النـص : هناك فرق شاسع وكبير بين رجل الدولة ورجل السلطة من حيث الفكر والرؤية والمنهج والعمل، فرجل الدولة هدفه بناء وتطوير دولته وتحقيق تقدمها على مختلف الأصعدة، وإقامة دولة المؤسسات التي يُحترم فيها القانون، وتُصان فيها الحقوق والحريات، ويُحترم فيها المواطن، ويُوفر له كل سبل الحياة الكريمة، وصولاً إلى إقامة دولة مزدهرة تسودها العدالة، ويُقضى فيها على الفقر والحرمان، فرجل الدولة ينشئ في بلده نهضة إدارية وسياسية وعمرانية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وثقافية، بينما الثاني هو من يكون هدفه السلطة وما تمنحه من امتيازات وأموال ونفوذ وجاه، فهو يفكر دائماً في الانتخابات وكيف يستطيع الفوز من خلالها، لذا لا يتوانى في ممارسة كل الأفعال التي توصله إلى تحقيق هدفه، فالقمع واستخدام القوة تارة، او استخدام وسائل التضليل والمراوغة والكذب، وشراء الذمم واستخدام المال والتعكز على الطائفة أو القومية تارة أخرى هي أدوات رجل السلطة،، فالأول يريد بناء دولته وتحقيق مصالحها، والثاني يريد بناء ذاته وتحقيق مصالحه، والفرق شاسع وكبير جداً بين الأثنين. أقول هذا الكلام وقد لفت انتباهي قبل أيام فيديو يتكلم فيه ولي عهد دبي عن والده حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حينما سألته امرأة عن نسبة ما حقق من رؤيته في مجال البناء والاعمار فقال لها حققنا نسبة 10% وبعد عامين كان في مكان اجتمع فيه الصحفيين مع الشيخ محمد فرأى المرأة ذاتها فعرفها وعرف أنها ستسأله نفس السؤال فضحك، فسألته وقالت له: يا شيخ محمد سألتك قبل فترة عن ما حققته من رؤيتك فقلت 10% الأن كم حققت فقال: 7% فقالت: له وكيف ذاك فقبل سنتين قلت حققنا ما نسبته 10% والأن تقول 7% كيف تتراجع هكذا فقال: أنا كل ما أخطو أو أصل مكان ينفتح لي مكان وأفق أوسع كالذي يصعد الجبل فتكون رؤيته أكثر، وهذا الكلام تجد ثمرته فيما وصلت إليه دولة الإمارات وما حققته على مختلف الأصعدة فاقتصادها من أقوى الاقتصاديات العالمية، حيث واصل اقتصاد الإمارات تحقيق نسب نمو عالية حتى نهاية عام 2023 رغم التقلبات والأزمات التي يشهدها الاقتصاد العالمي، فمن أهم انجازات الإمارات رفع نسبة الناتج المحلي غير النفطي حيث يمثل القطاع غير النفطي أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي للبلد، ولا تزال تحتل الإمارات الصدارة في كونها من أهم الوجهات السياحية التي يرتادها السياح من مختلف دول العالم يكفي أن نعلم أن دبي استقطبت وحدها فقط أكثر من 14 مليون سائح خلال عام 2023، فالبناء والإعمار وتقوية الاقتصاد والوصول به إلى أعلى المستويات كان هدف رجال الحكم في الإمارات ابتداء من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وصولاً إلى حكام الإمارات الحاليين، وهذا هو منهج رجال الدولة في كل الدول التي تقدمت وتطورت مع أنها كانت دول فقيرة ومتخلفة، ومن أمثلة هذه الدولة سنغافورة التي أصبحت من أغنى دول العالم فقد بدأت سنغافورة نهضتها وتقدمها على يد مؤسسها وصانع نهضتها السيد لي كوان يو رئيس الوزراء السابق خلال قيادته لسنغافورة لأكثر من ثلاثة عقود فله ينسب الفضل في الوصول بسنغافورة إلى مصاف الدول الأكثر ثراءً في العالم، فقد استطاعت سنغافورة تحقيق انجازات هائلة على مختلف الأصعدة حتى وصل الدخل السنوي للفرد السنغافوري إلى أكثر من 85 ألف دولار في السنة، وتم انجاز ما يقارب الـ10 آلاف مشروع عملاق، وزاد الدخل القومي بشكل كبير، وتم القضاء على البطالة حتى صارت نسبتها في سنغافورة 1% فقط، وأصبحت سنغافورة من أفضل البلدان من حيث مؤشرات النزاهة ومحاربة الفساد، وفي مجال التعليم تصنف جامعات سنغافورة باستمرار ضمن أفضل الجامعات في العالم، وأصبح الجواز السنغافوري من أقوى الجوازات في العالم، ومن رجال الدولة التي كان لهم دور كبير في تقدم دولهم مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق حيث أعطى مهاتير الأولوية للتعليم والبحث العلمي في أجندته الحكومية فخصص له ميزانية كبيرة وأهتم بمحو الأمية وتعلم اللغات، واستطاع تحويل ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على انتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة حتى وصل حجم الصادرات إلى مئات المليارات وبات قطاعا الصناعة والخدمات يساهمان بقرابة أكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي، هذه نماذج من رجال الدولة الذين لديهم رؤية ومشروع وبرنامج وهدف يسعون لتحقيقه لا همهم الوصول إلى السلطة والحصول على امتيازاتها كما ما هو عليه حال الكثير من رجال الحكم في العراق فهم بحق رجال سلطة يعملون لتحقيق مصالحهم الشخصية والحزبية أما مصلحة بلدهم وشعبهم فهو أخر ما يخطر على بالهم، وهذا الكلام هو حقيقة ماثلة للعيان يعرفها القاصي والداني، فالبلد يغرق في الفساد، فالمراكز والمناصب تُباع وتُشترى بملايين الدولارات وهذه الملايين من الدولارات تعود لدافعها أضعافاً مضاعفة من خلال الصفقات والعقود والعمولات على المشروعات التي تبرم عقودها الوزارات والمؤسسات، فالفساد في العراق لا يحتاج لكشف حجمه ومعدلاته تقارير المنظمات الدولية، فنقص امدادات الكهرباء والماء، والبنى التحتية المتهالكة، والواقع الصحي المتردي، والمدارس المزدوجة الدوام وغيرها رغم انفاق المليارات كما يصرح المسؤولون على مشاريع الكهرباء والماء والصحة والتربية والتعليم تكشف حجم الفساد المستشري، فأموال البلد وثرواته سُرقت ونُهبت، والفقر والحرمان والعوز زاد بشكل كبير بين بين مجموع مواطني البلد، فالبطالة تزداد سنة بعد سنة بين صفوف الشباب، نتيجة ما تخرجه الجامعات الحكومية والأهلية من جيوش من الخريجين سنوياً والتي لا يستطيع قطعاً القطاع الحكومي تشغليهم جميعاً في ظل قطاع خاص مغيب أو مهمش رغم الحكومات المتعاقبة التي لم تنجح منذ 2003 ولحد الآن أن تضعه على السكة الصحيحة لكي يساهم في تقدم البلد وتحقيق التنمية فيه، وتشغيل الشباب العاطلين عن العمل، فالبطالة في ازدياد مستمر بسبب الاعتماد على النفط الذي يشكل أكثر من 90% من الدخل القومي مقابل مصانع متوقفة، وزراعة متدهورة نتيجة الجفاف وقلة المياه، واعتماد الدولة على الاستيراد الخارجي بشكل أساسي، لهذا صار الفساد في العراق يعد عنصراً أساسياً من بنية النظام السياسي وأحزاب السلطة، فلا وجود لمؤسسات حكومية رصينة، أما شعار محاربة الفساد فهو مجرد شعار للاستهلاك المحلي فلا يمكن القضاء على الفساد؛ لأن الفساد مشرعن ومحمي من أحزاب السلطة وجهات متنفذة تمنع الجهات الرقابية من الوصول إلى الفاسدين ومحاسبتهم، لذا فالفساد باق ومعشش في مختلف مفاصل الدولة بسبب وجود رجال سلطة لا رجال دولة، فالفرق إذن كبير بين رجل الدولة ورجل السلطة وهذا الفرق ينعكس أثره على حياة الدول والشعوب ومستقبلها.
|