
![]() |
على ورق الورد حين تنصهر الفنون في ميدان واحد |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : منذر عبد الحر
في متحف الشمع في لندن , أدهشتنا التماثيل المصنوعة بدقة متناهية لمشاهير العالم وأبرز نجوم التأريخ وشخصياته المؤثرة , وكانوا لفرط قربهم من الأشكال الحقيقية يوهمون المشاهد والمتطلع إليهم بأنهم حقيقيون , وسينطقون ويتمشون بين زوار المتحف , وهذا الايهام , لم يغفله القائمون على إنشاء المعرض فزرعوا شكلا من شمع في طريق الزوار عبارة عن فتاة جميلة تلتقط الصورة من خلال عدسة كاميراتها لأحدى الشخصيات , فترى المارين بقربها يتأسفون لأنهم مروا أمام عدستها دون الانتباه إلى أنها تقوم بالتقاط الصور , حتى تصدح الدهشة وإذا بنا نضحك بصوت عال ٍ منتبهين إلى أن الفتاة الجميلة التي تلتقط الصور ما هي إلا دمية من شمع وضعت للتمويه والطرافة وزيادة المشهد وقعا وتأثيرا ودهشة .
ولم يكتف المشهد بعرض تماثيل الشخصيات , بل سعى القائمون عليه على إعطاء صور بريطانيا ولندن والأحداث التي مرت بها عبر التأريخ , ولم يكن العرض تقريريا مباشرا , كما أنه لم يعتمد العرض الدعائي الممل الخالي من المتعة والروح والحيوية , فكان هناك قطار يتألف من عربات صغيرة , يستقلها الركاب وينطلقون في مسارؤ من الأحداث وفق عرض فني متنوع جميل يسرد الأحداث ويقدّم الشخصيات ويشير للوقائع بأسلوب جذاب , كما أنه يقدّم مراحل تطور بريطانيا وأهم معالمها والحريق التاريخي الذي نشب في لندن بأسلوب دراماتيكي سريع مؤثر يقدم الصورة ببهاء , ويعطي للعرض نقاط تشويق تجذب الجميع , كما أن هناك عرضا مجسّما مثيرا لوسائل التعذيب والاعدام في العصور السحيقة , ثم تأخذنا المشاهد بتصاعد علميّ مدروس للاطلاع على كيفية بناء بريطانيا الحديثة وموقعها المتسيّد في العالم الحديث , وتنتهي بنا الدهشة لفيلم سينمائي ينتمي لتقنية الأبعاد الأربعة "4 d " فنشاهد ونسمع ونعيش الأحداث مشتركين فيها هاجسا وحركة بشكل طريف مثير مسلٍّ , وكذلك مطّلعين على شيء من تراث بريطانيا !.
لقد اجتمعت الفنون في هذا المتحف المهم , وكلّها أخذت من التراكم الحضاري المنتج للحاضر مادة لها , و هو أمر مهم تسعى بريطانيا دائما لتكريسه وبناء أصوله , ليكون ماركة خاصة لها موقعها من التأريخ ليكون لها ميزة تتفرد بها بين قريناتها .
هذه الفكرة تحيلنا إلى راقع فنوننا في العراق , وربما في الوطن العربي كلّه , فنحن لا نؤمن بالتراكم الحضاريّ , وحتى العمراني , فالحاضر عندنا يلغي الماضي ولا يؤسس عليه , والتاريخ مشروع دائم للهدم والكسر , وما أقامه الحاكم الفلاني الجائر , يجب أن يحطمه الحاكم الثوري العادل المتنوّر , وهكذا , وكأن الأثر يجب أن يزول بزوال من يمثله , وهكذا تختفي معالم كان من المفروض أن تظل راسخة لتشير إلى المرحلة وتقرأها بشكل دقيق له شواهد وعليه إشارات , وهذا ما يفعله القائمون على بناء مدينة عظيمة مثل لندن ودولة عريقة مثل بريطانيا تقدس التراكم وتحترم الأثر , وتعتني بالماضي كما هو ليشهده الحاضر , ويكمل منه ما هو صحيح , ويشير للخطأ على أنه مثلبة يجب الانتباه إليها وعدم تكرارها , وهكذا دون عقد أو حساسيّة تجاه مرحلة لا يمكن اقتطاعها أو إلغاؤها أو إهمالها لأنها ساهمت بالنسيج التاريخي للدولة والمجتمع ولا يمكن تجاوزها أو عدم الاصغاء لايقاعها .
إن الفنون مرآة المجتمع , ودليل صنّاع الحياة لبلوغ المرتبة الأجمل والأرقى في بناء الدول الحديثة والمجتمعات الراقية , شرط أن تكون هذه الفنون منسجمة مع التقاليد والأعراف , ولا تتعارض مع تعاليم ديننا الاسلامي بعمق تجسيده وروحه الخلاقة . |
المشـاهدات 294 تاريخ الإضافـة 26/11/2023 رقم المحتوى 34073 |