النـص : فدوى العبود
يعد المسرح مرآة العصر الذي ينتمي إليه، وكان عند أرسطو نوعًا من التطهير للمشاعر القائمة على الخوف، من خلال الرعب الذي يحدثه في نفسية المتفرج؛ فحين نرى الشر والعنف نتألم ونشفق ونحزن ونتطهر من الشر في أعماقنا؛ وتحول عند برتولد بريخت إلى وسيلة تثوير للوعي، وتنوير له.ولأنّ المسرح شهادة تمتد لكل العصور لتخبر عن التجربة الإنسانية، وتعطي صورة عن المرحلة التي تنتمي إليها؛ فإن المسرح السعوديّ لعب وظيفة المرآة العاكسة للتحولات الثقافية والتغيرات الاجتماعيّة التي مرّ بها المجتمع السعودي في شتى مراحله. وكان مسرح التجريب إحدى محطاته التي لم تصمد طويلًا، لانحيازها للشكل على حساب المضمون، وبدلًا من هدم الجدار الرابع؛ أقام بينه وبين مشاهده مساحة من التعالي على همومه وتطلعاته وأسئلته؛ وهذا الرأي العائد للناقد المسرحي عباس الحايك أدى "لإرباك العلاقة مع الجمهور، وخلق هوّة عميقة بين مسرحٍ لا يكترث بعدم تقبّل جمهوره، وجمهور استفردت به نصوص تجارية تختزله في عرض يتسم بالشعرية والغموض، والظلام السائد والإضاءات الخافتة والأجساد نصف العارية، وهي الاشتراطات الجاهزة للتجريب التي راجت في التجارب المسرحية السعودية الحديثة، لدرجة صار يُصّنف كل عرض بهذه المواصفات عرضًا تجريبيًّا، بل صار توجُّهًا وغاية لا وسيلة تعبير" .لذلك كله يمكن النظر إلى مسرحية "الذيب في القليب" (تأليف خالد الحربي، وإخراج محمد راشد الحلمي)، بمشاركة مجموعة من النجوم كـ: ناصر القصبي، وراشد الشمراني، وعبد الإله السناني، وحبيب الحبيب، وريماس منصور، وغيرهم، والذين تألقوا فوق الركح بعد أكثر من 30 عامًا من الغياب، عودة للمسرح الاجتماعي الذي يهدم الجدار الرابع بينه وبين المتلقي، ويحقق المتعة البصريـّة، حيث تُشارك الصورة مع الكلمة، والحركة والإيماءة والإشارة والرمز، لتُساهِم مجتمعةً في خلق المعنى، عبر التعرض لمواقف حياتية تولِّد الأسئلة الضرورية للمرحلة.ويشكل العنوان عتبة يمكن قراءتها دلاليًّا، بالاتكاء على مثل شعبي يرى في إنقاذ الذئب من البئر خطورة على منقذه. وفي قتله تكدّرًا للماء وإفسادًا له؛ ما يفتح بابًا على صعوبة إيجاد الحلول التي لا تكون بقتل الذئب، ولا إخراجه من البئر، بل ربّما من خلال فتح حوار معه. فما هو الحدث الذي لا يستطيع مطر خجاخة (ناصر القصبي) مواجهته؟ هل هو عدم قدرته على مواجهة البوليس الذي يبحث عنه لاتهامه بقضية اختلاس؟ أم شعوره المتمثل في عجزه عن مواجهة الفشل الذريع في عائلته وأبنائه الذين يعبرون عن نماذج مجتمعيّة ضائعة! لكن الإحالة الأعمق للذئب توحي بارتداد على الذات ومراجعة، وتأمل في الثقافة التي يغرسها فينا المجتمع؛ ولعل أول خطوة للتغيير تأتي عبر السؤال، فقد علمنا تاريخ الفن والحضارة أن القفزات والنقلات المعرفيّة والحضاريّة الكبرى بدأت بالسؤال. وفي مزاج أقرب للتوليد السقراطي، تتكشّف تناقضات الفكر الذي مثّلته نماذج مجتمعيّة تنتمي بعضها للتشدد والانغلاق وأخرى للنقيض؛ فبدَت المسرحيّة ــ التي انبنت على إطارين زمانيين مختلفين هما الراهن والماضي ــ مراجعةً للموروث الذي شكّل الوعي الجمعي من أمثلة وقناعات وتصورات، بل اللاّفت أنّ الماضي هنا، ويمثله مرزوق بائع الخمور الذي لعب دوره راشد الشمراني، كضيف شرف، هو محل تساؤل (الماضي الذي افتقد فيه الناس الوضوح والصراحة).