الجمعة 2024/4/26 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 20.95 مئويـة
على حافة الهاوية: تحذير من اجل التعليم العالي
على حافة الهاوية: تحذير من اجل التعليم العالي
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. حسن لطيف الزبيدي
النـص :

جامعة الكوفة

تتخذ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خطوات حثيثة لتسريع فتح الدراسات العليا في الجامعات الاهلية من دون اعتبار للمشكلات التي تأصلت في بنية التعليم الأهلي الذي أصبح مشكلة إضافية جسد النظام التعليمي، وحالة ينبغي مراجعتها والوقوف عند ما حققته من نتائج، وما أفرزته من سلبيات خلال المرحلة الماضية.ليس جديدا القول ان التعليم الأهلي يعاني من مشكلات حقيقة تطال جودة مخرجاته، وطبيعة عمليتي التعليم والتعلم، فضلا عن استشراء صور الفساد الأكاديمي في أغلب مؤسساته. ولعل أخطر ما افرزته سنوات النمو غير المتوازن وغير المحوكم في التعليم الاهلي هو تسليع عملية التعليم العالي، اذ تحولت الكليات والجامعات الاهلية الى "دكاكين" لمنح الشهادات في مختلف التخصصات، من دون اعتبار لمحتوى المقررات الدراسية، وأهدافها، واستراتيجياتها.لكن ما الذي يعنيه "تسليع التعليم" انه يعني ببساطة أن التعليم في الكليات والجامعات الاهلية أصبح سلعة محكومة بقواعد العرض والطلب والمنفعة والكلفة والعائد التي تنطبق على السلع الاعتيادية، والذي يعني ان رغبات المستهلكين- أي الطلبة- هي التي توجه قرارات المنتجين – أي الجامعات والكليات الاهلية- فأصبحت هذه الأخيرة تتسابق في تلبية رغبات الطلبة من حيث سهولة المقررات والتساهل في التغيب، والتقويم غير المبني على اعتبارات موضوعية في منح الدرجات، ولعل هناك شواهد كثيرة على ما وصلت اليه مستويات الطلبة في هذه الكليات والجامعات منها: * ارتفاع مفرط في متوسط درجات الطلبة الخريجين مقارنة مع اقرانهم في الكليات والجامعات الحكومية. * تدني التحصيل العلمي لدى خريجي الكليات الاهلية الامر الذي كشفته امتحانات الرصانة العلمية التي كانت تنفذها الوزارة ما قبل الجائحة. * هيمنة المستثمرين على مقدرات هذه المؤسسات وتحكمهم بمسارات العملية التعليمية على وفق منطق "السوق/ السلعة"، وبعيدا عن منطق العلم والتعلم. وبعيدا عما الت اليه الأمور في تلك المؤسسات الاهلية فانه من حقنا طرح جملة من الأسئلة منها: ما المبرر للتوجه نحو التوسع في الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)؟ وهل هناك حاجة تنموية موجبة لهذا التوسع؟ هل تمتلك هذه الجامعات الاهلية للنهوض بهذا العبء؟ وهل ينبغي على الجامعات الحكومية الانسحاب من هذا المجال وتركه للكليات الاهلية؟ هل تستطيع الوزارة ضبط جودة العملية التعليمية في مؤسسات التعليم الأهلي؟

 

مبررات التوسع

 

لم تقدم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مبررا واحدا لهذا الاجراء، ما خلا وجود تعطيل لبعض مواد قانون التعليم العالي الاهلي رقم (25) لسنة 2016، ولاسيما المادة 9 التي نصت على "للوزارة الموافقة على استحداث برامج الدراسات العليا في الجامعة او الكلية غير المرتبطة بجامعة او معهد وذلك بعد توافر المتطلبات المادية والعلمية والجودة للاختصاصات النادرة وحسب حاجة البلد". وهنا نجد أن الاستحداث مقيد بشروط: توافر المتطلبات المادية والعلمية، توافر الجودة، والاختصاصات النادرة، وحاجة البلد. وهي شروط حسنا فعل المشرع بوضعها لتقييد هذا الاستحداث.الا ان لدى الكليات والجامعات الاهلية مبررات أخرى لهذا الاستحداث، فهي ترى في هذه الدراسات فرصة لكسب المزيد من الأموال، لاسيما بعد نمو سوق الشهادات الى دول الجوار، ووقوفها متفرجة على صناعة الشهادات العليا، متحسرة، نادمة، لذا استخدما ما تملك من موارد للضغط على الوزارة لفتح هذا الباب الذي ظل مغلقا منذ عام 2016.

