كُوَّةٌ فِي زَوَايَا مَخْفِيَة مِن التَارِيخ.. قراءةٌ في كتابِ (أربع شَخْصِيَّات مِنْ تَارِيخِ العِرَاق) لِلكَاتِبِ الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي |
فنارات |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص : قراءة / لطيف عبد سالم الجزء الثاني
*** نَظَّرًا لِسعَةِ مَوْضُوع البَحْث الحَالِي، وَتعدد مَوَارِد كِتَابَة مَبَاحِثه، فضلًا عَنْ أهميةِ وَكُثْرة العوامل المؤثرة في مُشَكَّلَتِهِ، وَاِنْسجَامًا مَعَ مَحْدُوديَة مَسَاحَة النَشر في الصُحُفِ وَالدَوْرِيَات، فَقَدْ اِرْتأيتُ أنْ أخصّ بِالقِرَاءةِ إحْدَى الشَخْصيَات الوَاردة في مَتنِ الكِتَاب، وَالمُتَمَثلَة بِشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، مَعَ مُلَاحَظةِ أنَّ هَذَا الإجْرَاء لَا يَعْنِي أني أمْطَرتُ هَذِهِ الِشَخَصِيَّةِ اِهْتمَامًا على حسَابِ الشَخْصيَات الأخرى، أو عدم الاهتمام بتلك الشَخْصيَات. شَخْصِيًا لَمْ أكن على دِرَايَةٍ بأنَّ هناك ثلاثة وجوه تَتَمَحْوَر حول شَخَصِيَّة تارِيخِيَّة واحدة، هي شَخَصِيَّة النَبِي إدْرِيس (عَلِّيه السَّلاَم)، وَرُبَّما كلّ مَا كان مَعرُوفًا ُلدَى المُهتمِين بِشَأنِ تارِيخ العراق الحَضَارِي وَالثقَافِيّ، فضلًا عَنْ بعضِ العامة، هو الجَدَل بشأنِ صحة مَا مُتداولً مِنْ أنَّ إليَاسَ وإدْرِيْس اِسْمَان لِنبِيٍّ واحد، حيث أشار بعض العُلمَاء والْمُؤَرِّخِين، ومنهم ابن كثير إلى أنَّ إلياسَ هو إدْرِيس وإدْرِيْس هو إليَاس، فيمَا أثْمَرَّ جهد الجلبي عَنْ إِضَاءةٍ مهمة لشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيْس، كونه بحسبِهِ مِنْ أوَائِلِ الشَخَصِيَات التي اِكتَنَفَ سيرتها مَا تباين مِن الأسَاطِيرِ وَالحِكَايَات، فكان أنْ تَنَاسَلَتَ إلى ثلاثِ شَخَصِيَات هي: (أخنوخ، هرمس وَإدْرِيس)!. بَعْدَ جُهْدٍ جَهيدٍ، وَصَبْر طوِيل، توصل البَاحِث الجلبي على وفْقِ المَصَادِر وَالوَثَائِق التارِيخيَّة التي اِعْتمدها إلى أنَّ: "شَخَصِيَّةَ إدْرِيس الْبَابِلِيَّة هي النُّسْخَة الحَقِيقِيَّة التي تمَّ تَزْوِيرها بِنُسَخٍ أُخرى بِنَفْسِ المُوَاصَفَات، وَهَذَا مَا لَا يمكن عقْلًا فَلَا يمكن أنْ يكون ثلاثة أشخاص يحملون نَفْس الاسم وَالصفَات وَالمَكَانَة العِلْمِيَّة مَعَ اِخْتلَافَاتٍ يَسِيرَة اِخْتلقهَا بعض الكُتَاب وَسَار على نَهْجِهم مِمَنْ أخذَ عَنْهم بلَا تَمْحِيص وَلَا تَدْقِيق"... ص (6). كذلك أسْتقَى مِنْ مَصَادِرٍ جد مَوْثُوقَة، مَعْلُومَات أخرَى غاية في الأهميَّة، مِن بَيْنِهَا مَا يؤكد أنَّ النَبِيَ إدْرِيس: "ولد في مَدِينَةِ بَابِل وفيها نَشَأ وَتَرَعْرع"، بَلْ أنَّ جميع الأنْبيَاء: "هُم عِرَاقيُون سواءً بالولادةِ أو باِنْحدَارِ النَسَب.... حتّى أنَّ النَبِيَ عِيسَى (عَلِّيه السَّلاَم)، وَعَن طَرِيقِ أمهُ الصدِيقَة يرجع بِالنَسَبِ إلى النَبِيَ إبراهِيم الخَلِيل الكلْدَانِي البَابِلِي... ص (8). المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ مَسْألَةَ كون جميع الأنْبيَاء هُم عِرَاقيُون، سبق أنْ تطَرَقَ إليهَا الدكتور خزعل الماجدِي(5) بِبَحْثٍ مُثِيْرٍ جاءَ فِيْهِ: "أنّ الملوك العشرة السُومِرِيِين الذين تحولوا إلى عشرةِ أنبياء توراتيين بفعل الرؤية التوراتيَّة. وهؤلاء الملوك أو الآباء هم: «آدم، شيث، إنوش، قينان، مهلالئيل، يارد، أخنوخ (إدريس)، متوشالح، لامك، نوح» الذين ينتمون جميعهم إلى مرحلة ما قبل الطوفان"(6)، إلَا أنَّ مَردَهْم بِحَسَبِ الجلبي ليس لِلسُومِرِيِين، بَلْ إلى النَبَطِ الكلْدَانِيين الذين سَكَنُوا مَديِنَة بَابِلِ القَدِيمة على نَهْرِ الفرات بالعراق. تَجْدُرُ الْإِشَارَةُ هُنَا إِلَى أَنَّ النَبِيَ إدْرِيس هو سِبط النَبِي شيث (عَلِّيه السَّلاَم)، وجدّ أبو الأنبياء سيدنا إِبرَاهِيْم (عَلِّيه السَّلاَم)، الذي وُلِدَ في بَابِل، واِصْطفَاه اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالنُّبُوَّةِ فبَعَثهُ لِهدايَةِ قَوْمه وإخْرَاجهم مِن الظُلمَاتِ إلى النُّور، وَأمرهم بِتَركِ عبادة الأصْنَام وعبادة الله وحده لَا شَرِيك لَه. وَقَدْ ذكرَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إدْرِيس في الْقُرانَ الْكَرِيْمَ، حيث قَالَ رَبُّ الْعِزَّةِ في مُحْكَمِ كِتَابِه الكَرِيْم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَۚ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا).(7) وخشية إفساد مُتْعَة القارِئ الكريم في التبحر بِمَضَامِين الكِتَاب، وجدت مِن المُناسِبِ وَالمُهِم أيضًا ترك غَالِبية التفاِصيل المُتَعَلِقَة بِشَخَصِيَّةِ النَبِي إدْرِيس وَالشَخَصِيَات التي تَنَاسَلَت مِنهُ مَعَ مرورِ الأيَام إلى المُتلقِي، إضافةِ إلى عدمِ الاِقْتبَاس مِن النُصُوص التي اِعْتمَدها الجلبي من مصَادِرِ وَمَرَاجعِ بَحْثِهِ هَذَا. يَمُكُّنّ الجَزْم بِأنَّهُ بعدَ بَحْث وَتمْحِيص مُعمَقين خلص الكَاتِب الأدِيب وَاثِق الجَلَبِي إلى أنَّ إدْرِيسَ النَبِي هُوَ هرمس وهُوَ أخنوخ البَابِلِي أيضًا، بِمَعْنَى أنَّهُ رجل واحد وليس ثلاثة رجال كَمَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ فِي غَالبيةِ كُتُب التَارِيْخ، ولطولِ العَهْد حَملَ هَذَا الاسم بعضًا مِن الأتْبَاعِ وَالتَّلَاَمِيذ، ولكن الحَقِيقَة أنَّ مثلثَ الحكْمَة هُوَ شخص واحد، ولد وعاشَ في بَابِل، وانتقل بأمرِ الله تعالى إلى صعيدِ مِصْر يرافقه مَنْ آمنَ بِهِ مِنْ أهْلِ بَابِل، وَهُوَ الذي أسمَى مِصْر بابليون وَهَي مُصَغَر بَابِل، ومِن ثمَّ قام بنشرِ دعوته التَّوْحِيديَّة بين أهْل مِصْر واليونان، وَقَدْ بَنَى الأهرام، وَتَمَّ دفْنَهُ في الهَرَم الأكْبر، وَقَدْ ادعى الهرمسيَّة الكثير حتى لقبوا بِالهرامسَة..... ص ص (21، 22، 23). وَمِن المَصَادِرِ التي اِعْتمدَهَا، اِسْتنْتَجَ الجلبي هُوَ أنَّ وصايا هرمس ومَا أضَافَهُ تَلَامِيذهُ وَطُلَاَّبهُ مِنْ شُرُوحٍ، سُجلَتْ بِسبعة عشر أطرُوْحَة باللُغَةِ اليُوْنَانيَّة، وَلِشَدَةِ لمَعَان اسم هرمس عَدَّهُ بعضهم فَارِسِيًا، أو يُونَانِيًا، أو