ومطر جخاخة، الذي يقدم شخصيته ناصر القصبي، يرمز للصوت الموضوعي والهادئ في عائلة وقعت أطرافها إما فريسة للأفكار القاتمة والانغلاق القاتل الذي يمثله ابنه راشد (وهي مشكلة امتدت إلى كثير من الشباب في وقتنا الراهن)، أو فريسة للابتذال والسطحيّة التي تحيل إلى بعض الشباب الذين تحرّروا دون قيد، أو سقف لحريتهم، وتمثله ابنته التي تتبنى قيم التمرد والرفض والفهم المنقوص للحريّة، والتي ليست في هذا المجال سوى انتقام، أو ردة فعل، ورفض أعمى للماضي والهوية العربية؛ والخال الانتهازي (خال العائلة)، ويمثله الفنان عبد الإله السناني، والزوجة اللاّهية الغارقة في السناب ووسائل التواصل، ومثلتها الفنانة ريماس منصور، وبين هؤلاء يقف الأب مطر جخاخة/ ناصر القصبي المتهم بقضية اختلاس هو بريء منها.وعلى مدار العرض الذي قارب الساعتين، استطاع المخرج تحويل الحوار من حالة صوتيّة كلاميّة (باعتماد لغة الجسد للممثلين) إلى مدرك حسي ومرئيّ.وقد شكلت السينوغرافيا من ملابس وديكور لغةً موازية، عبر التغيُّرات اللونيّة التي عكست الصراعات الداخلية والفكريّة للشخصيات، في عرض تحقّق فيه الانسجام بين ما هو سمعي وبصري؛ ما ساهمَ في إثراء الخشبة، وإغناء العرض المسرحيّ؛ وتحيل كلٌ من الشخصيات إلى نمط من أنماط الوجود الإنسانيّ؛ فالعائلة تمثِّل مروحةً واسعة من النماذج المجتمعية يقف مطر (ناصر القصبي) في المنتصف، وعلى مسافة واحدة منها."إنّ رفض التشدد لا يعني الانسلاخ من الهويّة، ولا يعني قبول ثقافة الانتقام".هذه هي فلسفة المسرحية التي استطاع الممثلون نقلها للمسرح، وتحويلها إلى نص حيّ، يَمور بالأسئلة، بحيث يعثر المتلقي على مشتركات بينه وبين الشخصيات التي تعبر عن رأيها من قضايا اجتماعيّة وسياسيّة وحياتيّة؛ ما حوّل الصراع الدرامي من صراع أفعال إلى صراع أفكار.بحيث كان الموقف في المشهد نقاشًا، حول الحرية والتشدد والهويّة ووسائل التواصل بطريقة لا تخلو من فكاهة، لا ترهق المتلقي، بل تمسُّ وعيه النقديّ مسًّا هينًّا ليضحك ويسخر من ذاته في جدل أشبه بالتوليد السقراطي الذي يسأل ويحرض ولا يهتم بالإجابة.تألق ناصر القصبي في دور مطر جخاخة، واستطاع أن يضيِّق الفجوة بين أناه وأنا الدور. وبدا كما لو أنه يسرد بروحه؛ ليقف في المنتصف بين تيارين كلاهما يلغي الحياة: الأول عبر التشدد، والآخر عبر تسطيحها.في الفصل الثاني من المسرحية، كانت الأسئلة أقل حضورًا، لكن لعبت لغة الجسد دورًا كبيرًا؛ وهنا اعتمد المخرج على الصورة والحركة والايماءة، فقُدِّمت قضايا المرأة والمسيار، وتألق في هذا المشهد الفنان حبيب الحبيب، الذي قام بمشاركة ناصر القصبي بالتنكر في ثياب امرأة، لعرض وضعية المرأة في علاقتها بالرجل، من دون إصدار أي حكم قيميّ، ما يدل على احترام العرض لعقل جمهوره، ودعوته لاكتشاف النواقص في الحياة عبر الضحك منها.وتقيم المسرحية بينها وبين المتلقي علاقة من طراز جديد؛ صحيح أنها تتبنى روح المسرح البريختي الهادف إلى التغيير والتنوير، لكنها تتجاوز جعل المتلقي سلبيًّا. فالأخير عليه أن يشارك في البحث عن الأجوبة، لكون الأسئلة التي تلقى عليه لا تقدم أي حلول؛ بل تترك له أن يكتشف بذاته تناقضات المجتمع والثقافة. لقد تساءل جيورج هانز غادامير مرة: "تُرى أين ستكون مسرحيةٌ ما إذا لم يسقط "الحائط الرابع"، وينفتح للجمهور؟".لذلك يضع المشهد الثاني صورة المرأة النمطية في الوعي المجتمعي موضع تساؤل، وعبر الصورة والموقف والسخرية من الأفكار التي نتبناها. ما يقوي الصلة مع المتلقي، ويجعله طرفًا في العرض، حيث الفكاهة وسيلة تنوير، ليصبح العرض المسرحي معايشة وتحولًا: من الملاحظة إلى المشاركة.ومن الأسئلة الهامة التي يمكن استنتاجها، والتي طُرحت ضمن فرجة بصرية، وفي عرض أقرب للعب تفاعلت فيها حركة الأجساد مع فلسفة اللون؛ ما يتعلق بشكل المستقبل والهويّة التي تبنى على الانتقام من الماضي، فالروح الثورية للشباب التوّاق للحريّة أدت إلى تدمير كل قيمة، ووصلت إلى طرق مسدودة.لقد مثلت "الذيب في القليب" جوهر الفلسفة التي ترى أنه، وفي بعض الأحيان، لا نكون نحن من يستجوب العمل، بل "العمل هو من يستجوبنا ويلقي علينا سؤاله". وبذلك ينقل لنا المسرح العالم إلى خشبة العرض في نص يتضافر فيه الشكل والمضمون لتأدية رسالة جماليّة، عبر السؤال، وهذا الأخير هو روح أي عمل فني وجوهره.إننا بإزاء نص جمع بين آلام مرحلة مرت بها البلاد، وبين الفكاهة، لمقدرتها على أن تشمل جميع المفارقات، ولعل ميلان كونديرا صاحب "الضحك والنسيان" كان على حق حين رأى "أن الفكاهة هي الوميض الإلهي الذي يكشف عن العالم في غموضه الأخلاقي، وعن الإنسان في قصوره العميق عن الحكم على الآخرين".تجسد "الذيب في القليب" توق الفن إلى تأمل ذاته والسخريّة منها، كما لو كانت آخر، ولم تكن الفكرة الرئيسية للمسرحية وهي سرقة الخزنة سوى حيلة فنيّة تاهت في كثافة مفردات العمل الأخرى والجوهرية.في الفصل الثالث، نشهد العودة إلى البيت الأول والحي القديم الذي لم يزره مطر منذ 30 سنة؛ كدلالة رمزية حول مراجعة الماضي والتصالح معه من دون خوف، أو انتقام، أو انقياد، وعكَست المسرحية في هذا الفصل نظرة بالغة الجدّة للتغيرات المجتمعية والإنسانية؛ وهذا يعكس أهمية المسرح الذي يحمل في راهنيته بعده المستقبلي، وانطلاقًا من أن تأسيس الحاضر على المستقبل لا يتمُّ إلاّ عبر فهم الماضي (فأي قفزة لا تستند إلى فهم الماضي ستكون قفزة في الفراغ)؛ في عرض دخل فيه الممثلون في علاقة نديّة مع المشاهد، اعتمادًا على المتقابلات في الذاكرة الجمعية بتفكيك الأفكار السائدة، والتي تتلخص في الأمثال الشعبية والمتعارف عليها. الفن تحريض على الحياة والمسرح ليس المغامرة، بل هو تمثيل للسؤال الذي تنطوي عليه.كان سؤال المسرح الإغريقي، ومع أريستوفان في مسرحيته "الضفادع"، بحثًا عن الخلاص، بينما سعى المسرح الروماني يومًا لإزالة الحدود بين المسرح والحياة، وبذلك فإن المسرح سؤال يخص المعيش، وينطلق منه.وتسعى مسرحية "الذيب في القليب" إلى إيجاد تقابل وندية بين النص والمتلقي، عبر تفكيك كل فكرة تستلب كيان الإنسان، سواء التشدد متمثلًا بالشاب راشد، أو التحرر والتنصل من الهوية ممثلًا بالابنة والزوجة الغارقة في وسائل التواصل، وهذا لا يتم إلا عبر فتح حوار حقيقي وجدليّ مع الأفكار وبين الذات والآخر، لأن الفن لن يكون فنًّا إذا وضع مسافة بين الإنسان والآخر. ونحن حين "نضم إلينا ذاتيّة الآخر ووحدته، بوصفه عالمًا، فإننا في الوقت نفسه نحقق فهمنا لأنفسنا ذاتها". في هذه المسرحية، يتجه الحوار من المتلقي إلى ذاته، وكأنه ينظر في مرآة ويراقب أفعاله اليومية، لأن أحدنا لو فكر بوضع كاميرا لتأمل أفعاله لن يتوقف عن السؤال: هل هذا أنا؟فأول التغيير هو الشك في نمط الحياة الذي نعيشه، وفي الماضي الذي ننتمي له، وشكل المستقبل الذي نرجوه. والسؤال الذي يُطرح: هل ستشكل "الذيب في القليب"، وتوقيت عرضها، تمهيدًا لانتقال المسرح السعودي من دوره المحلي إلى دور أكبر؟ وستكون نقطة انطلاق وتأسيس لنصوص بوعي نقدي ونوعي، أم ستكون بذرة يتيمة رميت فوق أرض صخرية؟
|