أضيف بواسـطة addustor

 

الأم .. ما أحلاها كلمة تترنم بها الشفاه , وتتعطر بها الأفواه , هي سر الوجود ولحن الخلود , واهبة الحياة والحنان , رمز الصفاء والنقاء , تلك هي (سيدة الضيم) والإباء التي آثر الدكتور عبد الحسين الدرويش ان يهدي اليها مجموعته القصصية التي حملت اسمها وصورتها التي تصدرت الغلاف بوجهها الطفولي البريء .. الناطق بكل معاني الخير والأمل ويديها الناحلتين الكريمتين اللّتين تهب من اردانهما ريح البركة والايمان , والعطاء الدائم مع ديمومة الحياة والأحياء فلنصغ الى نغمة الدرويش مناجياً هذا الكيان المقدس : (الى أمي سيدة الضيم) التي ينحني لها التاريخ انتِ حظي الجميل , انتِ شمس الأصيل التي تمنحني دفئها اللامتناهي , وأنتِ نبضي الذي يُبقي قلبي على قيد الحياة .. انتِ في كل كلمة جميلة وفي كل اغنيات حب الام .. وهو في كل ذلك انما يتوق الى الجنة .. أليس الجنة تحت اقدام الامهات؟ .

هكذا خاطب الدرويش امه (سيدة الضيم) وهو يهدي اليها كلماته الجميلة التي تعلّمها منها . فكأنه يرد لها الجميل قائلاً : هذه كلماتي .. بل هي كلماتك يا أمّاه قد اثمرت وأينعت وحان قطافها.

نعم ان اديبنا الدرويش شديد التعلق بهذه المفردة الحلوة – الأم – لكن هذا التعلق ليس من قبيل ذلك الشعور السلبي المحدود الذي يجنح بصاحبه الى الضعف والمسكنة .. بل هو شيء من قوة الانتماء الى جذوره  المتينة الضاربة في اعماق الأرض وترابها المقدس .. لا يكاد يملّ التأمل والتحديق فيه .. لكنه ما ان يرفع رأسه من فوق الارض حتى تدرك انه من شجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء , هذا الشعور لديه نابع من مفهوم (القداسة ) في اسمى معانيها.

فمفهوم (القداسة ) في فكر  الدرويش مفهوم اصيل لا يكاد ينفصل عن صاحبه بحال من الاحوال , ويكاد هذا المفهوم ينسحب على معظم قصص المجموعة التي بلغت ثلاثين قصة تتفاوت في الطول والقصر .. وتتقارب في المفهوم والهدف.

فنظرة واحدة سريعة الى عنوانات هذه القصص تنبئك بصدق ما نقول: (سيد الماء – حمام الحضرة – المعجزة – عندما زارني ابو تراب – رسالة من طبيب مشهد – عندما اصبح كتفه منبراً) .

وهذا المفهوم هو الذي جعله يمضي قدماً مستوحياً كرامات الأولياء والصالحين ومعجزاتهم ليقدمها لنا فناً قصصياً بأسلوبه السهل المبين.

في قصة (المعجزة) نقرأ عن محامية اصيبت بداء العياء حتى عجز عن شفائها الأطباء .. ثم شفيت ببركة ثواب الأمام الحسين (عليه السلام) وفي قصة (ضامن الغزالة) نرى كرامة أخرى للإمام الرضا (عليه السلام) يشفي بها يد الرسام الذي أراد رسم لوحة للإمام.

وتتوالى الكرامات والمعجزات في قصص الدكتور عبد الحسين الدرويش فنرى الشيخ الصالح (ابو هدمة) يركب كتلة ترابية انفصلت عن جرف النهر لتحمله – كالزورق – الى الجهة الأخرى حيث ينتظره ضيفه في بيته ((في تلك اللحظة أحس الشيخ بأن الجزيرة الصغيرة انفصلت عن الشاطئ وتحركت بهدوء نحو الجهة الأخرى من النهر , واصبحت الكتلة الترابية كزورق ترابي يشق موجات النهر شقاً نحو الضفة الأخرى بانسيابية عالية, وما هي إلّا لحظات حتى وصل زورقه الترابي الى الجهة  المقابلة))./ الزورق الترابي ص103-104.

أما (زائر المساء) فهو ذلك الرجل المبارك (سيد نور) الذي جاء يقتبس جذوة من النار من جيرانه فحمل النار في حجره دون ان يحترق ثوبه الناصع البياض)/ص106.