مِصْريًا، أو هِنديًا، حيثُ كَثُر الجَدَل حيال كونه أصْلًا لِبُوذَا، ولكنهُ في الحقِيْقَةِ رجل مِنْ بَابِل عَاصِمَة البَابلِيين الذين عَاشُوا في بِلَادِ مَا بَيْن النَهْرين (العراق) في الألفَيْن الأول وَالثاني قبل الميلاد، والتي تُعَدُّ مِنْ أشْهَرِ مُدُن الشَّرق القَدِيم. وَهَذَا الخَلْطِ العَجِيب نَابع بِحَسَبِ الجلبي مِنْ عَدَمِ تتبع الجُذُور الأوْلَى، مُتنَاسِينَ أنَّ كُثْرَةَ أتْبَاعه وَطُلَاَّبه؛ أدَتْ إلى هَذَا الاِلْتبَاس، فضلًا عَنْ سَفَرهِ وَخُرُوجه مِنْ بَابِل، وَاِرْتحَاله بِأمْرِ السَمَاء إلى صَعِيْدِ مِصْر وَتَسْميتها بابليون. وَلَعَلَّ مِنْ بَيْنِ الْاِسْتِنْتاجَات المهمة التي توصَل إليها الجلبي، هُوَ أنَّ أهْلَ اليُونَان لَمْ يؤسسوا شيئًا مِنْ موَارِدِ الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ، بَلْ أخَذوا مِنْ (إدْرِيس) الحكْمة الهرمسيَّة التي شكلت الحَرَكَة العِلْمِيَّةُ وكما يدعونها عندهم (الفَلْسَفَة)، واِسْتمرُوا على نَهْجِهِ كبقيةِ الحَضَاَرَات بِمَا في ذلك العَقل وَالرُوح وَالنَفْس وَالإنْسَان السَمَاوِي الأمثل وَالإنْسَان الأرْضِي غير الكامل وَطَرِيْقَة الارتقاء بالوحي حتّى تداخلت الغُنُّوصِيَّة(8) كمفهُوم مَعَ الهرمسيَّة كَوَعِيٍّ دِيْنِي سُرْعان مَا وَجَدْنَاهُ عند اليَهُود وَالمَسِيح وَالمُسْلِمِين. وَهَذَا يَعْنِي أنَّ: (أسَاسَ كلّ تلك العُلُوم الفِكْرِيَّة وَالرِّيَاضِيَّة وَالهَنْدَسِيَّة هي عُلُوم إلهية). ثَمَّةَ أمر وَرَدَ في مضامِينِ كِتَاب الجلبي هَذَا يستحق الوقوف عنده؛ لِمَا يَحْمل مِنْ مَدْلُولَاتٍ غَايَة في الأهميَّةِ، وَهُوَ أنَّ السُومِرِيُّونَ لَمْ يَذْكرُوا مِن الْمُؤَرِّخِينَ كالمَسْعُودِي وابن الأثير وابن خلدون ولا ابن وحشية، ولا حتّى التَّوْرَاة، بَلْ ذَكَرُوا النَبَط الْكَلْدَانيين. وَلأنَّ هَذَا المَوْضُوع كَثِيرًا مَا كَانَ يؤرق الجلبِي، فَقَدْ توجه بِسُؤَالٍ إلى الدكتور نائل حنون(9)، الذي نجتزئ مِنْ إجابتِهِ مَا يأتي: "كيف يمكن للمُؤَرِّخِين المُتَأخرِين أنْ يَذْكرُوا مَنْ لَمْ يَذْكرُوا في النُصُوصِ السُومِرِيَّة نَفْسها، وَحتّى في النُصُوصِ السُومِرِيَّة كلها لا يوجد ذِكِر واحِد للسُومِرِيين. في حالاتٍ قليلة تَصِف النُصُوصِ المِسْمَارِيَّة بعض الأشْخَاص بأنهم سُومِرِيُّون. ومعْنَى ذلك ليسَ هويتهم القَوْميَّة، وَإنمَا يقصد بهم الكَتَبة المُتدربِين على الكِتَابةِ السُومِرِيَّة مهما كانت هويتهم القَوْميَّة..."... ص (71). واِتْسَاقًا مَعَ الأمر المَذْكور، يُشِير الجلبي إلى مَا ذَكَر المَسْعُودِي مِنْ أنَّ النَبَطَ هُم سُكان العِرَاق القُدَمَاء، وَأنهُم عوملوا مِن الجَيشِ العَرَبِي وَمِن قبله مُعامَلة قَاسِيَة، مَا أدَى إلى أن يُخْفِي النَبَطِي أصْلَهُ؛ خوْفًا مِن البَطْشِ والقتْل، وَبِالإمْكَان الاطلاع على تَفَاصِيلٍ أوسع عَنْ هَذِهِ الجزئيَّة في ثنايا كِتَاب الجلبِي.
|
المشـاهدات 150 تاريخ الإضافـة 26/05/2024 رقم المحتوى 46613 |