الثلاثاء 2024/5/14 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم جزئيا
بغداد 31.95 مئويـة
((لتمرد بوصفه ذعرًا)) ورقة نقدية في ديوان "قيامات خارج السياق"(١) للشاعر حميد العبادي
((لتمرد بوصفه ذعرًا)) ورقة نقدية في ديوان "قيامات خارج السياق"(١) للشاعر حميد العبادي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

د.عماد الحيدري

إذا كأن لابدّ من كسر المألوفات وتهشيم المسلّمات بوصفهما موضة لشعرنا المعاصر فإن قصيدة النثر هي الفضاء الأرحب لما يمكن أن نسميه بالتغاير عن السائد والاختلاف عما هو مألوف ومعتاد. وهذا هو التحريض الذي يسعى حميد العبادي إلى التأسيس له وإن كان مسبوقًا بتاريخ يمتد إلى أكثر من ستة عقود لكنه يحاول أن يزج قدميه في أرض لم يطأها أحد قبله بوساطة لغةٍ هاجسها التمرد المذعور عبر رفض الانتماء وانتهاك الأدلجة واحتقار التناص، فما كان منه إلا أن شق له طريقًا لم يضارع به أحدًا ممن سبقه في هذا المضمار ولم ينتهج سلوكًا شعريًا وطأته الأقدام كثيرًا، فصار النص عنده عبارة عن تأثيث خيالي بعزفٍ منفرد يحيل قارئه إلى فضاءاتٍ غارقة بالهم الذي عتقته المصائر واحتوشته ذئاب الواقع، فالنص عنده تشكيل متمرد على المضمون فضلًا عن الشكل محاولًا بذلك تأسيسه على حشدٍ من التجليات الإنسانية التي تريد قول كل شيء صارخ يتعلق بالطبقات المعدمة من أبناء جلدته، تلك الطبقات المحرومة من أبسط مقومات العيش الكريم فترى في خرائط نصوصه لوحاتٍ تتدفق من تضاريسها شلالات الخيبة والخذلان وتدب فوق سطوحها الخسارات المتتالية لتعيد إلى أذهاننا أشرطة الورطة التي غادرتها أو كادت ان تغادرها هواجسنا بعد طول مكوث.

هي إذن قيامات متمردة تجرها سلسلة من الهزائم الداخلية التي يعيشها كل فرد ينتمي إلى هذا العالم المخادع الذي يسير عكس اتجاه الريح، قيامات تمارس لعبة تبادل الأدوار بين الضوء والعتمة وبين الجد والهزل لذا حق لها أن تكون خارج السياقات المألوفة لا داخلها، فأنت ترى شاعرها رائيًا لما لم يره غيره، إذ يرى أمة ابراهيم وقدِ:

قفت على بيضة كونية ... غير قابلة للكسر

لكنها أفقست آلاف المقاصل ص٦٥ ، ٦٦

وترى عنده مقترحًا غيرمسبوق:

وهو أن تُعفى الأمهات

من وهن الشهور التسعة ص٣٨

وهكذا فهو يسترسل بما يضارع القيامة الموعودة وبما سماها قيامات لا تقل ذعرًا عن يوم الفزع ولا سيما:

عندما يطالبك طفلك المتسرطن

بأثواب العيد

أو دمية بعافيتها التامة

وأنت تعلم بموعد وفاته في ليلة (أم الحلس) ص٧٣

هذه قيامة من طراز خاص استطاع الشاعر  أن يحولها من التخصيص إلى التعميم لتكون بذلك قيامة مختلفة تستحق الذعر، وثمة قيامة أخرى أطلق عليها صفة الوقاحة ليثير فينا فضول التعرف عليها فباغتنا بتفصيل الوصف بقوله:

قيامة أن تقف بالدور

في طابور الذبح

بسكين الشريعة وإقامة الحد الأدنى

لإزالة أعذار البقاء ص٧٣

إنه تجاوز للخطوط الحمراء من دون أن يقدم لقرائه تسويغًا لهذا التجاوز  بل كان اشتغاله بعيدًا عن تسطيح المعنى  لأن العمق هو الهاجس الذي يراوده على طول مساحة الديوان كما ألفيناه في ديوانيه السابقين.