 

الحاجة التنموية للتوسع

 

يعاني نظام التعليم العالي في العراق من وجوده خارج النظام الاقتصادي، فهو لا يرتبط مع الأخير الا في حدود علاقات الاستهلاك البسيطة، فمؤسسات التعليم العالي الحكومية والأهلية، هي مشتر نهم للسلع من الأسواق المحلية، الا انها لا تبادل قطاع الاعمال بالبحوث والدراسات التي تمثل حلولا وابتكارات يمكن توظيفها في خدمة الاقتصاد الوطني، من جهة أخرى، فان سوق العمل لا يترابط مع التعليم العالي، اذ ان ضيق هذا السوق، وضعفه، وهيكله غير المنظم، تحد من فرص تطوير نظام تعليم عالي مستجيب لحاجات هذا السوق الحاضرة والمستقبلية، لذا فان التوسع في التخصصات أيا كانت ندرتها، لا يعني توفر فرص عمل لها، وليس جديدا الادعاء بان الصيادلة وأطباء الاسنان، وقريبا الأطباء، سيدخلون في صفوف العاطلين عن العمل، اذا ما توقفت الدولة عن تعيينهم مركزيا، وقد شهدنا في الآونة الأخيرة توزيعا لآلاف الخريجين بعيدا عن تخصصاتهم فقام مجلس الخدمة الاتحادي بحشرهم في مؤسسات الدولة ضامنا بأنهم سيقبلون بفرص التعيين التي طال انتظار بعضهم لها لسنوات. من جهة أخرى، فقد أدى قانون أسس تعادل الشهادات 20 لسنة 2020 الى فوضى عارمة في ارتقاء الموظفين نحو الشهادات العليا، وأوجد فوضى موازية في اليات الابتعاث والدراسة خارج العراق، فضلا عن الشبهات التي أثيرت بشأن جودة الشهادات الممنوحة لخريجي الجامعات الإيرانية واللبنانية.ان فتح الباب- وان بمواربة-  للدراسات العليا في الجامعات الاهلية يعني  مضاعفة لاعداد الخريجين من تلك المؤسسات، بما يفوق حاجة البلد، وقدرة الاقتصاد على استيعابهم، ولعلنا في هذا المقام نطالب بمراجعة اليات التعيين الأخيرة لحملة الشهادات العليا، لتقويم الحاجة والملائمة وتحديد الفجوات المحتملة في التخصصات النادرة.

 

أهلية الجامعات والكليات الاهلية

 

ليس جديدا الشك في جودة الجامعات والكليات الاهلية فصور عدم الكفاءة والمهنية هي حديث النخبة التي ادارت هذه المؤسسات، ولعلنا نستشهد بما أورده وزير التعليم الأسبق الدكتور حسين الشهرستاني في مذكراته الذي صدمه حال مؤسسات التعليم الأهلي فبادر الى تشكيل لجان تفتيشية لزيارة الكليات الاهلية بصورة مفاجئة اذ يقول "جاءتني تقارير مقلقة من فرق التفتيش أن بعض الصفوف لا يتجاوز عدد الحضور فيها عشرة بالمائة من الطلبة المسجلين الذين دفعوا الأجور الدراسية في الكلية، وكثير منهم لا يحضر الدروس ولا حتى الامتحانات". ولم تتخذ خطوات جدية في تحسين إدارة الجامعات والكليات الاهلية، وما يزال المستثمرون هم اللاعبون الأكثر قوة مع مجالس اداراتها، وتكاد تنعدم صور الرقابة المالية والإدارية على أنشطتها المختلفة. لذا فان استحداث مستويات جديدة للدراسات العليا، سيعني القفز على هذا الإرث الغامض من "الاهلية" و"غياب الحوكمة" وتفشي "الفساد الأكاديمي"، ونقله الى مستوى اعلى وأكثر خطورة.