وكأن القاص لم يقنع ولم يكتف بما قام به ابطال قصصه من كرامات ومعجزات .. فلم يتورع عن ان يغمس قلبه في مداد الغيبيات ,وهنا تتأهب بكليتك لاستقبال العجب وأنت ترى الدرويش يستنزل البركات السماوية ويستمطر فضل القوانين السرمدية التي لا يبلغها إلّا من آتاه الله رحمة من عنده وعلّمه من لدنه علماً فأصبح – بطل القصة – تحت وطأة الايمان العميق الذي يجترح العجائب , وتحت تأثير المدد الإلهي الذي يزلزل الجبال او تقطع به  الارض .. أو .. يكلّم به الموتى.

كان قد مضى على وفاة الميت سبعمائة سنة .. وكان من المعجزات الالهية للعبد الصالح إخراج الموتى المقبورين بإفاضة الحياة عليهم من جديد (بإذن الله) وإخراجهم من قبورهم الى الحياة الدنيوية بعد ان صاروا رميماً.

قام العبد الصالح فصلّى ركعتين ثم جلس عند القبر فنادى : يا فلان قم بإذن الله , ثم نادى الثانية فانصدع  القبر , ثم نادى الثالثة فخرج من القبر رجل وهو ينفض التراب عن رأسه وجسده) قلادة الزمن ص78-79.

أما قصة (سيدة الضيم) - عنوان المجموعة – فهي أهم وأطول قصة في هذا الكتاب .. تقرأها فتشعر أنه أفرغ فيها فنه القصصي كله.

اذ يأخذ بيدك رويداً رويداً ليصل بك الى هدفه البعيد حتى يخيل اليك أنك بإزاء مؤرخ قدير او عالم آثار خبير يحدثك عن بقاع مباركة وطئتها أقدام الأنبياء والأولياء منذ عهد أبينا آدم مروراً بأحداث الطوفان وتنساق معه وهو يغوص بك في اعماق التاريخ وما قبل التاريخ عن عهود سحيقة عفا عليها الزمن فأصبحت أثراً بعد عين.

((ونغوص في اعماق التاريخ الجليدي في نفس المكان أنشأ ابونا آدم قرية تدعى باسمه , وعندما مات دفن بين الربوات البيض التي تنخفض تدريجياً عند مدفن هود وصالح)) , ويسوق لك حديثاً عن بحر النجف فتجد نفسك تقرأ درساً من دروس التاريخ والجغرافية على السواء: ((وعلى الرغم من مرور أكثر من قرن على جفاف بحر النجف , إلا ان هذا المنخفض الطبيعي الناشئ بعوامل التعرية وزحف القارات , والبالغة مساحته اكثر من الف وثمانمائة ميل مربع .. كانت تغمره المياه لقرون عديدة منذ زمن الطوفان , حيث كان مرسى لسفينة نوح التي صنعها وطاف بها في المياه المنتهية الى بحر النجف)) سيدة الضيم /ص32 – 33.

تراه يغادر عالم القداسة – مؤقتاً – الى عالم آخر مضاد له تماماً فيعرض علينا نماذج بشرية تعبث بالقداسة وتنتهك الحرمات , متمثلة بأولئك السحرة والمشعوذين والدجالين وهم يعبثون بقدسية الاموات ويقومون بأعمال شيطانية تنفر منها الطباع السليمة وتشمئز منها النفوس الكريمة.

واذا صحت النظرية القائلة : ان كل قبيح في الطبيعة يصبح جميلاً في الفن – والكتابة فن – فإننا نجد بعض مصاديقها في كتابات  الدرويش وقصصه .. فما أهول تلك المناظر التي وصفها عن القبور وانتهاك حرمة القبور .. لكنه تناولها بريشة الفنان القدير فجاءت لوحة من لوحات الفن الجميل.

فموضوع  الكتابة قد يكون مهماً .. وقد لا يكون ذا قيمة في حد ذاته .. وقد يكون جميلاً رائقاً عندما يكتب الكاتب عن الحب والجمال والمشاعر الانسانية النبيلة .. وقد يكون الموضوع كريهاً او ثقيلاً كالموت والعذاب والحب والجريمة والمآسي الانسانية.

ولكن .. في كل الاحوال فإن جمالية الفن والاسلوب هي التي تهبه الحياة والحركة .. وتبرز قيمته الحقة .. وتلونه بألوانها الزاهية وتعطيه اجنحة يحلق بها في سماء الإبداع.

ثمة جانب آخر او ناحية اخرى من جوانب الحياة برع الكاتب في ابرازها وتصويرها في قصصه تلك هي الحالة الاجتماعية التي عاشها مجتمعنا العراقي وعلى الاخص معاناة الطبقة الفقيرة التي نشأ فيها الكاتب وترعرع في احضانها فجاء حديثه عن الفقر والحاجة وشظف العيش حديث  الخبير الذي يلم بكل تفاصيلها ودقائقها .. ومن امثلة ذلك قصته (خوذة) التي تحدث فيها عن قسوة العيش في ظل الحروب المدمرة التي عاشها المجتمع وذاق ويلاتها سنين عدداً .. كذلك الأمر في قصة (حمام الحضرة) وفي قصة (كعكة الوداع) , اما في قصة (العشاء الاخير) فتبلغ قمة المأساة والمعاناة خصوصاً عند وصولك الى نهايتها فأنك تشعر بالأسى والغثيان عندما يتبين لك ان ذلك العشاء لم يكن من (لحم) الكبش , وانما كان من (بعر الكبش) .

