الجمعة 2024/4/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 35.95 مئويـة
يا غابات حناء ... البصرة ومرتع الطفولة
يا غابات حناء ... البصرة ومرتع الطفولة
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. حيدر عبدالامير الغريباوي
النـص :

يلوح في ذاكرتي حينما يعدو سيل من صور الماضي البعيد في دروب الحياة الطويلة ..‏حنيناً من رؤى  يحتضنها شجن متأصل في ارض العمر المجدبة انها اطياف البصرة الجميلة الضاربة في أعماق ‏وجداني..‏ ‏ البصرة وغابات حناء الوجد والشوق الأصيل بصرة الهوى والتياعها الطويل بصرة الفراهيدي والسيبة التي انجبت ايقونة الشعر الحر لتلقيه في مهد الوجدان العربي ‏ حيث عيون وفيقة تطل من احداق السياب وهو يتلوى فوق فراش الاسى في اخريات عمره القصير ..‏ البصرة يا غابات حناء يا اغصان نبات يشبه الرمان بأوراقها الحمراء القانية وزهراً كالعناقيد ابيض .‏ في مساءات لم تزل نسائهما العاطرة تجول كالسحر فيما تبقى من احلام اعمارنا السائرة نحو الاندثار الأخير .‏ بصرتنا الفيحاء اسفر عن سماءك الماطرة واروي عطشي فآفاق البيد اتعبني مسراها اللامنتهي ‏ وتدور الحكاوي من منبع الحب في منطقة الاصمعي ومدرسة القحطانية ومديرها الصارم الرقيق استاذ حاتم ‏الذي اعتاد ارتداء الزيتوني خلة بحزب حاكم ام انها رهبة صوت ازيز الرصاص في في اذهان أو اعتقاد ناس ‏من ذلك الزمن المضطرم احداثاً ..‏ كان حاجب المدير يدعو الامهات والاباء الى الاجتماع حيث تدور في اجواءه أقاصيص الجد والهزل كل يصغي ‏متخذاً من ذلك المجلس مذياعاً يسرد معاناة الأمهات واحلامهن المجهضة في مستقبل ابناءهن المعتم غموضاً ‏بما يشاهدن من بؤس أرتال الشهداء الممتدة من قلب المملحة في الفاو وحتى المرسى الأخير في ارض الغري ‏عند مقبرة السلام  حيث تمتلئ الرموس ببقايا شباب دون انتباه او وازع من ضمير في صميم جلاد تحكم في ‏ذرات وجود ذلك الزمن . ‏ لغابات الحناء في البصرة ثلاثة ميزات لم يشاركها فيها احد من حيث النخيل الذي رسم احداق الحبيبة في أعين ‏ناظريها والشاء التي اصطفوا منها العبدية المنسوبة إلى عبد القيس ..، والحمائم العاشقات التي انحدرت من ‏أقاصي بلاد الروم ومن مصر قاصدات غابات حناء في البصرة الدافئة وجداً ..‏ ولم يكن في تلك المحطات من عمري ما افتتح به عهداً من تدوين ذكرياتي فلم أكن زاهيت إذ ذاك السابعة وقد قدر َّ لي فيما مر بي من أيام حياتي أن رأيت بعيني امي بعد هزيع الليل تبكي وتضرع لله ان يمن عليها ‏بالستر ولقمة تتذوقها هي وابناءها بالحلال وان ينعم الله عليهم بما يشاء من خلقه انعاماً..‏ كان في زقاق طفولتي ثلة من الأصدقاء تجمعنا سلامة القلب وصفاء سريرته " ابراهيم درويش وضياء السيد ‏وحذيفة وفارس وصديقات منهن دجلة واريج التي كانت حينما تسدل اقبية المساء وتنقطع الكهرباء تهزج ‏اهازيج تعقبها كركرات ضاحكة من كبار وصغارا  للأسف سرعان ما فرق الدهر بيننا .‏ وانا اليوم ابكيها حسرات من شدة حنيني لبراءة تلكم الأيام .