 

انسحاب الجامعات الحكومية

 

سيفرض هذا الاستحداث ان تم منافسة غير متكافئة بين الجامعات الحكومية والأهلية؛ لاختلاف "الموضوع" وان كان المسمى واحدا وهو "الدراسات العليا"، لأنها ستعني ان الجامعات الحكومية ستستمر في تقديم هذه الخدمة بالطريقة التي اعتادت على تقديمها، فيما ستتجه الجامعات الاهلية الى "تسليع" الدراسات العليا، وستكون أكثر مقبولية ومناسبة من وجهة نظر المستهلكين المحتملين مقارنة مع الجامعات الحكومية.قد يقول قائل ان شرط الوزارة هو التوأمة مع واحدة من الجامعات الحكومية، ولذا تسابقت الجامعات الاهلية الى توقيع اتفاقيات مع الكليات الحكومية في التخصصات التي تنوي استحداث دراستي الماجستير والدكتوراه فيها، الا انني اجزم ان المنطق الذي سيسود هو منطق "السوق" الذي تتبناه الكليات الاهلية، ويتغلب على منطق العلم الذي ما تزال تتمسك الجامعات الحكومية ببعض اذياله.

 

الوزارة وضبط الجودة

 

لقد أوجد التعليم العالي علاقة غير متكافئة بين الوزارة والجامعات الاهلية، وسببها، ان الوزارة تحصل على "رسوم" عن كل طالب يقبل في الجامعات والكليات الاهلية، وكما يقال فان "المال هو جذر كل الشرور"، فكيف يمكن تصور هذه العلاقة التي لم توازنها توجهات الوزارة الأخيرة بشأن شمول الجامعات والكليات الاهلية بنظام القبول المركزي، اذ ما تزال يحتفظ التعليم الأهلي بـ"سطوة المال" في أروقة الوزارة، بسبب هذه العلاقة. وللمقارنة فان العلاقة في المملكة المتحدة بين الجامعات الاهلية التي تعد مؤسسات تعليمية مستقلة تتأثر بعدة عوامل وتتباين بحسب السياق والسياسات الحكومية المعمول بها. والاهم أن الجامعات الخاصة في المملكة المتحدة تتلقى مساهمات مالية من الحكومة في إطار التمويل العام للتعليم العالي. وتشجع الحكومة البحث العلمي والابتكار في الجامعات الخاصة وتوفر تمويلاً للمشاريع البحثية والتطويرية في إطار السياسات الحكومية لتعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي. فضلا عن انها تتعاون مع الجامعات الخاصة في مجالات مختلفة، مثل البحث، والتدريب، والتنمية الاقتصادية، وتوظيف الخريجين. لذا فقد نشأت علاقة صحية بين الطرفين، هي غائبة تماما بين الجامعات والكليات الاهلية من جهة، ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي من جهة أخرى.

 

خلاصة

 

وبناء على كل ما تقدم، فان الاتجاه الى استحداث الدراسات العليا في الجامعات الاهلية يبدو قرارا محفوفا بالمخاطر، وسيعني مزيدا من التأزيم لأوضاع نظام التعليم العالي والبحث العلمي، وتدفقا غير مبرر لألاف الخريجين بجودة منخفضة، وبروابط اقل بحاجة المؤسسات العامة والخاصة.

 

 

 

 

 

 

 

 

المشـاهدات 369   تاريخ الإضافـة 27/05/2023   رقم المحتوى 22115
أضف تقييـم