو الموهبة الأدبية والأسلوب القوي المتمرس على دراية تامة بالأجناس الأدبية. وما نريد أن نؤكده في النهاية أن وجود رواية الرسالة في الأدب الروائي يدل دلالة واضحة على أنّ الرواية فن يستوعب فنونًا كثيرة دون أن تُطمس معالمه، أو تتحطم بنيته، وتظل متفردة متربعة على عرشها، تضم تحت جناحيها ما شاءت من الفنون والخطابات.