أضيف بواسـطة addustor

القرية التي أعيش فيها بعيدة عن ضجيج المدينة، وزحامها.. البلدة الجميلة التي ولِدتُ فيها قريبة من الجبل.. البيت الصغير الذي أسكن فيه، والذي بنيته خلال عقد ونيف من الزمن ملاصق للمزرعة التي زرعت فيها عشرات الأشجار من الزيتون، وتتوسطها شجرة توت ضخمة أجلس تحتها في أوقات فراغي القليلة للتأمل أو القراءة.

قبل جائحة (كورونا) كنت أداوم في مدرستين: الأولى صباحية تبدأ في الساعة الثامنة وتنتهي في الثانية عشرة ظهراً، والثانية مسائية تبدأ في الواحدة وتنتهي في الخامسة مساء، اعطي المحاضرات، واحضر دروس اليوم التالي، واسئلة الامتحان والدرجات، وتستمر هذه الدوامة من العمل الى يوم الجمعة نهار عطلتي الوحيد.. وبعد أن هاجم فيروس كوفيد19 الكرة الأرضية، توقفت كل الوظائف، والأشغال وأصبحت عاطلاً طيلة أيام الأسبوع اضافة الى استراحة الجمعة.!!

اجراءات حظر التجوال لم تكن تزعجنا كما هو حال سكان المدن، لأن قريتنا معزولة أصلاً، وكانت هناك سيطرات تمنع الغرباء من الدخول الى القرية، أو الخروج منها الا للضرورات القصوى والحالات الطارئة. كانت الأسواق والصيدليات مفتوحة طوال النهار، واغلقت جميع المقاهي والكفتريات والبارات والمطاعم بأمر من الصحة والشرطة المحلية.. فقامت اغلب العوائل بخزن مؤونة تكفيهم شهراً او ربما أكثر للاحتياط...

ورغم حبي الشديد للجلوس في البيت والقراءة في الأيام الاعتيادية، الا أن الربيع والعطلة الدائمة كانا يغرياني بالخروج من البيت.. فنتفق انا وأصدقائي على موعد ونلتقي في بداية الوادي المؤدي الى الجبل (القولتيني) ونتسلق الجبل، وبعد مسيرة ما يقارب الساعة نصل الى (عين مشكو) نبع ماء صافي، استغله الشباب لزراعة الأشجار، وقاموا بتسييج محيط النبع لمنع قطعان الأغنام من الاقتراب. فتحول المكان الى مصيف صغير مظلل طوال النهار، وفيه كل ما يلزم من بسطات للجلوس وأقداح لشرب الشاي وأواني بسيطة لإعداد الفطور ومشبكات واسياخ لشوي اللحم. كنا نتناول فطورنا هناك أحياناً، ولا نعود الى ما بعد الظهيرة.

لم تكن أيامنا موبوءة بل كانت نقية، لا تشوبها شائبة.. كنت أخرج مع اصدقائي للجبل ونخصص يوماً لقطف نبات (الكبخ) وهو نبات شوكي يوضع في الماء مع الملح لمدة شهر ويؤكل كمخلل طعمه خرافي.. أو نختار يوماً لقلع نبات (الكعوب) او كما يسميه أبناء المنطقة (الحقشف)، يحمل كل منا أداة القلع (الهويسا) ولا نعود الى وقت الغروب، محملين بأكياس الكعوب الذي يسلق ثم يقلي مع البيض، او يحمض باللبن وهو من الأكلات الربيعية الشهية جداً.

استمرت أيامنا رائقة الى أن أصيب صحفي في مدينة الموصل القريبة منا, فانتشر الذعر في القرية، وفرض حظر كامل للتجوال، واصبحت لا اخرج من البيت الا للتسوق والعودة سريعاً الى المنزل، وما يصاحب ذلك من غسل وتعقيم مبالغ فيه.

لم أكن أتصور يوماً بأن هذا الفيروس اللعين سيحلق من الصين ليصل الى قريتنا ويصيب أحد ابناءها.. لقد كان الخبر صادماً : سُجِلت اصابة في بلدتنا! اعلن ذلك في اعلام المركز الصحي واكدت الإصابة، وشدد الخبر على ضرورة البقاء في البيت وحجر الملامسين للشخص المصاب.. لقد صارت يومياتي موبوءة، ولم أخرج من البيت لأيام... كنت أقرأ طوال اليوم، وبدأت بتنضيد بعض المسودات القديمة وترتيبها وتهيئتها للنشر في كتاب، وأكملت فصلين من رواية كانت تشغل بالي لسنوات ولم أملك الوقت حينها لكتابتها، كنت أستمع الى الموسيقى واتأمل كيف تغيرت الحياة على وجه الكرة الأرضية! كيف استطاع فيروس لا يرى بالعين المجردة من تحطيم غرور الإنسان وتمريغ أطماعه وجبروته بالوحل؟! 

لقد كانت صدفة غريبة أن أتابع فيلم (الحفرة) وأنا محاصر بجدران البيت في تلك الفترة..! هذه الحفرة التي قسمت الناس الى طوابق كلما ارتفعت زادت الرفاهية وتحسنت نوعية الطعام، وكلما انخفضت قل الطعام الى ان تصل لمستويات دنيا يقتل الانسان اخيه الانسان من أجل الحصول على لقمة.. كانت فكرة الفيلم على الرغم من قذارتها وتقززي منها رائعة.. ولو اكتفى كل انسان في الطبقات العليا بما يكفيه لما اضطر من في الأسفل للتقاتل من أجل الطعام الذي يكفي جميع الطوابق كما خطط لذلك مصمم الحفرة.!!

بعد شفاء الحالة المصابة، عدنا الى حياتنا الطبيعية اخرج كل يوم مع الأصدقاء، وبعد السماح للكافتريات بفتح أبوابها للزبائن، كنا نجلس حول (الناركيلة) ندخن بشراهة ونضحك من وباء (كورونا) اللعين، حتى أن أحد الموجودين شرب قنينة بيرة تحمل أسم (كورونا) في تحدي ساخر ومفارقة فريدة نوعها.!!

أنا الآن على يقين ومقتنع تماما بعبارة دوستويفسكي التي قالها في روايته (ذكريات من منزل الأموات): " أن الانسان حيوان طويل العمر! ويمكن أن نعرفه بقولنا: الانسان كائن قادر على أن يتعود كل شيء" ...

المشـاهدات 1362   تاريخ الإضافـة 20/04/2021 - 22:27   آخـر تحديـث 29/03/2024 - 00:37   رقم المحتوى 10924
جميـع الحقوق محفوظـة
© www.Addustor.com 2016