النـص : عُرّفت الحضارة من زاوية علم الاجتماع، بعدة تعريفات لا تخلو من مناقشة و نقد، يخرج تناولهما عن إطار هذه المقالة، و لكن الذي أراه بعد تأمل و بحث، أن الحضارة عبارة عن مظاهر النشاط التقدمي للبشر . و تشمل المظاهر، جميع المنجزات الفكرية و العلمية و التقنية و العمرانية و الفنية الخ..و يشمل النشاط، جميع أنماط النشاط العقلي و العملي. و يتناول التقدمي، كل تطور يجعل الإنسان في حالة أرقى من سابقتها، دون تقيد بالجذر الاشتقاقي لكلمة حضارة، فالنشاط التقدمي الذي يحقق في مجتمع البادية حالة أرقى من سابقتها، يعتبر نشاطا حضاريا، و يمكن وصف مظاهره بالحضارة. لقد خلط بعض علماء الاجتماع بين الحضارة و الثقافة، فتورطوا علميا في إشكالية تداخل المعنيين، و إشكالية وصف ثقافات متخلفة بالحضارة، و الصحيح تمايز المعنيين، فليس كل ثقافة حضارة، و إن كانت كل حضارة ثقافة، و بهذه الرؤية التي نقدمها، يتضح أيضا أن الحضارة ليست صفة مطلقة، و إنما هي صفة نسبية ترتبط بالزمان و المكان، فكثير من الحضارات القديمة مثلا، إنما توصف بالحضارة في زمانها و مكانها، و لا يمكن اعتبارها حضارة بمعايير زماننا بعد التطورات الهائلة التي شهدتها البشرية في مسيرتها التاريخية، بل يكون الرجوع الى تلك المظاهر التي كانت في وقتها مظاهر لنشاط تقدمي، تخلفا و انتكاسة، بينما تبقى الثقافات متصفة بوصف الثقافة مهما تفاوتت مستوياتها دون تأطيرها بزمان و مكان.يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي، و هو من أعمدة التنظير الفكري للمشروع النهضوي العربي و الإسلامي في العصر الحديث، أن الحضارة مزيج من ثلاثة عناصر : الإنسان + التراب + الوقت . و يرى أن كل حضارة بشرية، لا تتحقق إلا إذا حصل هذا الامتزاج، الذي لا بد له من مركّب حضاري يعمل على إيجاده. و يرى مالك بن نبي، أن الدين بتعاليمه، هو ذلك المركّب الحضاري. و قد شرح نظريته هذه، في كتابه (شروط النهضة) .إنني أختلف مع هذه النظرية، سواء ما يتصل منها بعناصر الحضارة أو بطبيعة المركّب الحضاري، و أرى أن العناصر الأساسية في الحضارة، هي الإنسان، و هو العامل الأول و الرئيس بوصفه يمتلك القوة العاقلة و الطاقة البدنية و النفسية، و الفكرة و هي العامل الثاني، فصنع الحضارة كالهندسة لأي بناء، بحاجة الى خريطة معمارية، و الفكرة هي الخريطة المعمارية في بناء الحضارة، و بعبارة أخرى الفكرة هي النظرية الحضارية التي يشاد بهديها الصرح الحضاري، و العنصر الثالث، هو المادة، أي مادة النشاط الحضاري و التي عبّر عنها مالك بن نبي بالتراب، و لكنه ليس تعبيرا دقيقا، فالمنجزات الفكرية و كثير من المنجزات العلمية للحضارة، التي هي تعبير عن الحضارة نفسها، تكون الأفكار في كثير من الأحايين مادة لها، فلا يصح حصر مادة النشاط الحضاري بالمعنى الفيزيائي.و أما الوقت، فليس عنصرا في الحضارة نفسها، و إنما هو بالدقة، الظرف الذي يحتضن عملية البناء الحضاري.إن امتزاج هذه العناصر، بحاجة الى مركّب، و لكن ليس بالضرورة أن يكون الدين حصرا، هو المركّب الحضاري، لا سيما و أن طبيعة الأديان مختلفة، و المضامين الدينية للأديان مختلفة أيضا، و ليس كل مضمون ديني، صالح ليلعب دور المركّب الحضاري، دون أن ننفي وجود هذا الدور في كثير من الحضارات، و الذي قد لا يكون عبر المضمون الديني نفسه، لأن هذا المضمون، قد لا يكون مضمونا منطقيا و حضاريا، بل قد نجد في دراستنا التاريخية للحضارات، أن الدين شكّل عاملا مضادا لوجود الحضارة أو لبقائها، و أن الانسلاخ من منظومة دينية ما، كان سببا في انطلاقة حضارية ناجحة.لقد أصرّ مالك بن نبي، على أن تعاليم المسيحية، كانت هي السبب في قيام الحضارة الأوروبية الحديثة، إذ لعبت - حسب رأيه - دور المركّب الحضاري لعناصرها. و قد ألجأه الى ذلك الخطأ، رأيه في حصر المركّب الحضاري بالدين، مع أن انطلاقة الحضارة الأوروبية بدأت من الاتجاه العقلاني الذي أطلق العنان للعقل، و كان ذلك من أهم دوافع حركة الإصلاح الديني الذي كان في وقتها ثورة على الكهنوتية الدينية، و بقي الاتجاه العقلي و العلمي يقود عملية بناء الحضارة الحديثة الى يومنا هذا، الأمر الذي يبرهن على أن امتزاج العناصر الأساسية في بناء الحضارات، لا يتوقف على تعاليم الدين كدين، ليكون المركّب الحضاري الذي يحقق هذا الامتزاج.إن امتزاج العناصر الأساسية للحضارة، يحتاج الى قوة دفع و إلهام، تُطلِق النشاط الإنساني التقدمي باتجاه صنع حضارة، و هناك الكثير من العوامل و الأسباب الدينية و غير الدينية، ما قد يشكّل قوة الدفع و الإلهام.و من الغريب أن يأخذ الشططُ مالكَ بن نبي، الى درجة أن يفسّر كل ظاهرة أوروبية، على أنها ظاهرة مسيحية، على حد تعبيره في كتابه ميلاد مجتمع، و يبني ذلك على تصور طوباوي غير دقيق، سيجرّنا الى القول بأن الماركسية التي أقامت رؤيتها للكون و الوجود على أساس المادية الديالكتيكية، ليست سوى تجسيد للفكرة المسيحية، و هذه مغالطة مجانبة للعلم و الواقع.
|