سفانه عذبي خضير

إن عملية تحريك الذهن ودفعه في مغامرة الابتكار والإبداع ستنتج تجربة متفردة ومتحفزة فكريا ومثيرة للأحاسيس وللأسئلة والاستفهامات حول الشعر وتجديده، وتطويره، بإعادة هيكلته التنظيمية، والمعرفية، والثقافية كتجربة فنية تعبيرية متجددة.

 يمثل هذا المعرض جهدا ذهنيا ابداعيا مهمته الاعتراف بالآخر في عملية يتخلص الشاعر والفنان فيها من هاجس الخوف المركب من الأنا والآخر، ليجتمعا في عمل فني مشترك متكامل فكريا، بعيدا عن الخوض، أو الانقياد الواعي لتوجه فكري، او لمذهب فني دون الآخر، حيث يجسد الرسام بذلك مدركا متخيلا استخلصه، في النص، فكانت هذه القراءة محركا للتحفيز الابتكاري والابداعي من خلال منهجية التواصل التاريخي والاجتماعي والفلسفي لمفهوم الإبداع والابتكار التكاملي، مع الاحتفاظ بثوابت الذائقة الجمالية الذاتية لخبرة الفنان وفي جميع الاشكال والأعمال الفنية والأدبية، وبذلك يكون الرسام قد أدى دورا فكريا فلسفيا ابداعيا خاصا به، يربط الذات بالموضوع.

ان تطور الفنون، نتاجٌ للتجارب التأملية المناهضة للأفكار التقليدية القديمة، وإيمانٌ من الفنان بقدرته على التصور كمخيلة وكتصويرٍ في عمل فني، وصياغةٌ أدبية فنية تعبيرية متجددة، وفلسفةٌ تجمع بين الحدس العقلي والمخيلة لترتقي بالإنسان المتمتع بهبة العقل، والقدرة على خلق الطاقة التعبيرية كنتاج للتعامل مع الطبيعة التي تأثر بها وأثر عليها في آن واحد.

ان ما قلناه يؤكد أهمية اقتران الأدب بالفنون والعكس ايضا، ليسهما في تقويم وتهذيب الذائقة الجمالية وتنمية الوعي الفكري للشاعر والفنان انطلاقا من الرؤية الجمالية للنص الشعري الذي (أعاد) الفنان رسمه بعناصر الرسم: الخطوط والألوان والتقنيات، وبصياغة بصرية تعبيرية رمزية  دقيقة متوازنة في مفاهيمها وأفكارها  الجمالية، وهو ما أنجزته بعض التجارب المتجذرة في التاريخ العالمي والعربي منذ أن ظهر الفن الروائي والقصصي وابتكر مبدعو الفن التشكيلي رسومات لأغلفة الكتب التي شكلت نصوصا تعبيرية بأشكال ورموز تشكيلية مرتبطة ارتباطا أدبيا شعريا بالفن التشكيلي باختلاف توجهاته، وبارتباط عضوي عبر عنه من كبار الفنانين خوان ميرو الذي قال "أنا لا أميز أبدا بين الرسم والشعر، و(اضطر) أحيانا ان أوضح لوحاتي بعبارات شعرية وأحيانا العكس"، وكان بيكاسو يعتبر نفسه رساما وشاعرا.

وتأتي في هذا الاتجاه الحكايات والقصص والروايات (المصورة) في مقامات الحريري التي عالجت الكثير من القضايا الإنسانية الجميلة عالية الدقة والمتقنة الصنع، التي جاءت في المخطوطات التي خطها ورسمها يحي الواسطي في بغداد عام 634- 635 هجرية، وهو أول فنان عربي في التأريخ ومؤسس مدرسة الرسم في بغداد، وكانت القصص التي تضمنتها مقامات الحريري، إضافة لفنيتها، فهي تحقق هدف الترفيه والتثقيف في مشاهد كثيرة عن مدن العالم الإسلامي.

تعد تجربة الفنان العراقي المبدع ضياء العزاوي واحدة من التجارب التشكيلية المهمة والمتفردة في هذا النوع من التعبيرية التي يمزج فيها العزاوي بين اللون والشكل في القصائد المكتوبة التي يختارها غالبا لشعراء عرب قدامى كشعراء المعلقات في معرضه الشهير، والشاعرة لميعة عباس عمارة، وفي هذا المضمار، وعلى خطاهم، يسير الفنان التشكيلي العراقي المغترب في السويد جعفر طاعون (البصرة 1963)، ودرس الفنون الجميلة في بغداد، ويقيم معرضه (الى اللوحة ايها الفضاء) في 21.6.2023  في المملكة الأردنية الهاشمية على كالري دار الاندى في تجربة تجمعه بالشاعر والناقد والمفكر الأكاديمي السوري أدونيس (وهو اسم معشوق آلهة الحب في اليونان) وهو من مواليد ١٩٣٠. ارتبط هذا الشاعر والمفكر مع الرسام المبدع جعفر طاعون بالعامل الإدراكي في توليف المفردة مع الفن توليفا رمزيا تعبيريا في الشعر والرسم بكلمات ودلالات تكمل بعضها البعض لتنتج أعمالا مركبة لا يحدها سقف زمني ولا مكاني في رؤية فكرية حسية متحركة متخيلة مستذكرة للماضي لتعيش الحاضر ومتأملة المستقبل في نص بصري يحمل طابع التجدد الفكري للنص الشعري المصاحب للنص البصري باعتبار أن النص التشكيلي هو بالتالي قراءة لأفكار ودلالات تشكيلية لونية، كما قال الشاعر امرؤ القيس، الذي يربط بين اللون الأسود والضيق والقبح في "وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي"؛ فانجز  الفنان جعفر طاعون تجربته اللونية التعبيرية مستلهما أدواته التشكيلية ودلالاته الرمزية من ما وراء السطور بصبغة شعرية فلسفية بصرية، باعتبار أن الفن التشكيلي والشعر هما الأدوات التي تمكن الفكر من الوصول الى فهم الوجود ذاته بهدف اشباع الحاجيات الإنسانية وتطوير المنجز الابداعي الثقافي دون أن يفقد احدهما خصوصيته واستقلاليته لذاته..