‏ اصدقائي الذين تجمعني بهم ذكريات اللّعب، وأجمل تلك الألعاب لعبة كرة القدم في الساحات البعيدة عن ديارنا ‏مع فرق منافسة تنتهي اغلب تلك المباريات بسيل من الحسرات على الفرص الضائعة التي لا زالت تحشرج ‏بداخلي حتى الآن ، فضلاً عن لعبنا المعتاد صيفاً بالطائرات الورقية.‏ طفولتي مع أخوتي كانت اقرب للبيئة الثقافية، حيث كان والدتنا تشجعنا على القراءة كثيراً، فسعى كل منا الى ‏اقتناء مكتبة صغيرة وسط غرفة المعيشة، لتطوير مهاراتنا الثقافية الكتابية، والتعبير اللغوي، بينما كانت أمي ‏تحببنا وترغبنا في العلم وماً، وتوجد أساليب جديدة ومحفزة للدراسة، وترشدنا إلى طرق مشوقة لحفظ المناهج ‏فقد كنا ثلاثة اخوة الاصغر منا كان الاقرب لقلبها اخي احمد الوديع، وكانت امنا تحثنا باستمرار على الترفيه ‏عبر صناعة كتاب ملصقات نقوم بجمعها وقصها من المجلات .‏ فضلاً عن مشاهدة افلاك الكارتون التي تمثل اجمل اللحظات امتاعاً حيث كنا نتحلق ما السوار بالمعصم أمام ‏الشاشة الصغيرة لمتابعة رحلات سندباد او مغامرات الفضاء وحكايات سنان.‏ انه الربيع الوردي وسط غابات الحناء في بصرتنا الحبيبة...‏ ما اسمج ملامح حياتي من بعد تلك الأيام وما اقبح ما لقيت بعدها فقد كانت شمسها تضيء لي كل شيء ، أما ‏اليوم فلا ترى عيني من بعد فردوسي المفقود أكثر مما ترى في ظلمات الحاضر الشقي فقد افتلذت غابات ‏الحناء في بصرتي الجميلة من كبدي فلذة حتى استحال مزقاً مبعثرة.‏ وعند المساء تنتقل بنا الاماني الى اسطح منازلنا حيث القمر المنير يطل من عليائه متألقاً بالجمال وطالما كنت ‏أناجيه ويناجيني حتى فرق الدهر بيني وبينه وبفراقه فارقني مؤنسي.‏ وعشت دهراً بعيداً عن مرتع صباي وذقت من آلام الحياة وشقاء العيش ما لا يستطيع أن يطيقه بشر، لم أر ‏بجانبي يوما بعد غياب بصرتي من الأيام عينًا تدمع، ولا قلبًا يخفق فأصبحت لا أشعر بما كنت أشعر به من قبل؛ ‏لأن الحب الحقيقي قبر للابد في ارض حنيني واشتياقي الذي لم يترك فيه مجالاً لشئ سوى البصرة.‏ ربما حينما رأيت مدامع امي تنحدر عن خديها كالؤلؤ المكنون لم اكن ادرك انها دموع الفراق لأنني كنت لا ‏أصدق ان هناك قوة في العالم تستطيع ان تحول بيني وبين عالمي وسط غابات حناء فالعهد بيننا ان نعيش بلا ‏فراق لكن تحققت نبؤات ادمع امي رحمها الله وعاد الحنين الى ادراجه وذهب كل منا لسبيله.‎ وهكذا يبدو انني سأعيش مع مرتع طفولتي كخطين متوازيين يعجزان عن الفراق وعن التواصل ولن يلتقيا الا ‏اذا انكسر أحدهما.‎ وأكاد اجزم يا غابات حناء أن هذا العمر كله لا يتسع لأبوح كم أحبك إنه لا يتسع للبوح اكثر انها عذاباتي التي ‏عشتها بعد الفراق والاضطرار للعيش في عالم اجمل ما فيه نكهة تلك الذكريات التي خلت.‏ واختتم سطوري‎ ‎، بالقول‎ ‎ببضع كلمات لفيودور دوستويفسكي إن الذكريات مؤلمة ، سواءاً كانت جميلة ام ‏محزنة. - ‏

المشـاهدات 552   تاريخ الإضافـة 24/04/2021   رقم المحتوى 11017
أضف تقييـم