إن قيامات العبادي تباغت قارئيها بما يشكل لهم اندهاشًا واسع النطاق أنتجه تغريده الدائم خارج السرب بحثًا عن المفردة الواعية التي تثير لدى متلقيها شهوة الغور في مناطق التفكير العميق فضلًا عن التأويل المتماهي مع وقائع قد تكون قريبة المأخذ من مثاله الشاخص أو بعيدة المنال عن واقعه المفترض، فالشاعر والقارئ في هذه القيامات كلاهما يرزحان تحت وطأة الوقائع الخارجية المهيمنة، تلك الوقائع التي تغيرت فيها القيم العامة لقوانين الحياة فلم يستطع الشاعر إعلان الهدنة معها أو الانصياع تحت سياطها بل وقف بوجهها ثائرًا ضد مجانية الموت وأشكال التجويع مسددًا فواتير الدم  بما تبقى من دفء الرصاص.

ربما يحق لنا أن نعد قيامات العبادي تفتيشًا أهوج الأسلوب عن الفردوس المفقود بذريعةٍ كونية صالحة وبطريقة محسومة النتائج، إذ لا مفر من جثوم هذا التفتيش على صدورنا لحاجتنا الماسة لمن يقرع الأجراس في رؤوسنا ويحرك السواكن في خيالاتنا السابحة في بحر الركود، نحتاجها كل حين كمائدة من الألم المسكوب بأباريق الشعر الذي يهدهد الجراح كموالٍ جنوبي أيقظته صفعات الفقد حتى صار أنشودةً لمن يستريح على دكة الهاوية.

وتثيرنا عنوانات النصوص في هذا الديوان: (مجدٌ حاف، لفظٌ داعر، أنوثة الجذب، شفاه الحدس،  مذاقات الله، غدة الرأي، كبوات الصدفة، سرط مائلة ...) حتى كأننا نقف أمام ألفاظ خارجةٍ عن اللغة بترنحٍ يتقصى ذعر المفردات ويرسم لأكثر العتبات النصية اقتصادًا خارطة طريق تبشر بولادة معجم لألفاظ الجحود المروًضة لانشطار المعنى على وفق اللوائح النصية، فما أن يطل عنوان ما فإنه يفرض علينا نفخًا في رماد المواقد المهجورة لتهييج نيران اللوعة التي كانت ساكنةً في النفوس أو تلك التي كانت على شفا إشارة من الولوج إلى عالم الهم الكوني، فننظر إلى أي عنوان من هذه العنوانات بوصفه اكتنازًا سيميائيًا لحشدٍ من العلامات المبثوثة بين طيات النص وهذا أمر طبيعي لعنوانات تريد أن تصبح ضفة تشويقٍ لنصوصٍ منفلتةٍ عن الأدلجة، لكن اللافت للانتباه هو أن العنوان يمارس انصهارًا في بوتقة المتن ليس بطريقة تقليدية سائغة وإنما ينصهر محمولًا على خشبة التضاد حينًا أو بطريقة وخز الذاكرة حينًا أخرى بحيلٍ ماكرة تستهدف كسر أفق التوقع لدى القارئ المتأمل، ففي نص "شفاه الحدس" مثلًا لم نرَ أثرًا للشفاه إلا في قولها الأبدي بأن:

الانتظار هم سرمدي ص٥٢

فقد كان التوقع بأن تحوم الشفاه على بوابات النص أو تدركه بذراريها الحائمة حول المفردات، على حين كسر أفق التوقع بهزيمة الزاهد وخشية الجبل.

وفي نص "أنوثة الجذب" لم بكن متوقعًا أن يكوم ختامه عويلًا ل:

نسوة عراقيات

نظاهرن لإثبات نسب الحزن ص١٠٢

وفي نص 'سرط مائلة" كنا نأمل أن يكون الميلان كما هو المعهود نحو ما نتربصه من دون توجس أو خشية، لكن الذي وخز الذاكرة فينا هو أن هذه السرط كانت مائلة الحظ فمالت بنا حتى:

دهستنا قوارب العسس ص٧٥

إن هذه القيامات لا تسير على وفق برنامج منظم أعد لها مسبقًا بل هي قيامات هائمة على وجهها في مجاهل المرارة تستقصي الوجع الإنساني أينما يكون وتستثيره ثم تنزوي قابعةً عند أقصى زاويةٍ من زوايا الألم فلا يضيرها سخط القارئ ولا يبهجها رضاه ولكنها على يقين ثابت

بأنها تؤدي تكليفًا عظيمًا أشبه برسالات الأنبياء.

  • قيامات خارج السياق (شعر): حميد العبادي، مؤسسة ثائر العصامي، بغداد، ٢٠٢٤.
المشـاهدات 90   تاريخ الإضافـة 28/04/2024   رقم المحتوى 44658
أضف تقييـم