
![]() |
على هامش السيرة المنذريّة |
![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
النـص : تغصُّ أرفف المكتبة العربيّة بمئات الأسفار تحت عناوين معلنة ومبطّنة، وربّما تتشابه فيها الأمكنة والحارات والدكاكين، وتتوافق جميعها على تمجيد صاحب السيرة الذاتية، وتنصيبه بطلا على قبيلة الأقلام التي سوّدت حياتنا قبل أن تسوّد الصفحات البيضاء؛ لكن نجت من هذا المرض العضال مجموعة من الكتب التي لا يتجاوز عددها أصابع اليد العشرة؛ وكانت (بئر يوسف) للأديب والإعلاميّ العراقي منذر عبد الحر أحدثها صدورًا حتى كتابة هذا المقال. في هذه المقالة سأحاول من خلال الغوص في (بئر يوسف) البحث عن لآليء السيرة الذاتية المضيئة في عتمة التاريخ العربيّ الممتد منذ القرن الثالث الهجريّ إلى العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، المعنون بـ(عصر الانحطاط العربيّ الكبير) تصريحًا منا لا تلميحًا، وفجاجةً لا مراءة فيها في الزمن العربيّ الذي نزلت على رأسه (لعنة النفط)، و(خدعة التنمية المستدامة)، و(كذبة الديموقراطية الكبرى). في هذا المقام لم يكن منذر عبدالحر صدى للسير العربية الأكثر شهرةً في في دوحة الأدب، بل جعل السيرة تكتبه بدلا من أن يكتبها، وتأبَّط الشعر، وتوكأ على السرد، وامتطى جواد الرواية، وسار بحذر بين حقول الألغام والفخاخ المنصوبة بين الفنون الأدبية، ونجا من الوقوع في خديعة المباشرة التي تمارس غوايتها في هذا النوع من الكتابة من لحظة البدء في الكتابة وصولا إلى خط النهاية المفتوحة التي تبشّر بجزء ثانً على نحو ما قرأنا في (رحلة جبلية) للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي تحدثت فيها عن تجاربها العاطفية بشيء من الانفتاح المتأدب. وفي هذه السيرة أشار عبدالحر"إلى رصده الشخصي ومعاينته للأحداث التي عاشها وتفاعل معها، إضافة إلى معاناته التي وظَّفها في نصوصه الشعرية والنثرية، مشيراً إلى إن جيل الثمانينات الشعري في العراق، بتوجهاته الفنية والفكرية المختلفة، عاش الحرب بكامل ضراوتها، وتوزَّع أبناؤه إثرها في ثنايا الوطن، منهم من أخذته الحرب، ومنهم من نجح في الهروب منها، ومنهم من وجد ملجأً ما مثل التأخر المبالغ فيه في سنوات الدراسة، ومنهم من حصل على وساطة ليعمل في إحدى الصحف، حتى جاءت سنوات الحصار التي تركت آثارها الجسيمة على أبناء هذا الجيل فغادر العديد منهم البلاد سعيًا لفُرصٍ بديلة وحياة أكثر حُريةً وأملاً. وقد سعى المؤلف لإحصاء معظم الأسماء التي ساهمت في تشكيل هذا الجيل، على الرغم من تفاوت المستويات بين شعرائه". عندما تنزل إلى (بئر يوسف) مع منذر عبد الحر؛ ستلتقي هناك (جبرا إبراهيم جبرا) يعبّ في أقداح دماغه الطفوليّ عصارة الكُتب، ويُسطّر تاريخ نشأته الثقافية على جدران المدارس، ويسافر حول العالم في عالم يضجّ بالواقعية. حتى إذا ما تحسستَ موطيء روحك في عتمة (البئر) ستعثر قدمك في مريد البرغوثي وهو يقصُّ على ادوارد سعيد حكايات العودة إلى الوطن، التي تنزُّ بالوجع من (رأيتُ رام الله)؛ ولكن بلغة شاعرية تجعلك تعيد قراءتها على شكل قصيدة أكثر من مرة. وعلى هامش دامٍ من الحلكة ستعثر على صورة (منذر عبد الحرّ) معلقةً على جدار من (الجمر والرماد)؛ يقف بجوارها هشام شرابيّ مؤرخًا للتغريبة الفلسطينية في عالم عربيّ فقد ضميره ذات خديعة وأحد عشر خازوقًا لبسها واحدا تلو الآخر عندما خلع تراثه، وارتدى ربطة عنق الديموقراطية الغربية المزيفة. بينما في المساحات والهوامش البيضاء في (بئر يوسف) ستظهر وتختفي جرأة (الخبز الحافي) لمحمد شكري، وتلمع من بعيد سرابات الفقر التي سوّرت أبراج بابل، واندلقت في باحات قصر الرشيد حين قذفت بها منجنيق الحصار الدوليّ في ميادين العراق موشومةً بخاتم برنامج (النفط مقابل الغذاء). لقد كانت الخدمة العسكريّة الإجباريّة إبان حرب الخليج الأولى التي قضاها منذر عبد الحر هي المعادل الموضوعيّ لسجنٍ واسع بلا جدران اسمه (العراق)؛ كانت بيوته زنازين، وشوارعه وميادينه باحات للتشمّس اليوميّ الذي يمارسه المواطن العراقيّ (السجين) سائرًا في فراغ بلامعنى، وهنا تطلّ بوجهها الكاتبة اليساريّة لطيفة الزيات من زنزانة أحد المعتقلات المصريّة إثر كل "حملة تفتيش". وعبر فصول (بئر يوسف)، يظهر طه حسين وهو يتلو كتاب (الأيام) وفي خلفيته تتحرك شاشة من السينوغرافيا تتقاطر عليها بقعٌ من الضوء تمزج بين بؤس الريف المصري والشوارع الباريسية وأزقة (مونبلييه)، وأروقة الأزهر الشريف وباحات جامعة القاهرة. وفي الأخير يمكننا القول: لقد كان منذر عبد الحر في (بئر يوسف) حذرا من الوقوع في فخّ المباشرة؛ لذا ركب قارب المجاز في أحايين كثيرة، وجدّف على الحافة عابرًا صراط الحقيقة التي اقتضت كثيرا منه المشي على أطراف أصابعه حتى لا يجرح فضيلة الصمت، وتلك ميزةُ الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، وسنعثر عليها في (أصداء السيرة الذاتية) عند نجيب محفوظ. |
المشـاهدات 221 تاريخ الإضافـة 25/05/2024 رقم المحتوى 46519 |

![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |