الجمعة 2024/7/5 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 31.95 مئويـة
البناء النصي للأفكار والعوالم في رواية سفرة سياحية لـ (طه الشبيب)
البناء النصي للأفكار والعوالم في رواية سفرة سياحية لـ (طه الشبيب)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

رنا صباح خليل

تقدم رواية سفرة سياحية للروائي طه حامد الشبيب مادة حكائية وثقافية تستند إلى مرجعيات مختلفة، سواء تلك الخاصة بالواقع المجتمعي والسياسي للبلد، أو تلك المتعلقة بالجانب الغرائبي في تناول الافكار والرؤى، وقد تم التمثيل السردي لها بما تطرحه الرواية من ثيمات معاصرة مقترنة بجماليات الكتابة الروائية التي أخلص لها الكاتب باقتدار لافت، دون أن يسقط في التسجيلية الحكائية لفترة زمنية محددة من التاريخ فهو يتجرد من بنيتي الزمان والمكان في اشتغاله بغية تكوين فضاء تخييليا واسعا وحاضنا لأصوله من دون شروط، يتشكل بشكل دينامي ويتحرك في معتقدات السارد وشخصياته على حد سواء، وذلك من خلال تأسيس السرد على حكاية غرائبية خارجة على المألوف اليومي في مجملها أي ـ تخليقها ـ فهي ليست جاهزة مستقاة من ارض الواقع المعيش، وليست لها صلة بما نشعر وجوده سوى في مرجعيتها الثقافية التي ندركها ولا نوقن مرحلتها الفكرية وهو بذلك يقوم  بالعمل على ترك فسحة لمتلقي الحكاية أن يعيدها إلى منطق وقعنة سحريتها من خلال احداثها اليومية بدلالة المبنى الفكري الذي تعتمد عليه، وبذلك نجح الروائي في تقديم عمل تغييري ينطلق من وعيه ومن مفهومه الجديد في تنشئة الرواية بمعنى أنه يقوم بإحداث تغيير شامل في بنية الرواية من حيث لغة التأليف والصياغة والفكرة والتصوير .

سياحة مع عنوان الرواية وفكرتها 

في نظرة فاحصة نتساءل لماذا سفرة سياحية، وبمحاولة ادراك مدلولات العنوان بوصفه المدخل الاساس إلى العمل نكتشف أن الروائي كان مبدعا في الفكرة التي انطلق منها لبناء نصه الروائي مما يوضح أن العنوان عنده لا يعمل في منطقة الفراغ، لما يحمله من دلالات وأبعاد مختلفة ولارتباطه ارتباطا وثيقا بالنص بل هو البؤرة المركزية الذي يربط داخل النص بخارجه، وله مدلوله في السياق المتمظهر في شكله المادي. وبما أن الرواية هي الفن الأقدر من غيره على تصوير المجتمعات البشرية، والإحاطة بما تعاني من مشاكل وهموم، وما يعتورها من تحولات وتغيرات، فإن طه حامد الشبيب في رواية "سفرة سياحية" حاول أن ينقلنا بحرفية عالية إلى أجواء الخراب والدمار والتشتت واللا مسؤولية، والمفارقة ان السفرة هنا ليست للمتعة وليست سياحية ايضا، وما كان تضاد المعنى الا لغاية تنتظمها العلاقات بين مكونات مجتمع الرواية وهي علاقات بنيت على شبكة من علامات التكامل والتعارض والتوازي؛ وهي أوضاع من العلاقات يستحيل فهمها بكيفية ملائمة مالم يدرجها القارئ ضمن المعنى العام الذي يراه مناسبا للرواية، على أن القارئ ملزم كذلك بالحذر من بعض الأساليب المستخدمة لتحريف انتباهه وتعتيم رؤيته لعالم المعنى في الرواية. ومن الموائم وضع كل ذلك ضمن شبكة تامة ومنسجمة من العلاقات، ولا شك أن القيام بوصف شكلي أو شكلاني لا يمكن أن يؤدي الغرض المطلوب، لذلك فمن المناسب تماما النظر في شبكة علاقات رواية سفرة سياحية ضمن التصور العام الذي انطلقت منه هذه القراءة. واعتبارا لعلاقات التكامل والتوازي والتعارض بين الشخصيات في الإمكان التشديد على أن القارئ معني أساسا بتركيز الانتباه على شخصيتي المرأة زوجة عضو المجلس الاعلى الذي هو صديق من يتولى الحكم في ذلك البلد لحين بدء احداث الرواية التي نشأت منذ سقوطه، والشخصية الثانية عشيقها الذي كانت في شقته لحظة السقوط وانهيار المبنى الذي يقطنان فيه مع انهيار جميع البنى والمشيدات في ذلك البلد، وبالتركيز على الشخصيتين نجد انهما شكلا محور البناء الروائي وناظما العلاقات بين مكونات مجتمع الرواية، ولأنهما يمثلان أدوارا متعددة في ادارة دفة الروي من استذكار ومنولوج وروي متشعب يتخلل الزمن من دون تحديد مرحلته، ويمتد ليستكمل الاحداث التي تنأى بنا إلى الفعل الغرائبي بعدما تبدأ تلك الزوجة بقصها واستذكارها لعشيقها ما قصه عليها زوجها من أمر غريب حدث مع صاحبهم الذي سيكون رئيسهم لاحقا بعد سنين من اتفاقيته مع الجان ويبدأ قص الزوج لزوجته منذ بدء رحلتهما نحو عوالم غيبية يقطنها الجان لتكون تلك الرحلة سفرتهما السياحية التي لها دلالتها الحقيقية في هذا الموضع، ومن ثم لو اعملنا الذهن بخصوصية معينة ندرك أن ما وراء العنوان يشي بفكرة مفادها أن من يتولى حكما سياسيا يعد نفسه كمن يتمتع بنزهة لا يغريه فيها سوى المنافع والمصلحة الشخصية على حساب من يتولى امرهم وتتيقن تلك الفكرة عندما تتم المصاهرة بين رئيس المجلس الاعلى مع الجان ويكون ذلك الزوج للمرأة العشيقة شاهدا على ذلك الزواج وتتم المصاهرة مع العالم الآخر في اتفاقية وعقدٍ يبرم ما بين الطرفين يضمن لذلك الصديق ـ زوج المرأة الجنية ـ  تولي امر البلاد بصغائرها وكبائرها شريطة التزاوج مع نسائهم وهو ما يؤدي في النهاية إلى الاقتتال بين طرفي حكم  لبلدين من الانس واتباعهما من الجان، مع التأكيد على ان حاكم البلد الآخر مصاهرا للجان ايضا ولكن طمعه الشخصي جعله يجر بلاده للحرب بسبب افتتانه بزوجة رئيس البلد الذي تقص حكايته تلك المرأة، وفي ذلك اشارة واضحة إلى أن الفضاء الاجتماعي ذا الواجهة اللامعة بعناوين التقدم والحداثة يضمر غابة موحشة تسود فيها ثقافة الخرافة وتحرك كائناتها غرائز بدائية وهواجس دفينة تطلب الإشباع والسلوى بأي ثمن .

تقنيات تكتنف الروي

لقد تمكن طه حامد الشبيب من بناء نموذج سردي، له جمالياته الخاصة من خلال شخصيتي الروي الأساسية التي تبنت جانبا مهما من معمارية السرد وعملت على خلخلة التسلسل المنطقي للروي عن طريق الانتقالات السردية المتمثلة بالتجوال المتنقل بين واقعين يجري الربط بينهما عن طريق تناظر مجموعة من الأحداث المتباينة في منطقها وفي فعلها الغرائبي، ويتم في هذه الانتقالات تناول أحداث معينة تخص معاناة الرجل وهو الراوي المشارك والفاعل على مدار الروي مع المرأة زوجة عضو المجلس الأعلى الملاحقة من قبل الفئات والاحزاب التي تولت امر البلد بعد سقوط رئيسه الذي هو صديق زوجها قبل أن يكون حاكما بعدة سنين،  وكشف حيثيات هروبهما المتواصل في اماكن خربة مهدمة يتم وصفها بدقة ووصف حيوات الناس بعد تحول مصيرهم ومآلاتهم إلى السكن في الشوارع  من جهة اخرى، واستذكار فعل المصاهرة الغرائبي وبوادر نشوء الحرب بي الطرفين  وهو أسلوب السرد الما بعد حداثي الذي يضفي إلى تأرجح النص ما بين قطبي الماضي والحاضر ليخلق مزيجاً نصياً ملغماً بعلامات الاستفهام المستقاة من المتخيل السردي الماضي بأفكاره وأحداثه وطبيعة العلائقية بينه وبين ما يحدث في الحاضر مستثمراً انطلاقة ايديولوجية نحو امتصاص المدونات المكتوبة بآلية كفيلة بإجراء سردية روائية مغايرة، أما اولى الاشارات التقنية في الرواية فكانت تصلنا على لسان احد شخوص الروي من خلال عبارة تتكرر وهي (لا تذكر اسماء) في كل مناسبة لبدء حديث ما بين زوجة صديق رئيس المجلس الأعلى  وعشيقها، وفي ذلك دلالات كثيرة ومهمة مفادها عدم الاقرار بمنطقية عالم الروي برمته وعدم تسويغه؛ ذلك أن للأسماء مكانة توازي فعل الشخصية فهي تحمل نظاما متكاملا من الدوافع والاستعدادات الفطرية والمكتسبة والثابتة نسبيا وهو بمثابة علامة لصيقة بالشخصية تميز الشخوص فردا فردا وهي دال قار في الهوية الشخصية التي غالبا ما تحدد سلوكياتها الداخلية والخارجية التي ولدت عليها او اكتسبتها من وسط بيئي واجتماعي يحدد اختيارها وفعلها، اما قصدية عدم ذكرها في جانب من الروي ففيه دعوى لإقصاء الوجود وهذا ما نجده فعلا  فيما يخص رئيس المجلس الأعلى المتولي امر البلاد قبل سقوطه واختفائه المفاجئ، إذ لم يكن له دور فاعل ومؤثر ولم يظهر بصورة راسخة الا حين يتحول السرد إلى الجانب الآخر  وهو الغرائبي وفي ذلك اشارة إلى إن لهذا العالم الزعامة الحقيقية في الروي بدلالة اسماء شخصياته التي تكتنف عالم الجان وتظهر فيه  شاخصة وكأن هذا العالم اصبح بديلا عن العالم الواقعي بخرافته واسراره فنجد مسمياته التي تليق به متبنية خط سيره ومن ذلك (طيكل الكبير، مازر العذب، دنهش الحكيم، ميمون الأحمر، شمهورش، ابانوخ، ابن سليط ..)  ذلك أن هذه الشخصيات في الرواية تمتعت بالأفعال المنتجة للأحداث فنيا وأدبيا وكانت عنصرا مهما في الواقع الخرافي وفي الطبيعة الروائية و"تسمى ايضا الطريقة التحليلية وفيها يرسم الكاتب شخصياته من الخارج يشرح عواطفها، وبواعثها وافكارها واحاسيسها، ويعقب على بعض تصرفاتها ويفسر البعض الاخر وكثيرا ما يعطينا رأيه فيها صريحا دون ما التواء"(1) .

وهنا "نعتمد على الوصف الخارجي للشخصية وتحليل عواطفها ودوافعها وافكارها، والمؤلف غالبا ما يصدر احكاما كثيرة عليها، وهذه الطريقة لا تحتاج إلى جهد من القارئ لكشفها لأنها تقدم جاهزة"(2)  .

وعليه فإن في هذه الطريقة يتولى الكاتب شرح وتحليل فعل الشخصية وطريقة سلوكها ويعطي رأيه فيها. وتسمى هذه الطريقة بالأخبار وترتبط بالوصف وهو ما قامت به زوجة عضو المجلس الأعلى وهي تهمس لعشيقها فتخبره عما جرى من حوارات ما بين صديقه الذي كان يكنيه بـ ـ صاحبنا ـ وهي لفظة متعارف عليها على المستوى الشعبي في المجتمع العراقي عندما كانوا لا يريدون أن يذكروا اسم الطاغية في حديثهم تخوفا،  ويتم ذلك في تناوب مع شخصيات العالم الآخر  فتقدم شخصياته تقديما مباشرا وتفرض على القارئ فرضا بحيث يحرم من متعة الاكتشاف المتدرج لها وترتبط هذه الطريقة بالراوي العليم ولذلك في بعض الاحيان يخبرنا ذلك العشيق وهو الراوي المشارك  انه كان يرى كابوسا ويتحدث عنه في طريقة منه لإيهام القارئ أن كل ما يمر به ما هو الا وهم وفي نهاية الرواية نستدل على ذلك وحينها ندرك انه حتى شخصية زوجة عضو المجلس الأعلى لم تكن الا وهما .

معنى ذلك أن الطريقة تتعلق بالوصف، اما من طرف الراوي المشارك الذي يعمد إلى تبيان صفات شخصياته على لسان عشيقته أو وصفه لها عن طريق ما يراه في كابوسه وبالتالي يجد القارئ اوصاف تلك الشخصية جاهزة فلا يمكن له أن يكشف اوصافا جديدة لها من خلال قراءته للرواية ومن ذلك ما جاء في الرواية :

" وحقيقة حقيقةً لا هو ولا صاحبهم يدريان كيف استدامت الحرب بعد فشل مهمة هؤلاء . عذوبة مازر وصوته الرطيب المترع خشوعاً، وخلاصة حكمة دهش الى آخر نفحة فيها، وصرامة ميمون الأحمر المخيف وأقسى بطشه الذي يُحس بوَقْعِه ولا يُرى من وراءه .. كل ذلك لم يكن ليجدي فتيلاً مع ثبات مقاتلي صهرهم الأول على موقفهم. مازر المتجلي للمجاميع التي يهبط وسطها، على طول ذلك البلد وعرضه، يُذكرهم بأنه هو ذاته الذي هبط عليهم من السماء قبل شهور وشهور .. يُذكرهم بقيمة نصائحه لهم آنذاك، فلولا نصائحه تلك لكان جيش (عدوهم) الآن لا يزال يحاصر مدنهم وقصباتهم. كما يذكرهم بما ينتظر من يجحد منهم نصائحه. وأثناء تذكيره إياهم بهذا وذاك، ينتقي الأحمر المخيف منهم أي مغمغم فينال منه وهو مستتر عنه. وعلى الرغم من ذلك لا يتزحزحون عن موقفهم قيد أنملة جميعهم لا يفتأون يُحسبون على المقاتلين؛ بيد أنهم موشكون في أية دقيقة على إلقاء أسلحتهم والعودة الى بيوتهم. يرتفع جسم الواحد منهم عن الأرض، ذلك المغمغم قريباً من الناصح الهابط من السماء عليهم ... يرتفع جسم هذا، ولا أحد يميز كيف يرتفع ثم ينرشق في الأرض، ومنهم مَنْ يُدق عنقه .. مع ذلك لا يتزحزحون عن موقفهم بعدم مواصلة القتال طالما أن (عدوهم) منسحب الى حدود بلده"(3) .

المشـاهدات 32   تاريخ الإضافـة 02/07/2024   رقم المحتوى 48752
أضف تقييـم