((وما ان غمست كسرة الخبز اليابس في مرق تبسي باذنجان , محاولاً تفادي تشابك الاصابع التي بلغت مئة وعشرة اصابع بالتمام والكمال وعملت منها لقمة دفعتها في حلقي اليابس .. حتى احسست بين اسناني شيئاً غريباً , طعماً مجهول الهوية , لا هو باذنجان , لا هو لحم او بصل .. فأدلفت اللقمة من فمي محاولاً ان لا ابقي شيئاً في جوفي وفمي حتى نهضت من مكاني مسرعاً وتقيأت مرارة كالعلقم .. الخ)) .

وقصص  الدرويش هنا ما هي إلا صيحات احتجاج ضد احوال اجتماعية بائسة أفرزتها الحروب والظلم والطغيان.

وهو عندما يحس بمرارة الواقع الأليم يحاول ان يلجأ الى الترويح عن نفسه بحكايات لطيفة استوحاها من بطون الكتب ومن التاريخ والامثال الساخرة ففي قصة (لحن الخلود) يحكي لنا حكاية (اسحاق الموصلي) مع ذلك الشيخ الكبير الذي جالسه وعلمّه أعذب الألحان التي عرف بها الموصلي فيما بعد.

وأخيراً .. يكشف له ضيفه الشيخ المغني عن شخصيته الحقيقية وأنه لم يكن إلّا .. ابليس اللعين.

اما قصة (رقصة الموت) فهي حكاية تاريخية مستوحاة من الغزو المغولي لبغداد بقيادة (هولاكو) الذي قتل جارية (المستعصم) التي كانت ترقص بين يديه ثم قتل المستعصم نفسه شر قتلة.

وقصة (المنازلة الحاسمة) ما هي إلا حكاية بسيطة فحواها ان الانسان هو سيد المخلوقات اذ يتغلب – بعقله وذكائه – على الأسد ملك الغابة حتى جعله يئن ويتوجع من شدة الضرب وهو يردد باللغة الدارجة : (يا گاع انشگّي وابلعيني) وتحت وطأة الواقع المرير يحاول القاص ان يهرب الى عالم  الخيال وهو يتعاطف مع رجل كهل في خريف العمر (عاودته الاحلام الوردية فغدا سابحاً في زورق من صنع احلام الشباب مستذكراً زهرة ايام لن تعود.

اما اقصوصة (عبد الشط) فهي حكاية حب ريفية ساذجة مغلّفة بإطار من المرح والفكاهة.

ان الحادثة البسيطة او التجربة الصغيرة او الفكرة المتواضعة .. كلٌ قد تجري على لسان الشخص العادي فلا تكاد تحس ازاءها بأدنى تأثير فتراها تمر مرور الكرام .. دون ان يعبأ بها أحد .. لكن صاحبنا القاص البارع تعود على ان يقتنص الحكاية او يسرقها – ان صح التعبير – من السنة القائلين والمتحدثين .. وسرعان ما يعمل فيها قلمه السيال .. فلا تلبث ان تستحيل الى عمل فني جميل .. قد يهزك ويجعلك تتفاعل معه تستمرئ الاسلوب .. تتأول العبرة .. وقد تجد فيه حافزاً ومنطلقاً لتحقيق جلائل الاعمال.

ان الكاتب عندما يكتب فإنما يعبر عن واقع الحياة .. لكنه عن طريق جمالية الفن يحاول ان يسمو بالحياة .. وان يجمل الحياة .. فالكتابة - بهذا المفهوم -  هي وسيلة نحو حياة أجمل وافضل.

وهذا ما فعله اديبنا الدرويش في قصصه التي عرضها امام انظارنا ليرينا الحياة على حقيقتها بأفراحها وأتراحها .. بدموعها وابتساماتها .. فقد اضحك وابكى .. لكنه بخياله الواسع اضفى عليها مسحة من جمال .. ولمسة من الذوق الرفيع .. فجاءت قصصه لوحات خالدات من لوحات الفن الأصيل.

 

المشـاهدات 302   تاريخ الإضافـة 28/03/2023 - 23:18   آخـر تحديـث 29/03/2024 - 13:26   رقم المحتوى 17702
جميـع الحقوق محفوظـة
© www.Addustor.com 2016