الأحد 2024/9/8 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 26.95 مئويـة
نيوز بار
الحسين(ع) يستقبل الموت بعزة وشموخ
الحسين(ع) يستقبل الموت بعزة وشموخ
كتاب الدستور
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب د. حسين الزيادي
النـص :

تَرك الإمام الحسين عليه السلام إرثاً عظيماً لم يتركه أحد، تَرك مدرسة للبطولة والإباء وسفراً خالداً من الشجاعة والأقدام والتضحية والفداء والبطولة والإيثار، وأهدى البشرية فكراً وهاجاً وعطاءً متقداً، وغمرها نوراً وحياة، فأينعت به الضمائر الحية والنفوس الكريمة واخضرّت به القلوب المؤمنة التي ايقنت ان الشهادة طريق المجد والرضوان، فكان بحق مدرسة الأجيال الكبرى التي تفيض بالخير والعطاء على الناس جميعا على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم، وتعمل على تهذيب الضمائر، وتنمية الوعي، لأنها أطار لأسمى معاني الكرامة الإنسانية، وستبقى حية وخالدة إلى ما شاء الله، لأنها كانت خالصة لوجهه تعالى، لا يشوبها طمع او رياء، فالإمام لم ينشد في ثورته الخالدة أي مطمع سياسي أو نفع مادي، وإنما أستهدف المصالح العليا للأمة، وعنى بأمر الناس جميعا ليوفر لهم العدل السياسي والعدل الاجتماعي. كان عليه السلام في ساحة المعركة رابط الجأش، ثابت الجنان،  قوي الشكيمة، مقدام في الوغى، بطل صنديد في النزال، شجاع في الحرب ثابت مغوار، قوي البأس، لا يبالي بالموت ولا يهابه، حتى أقرّ بشجاعته وبسالته النادرة القريب والبعيد، والصديق والعدو، وقد أصبح محل إعجاب وفخر لكل الأجيال والأحرار في العالم ، كلما اشتدَّ عليه الأمر وأقترب من الموت سكنت نفسهُ وهدأت جوارحهُ وأشرقَ لونهُ نوراً وبهاءً، وإلى ذلك أشار بعض الرواة  في وصفهم للإمام الحسين وهو في لحظاته الاخيرة: وَاللَّهِ ما رَأَيتُ مَكثوراً قَطُّ، قَد قُتِلَ وُلدُهُ، وأهلُ بَيتِهِ وأصحابُهُ، أربَطَ جأشاً مِنه ولا أمضى جنانا ، وإنَّ الرِّجالَ كانَت لَتَشُدُّ عَلَيهِ فَيَشُدُّ عَلَيها بِسَيفِهِ، فَتَنكَشِفُ عَنهُ انكِشافَ المِعزى إذا شَدَّ فيهَا الذِّئبُ، ولَقَد كانَ يَحمِلُ فيهِم وقَد تَكَمَّلوا ثَلاثينَ ألفاً، فَيُهزَمونَ بَينَ يَدَيهِ كَأَنَّهُمُ الجَرادُ المُنتَشِرُ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى مَركَزِهِ وهُوَ يَقولُ: لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظيمِ، فالموت في نظر الحسين (ع) إحياء للدين ومشروع استنهاض للأمة، فكانت كربلاء بحق صور ذلك الإحياء والاستنفار واليقظة، والموت بالنسبة لسيد شباب أهل الجنة سبيلاً للحياة الابدية،  وهو القائل في مكة حين عزم على بدء الإعلان عن ثورته والمسير إلى العراق: لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً.خاطب الحسين عليه السلام اصحابه يوم كربلاء قائلاً : صبراً بني الكرام، فما الموت إلاَّ قنطرة يعبر بكم عن البؤس والضّرار إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلاَّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، نعم هكذا كانت الدنيا في نظر الإمام الحسين.نظر عليه السلام إلی الجيش الزاحف نحوه على ملأ البصر، تأمله طويلاً ونفسه مطمئنة بذکر الله تعالى، هانت عليه دنيا الباطل وتصاغر الجيش أمامه، فلم ترهبهُ کثرتهم وتدافع سيوفهم ورماحهم نحوه ، لأنه سلام الله عليه تجرد لله، وخرج في سبيل الله، وتنازل عن كل شيء لنيل مرضاة الله، محامياً عن رسالة جده المصطفى ، فأتجه نحو ربه رافعاً يد الضراعة والابتهال مناجياً أياه : اللهم أنت ثقتي في کل کرب، وانت رجائي في کل شدة، وانت لي في کل امر نزل بي ثقة وعدة، کم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو انزلته بك وشکوتهُ اليك رغبة مني اليك عمن سواك ففرجته وكشفته، فانت ولي کل نعمة وصاحب کل نجوى ومنتهی کل رغبة.كان مقرراً لواقعة  الطف ان تبدأ عصر يوم التاسع من محرم، إذ زحف عمر بن سعد نحو خيام الحسين(عليه السلام) بعد العصر ونادى في جيشه: يا خيل الله اركبي وأبشري، فطلب منهم الحسين أن يُمهلوه سواد هذه الليلة، وقد انقسم القوم بين معارض ومؤيد، وبعد شد وجذب تم التأجيل، ولم يکن طلب الحسين عليه السلام تأجيل المنازلة إلی الغد لغرض التفكر وحساب الموقف، فهو عليه السلام حزم موقفه، والامر بانت ملامحه، وبدا کل شيء أمامه واضحا جلياَ، كما اخبرهُ جدهُ وابوهُ، إنما أراد الإمام أن يقسم هذه الليلة الى أقسام عدة، فهي ليلته الاخيرة من الدنيا، فلتكن ليلة عبادة ودعاء ووداع ووصية، وهو العارف بما ما يخبئه الغد، كما أدرك الحسين بنظرته الثاقبة أن المعركة في وضح النهار سيكون أثرها الإعلامي أشد وأقوى، واراد الحسين ان تكون هذه الليلة ليلة اختبار وامتحان لاصحابه ومن معه، وأن يعد خطته العسكرية لمواجهة هذا السيل الجارف من العسكر المدجج بأنواع الاسلحة. أرخى الليل سدوله وهدأت أصوات الأنام وسكنت الجفون، إلا فتية من آل محمد، باتوا ليلتهم بين داع ومصل ومستغفر وتال للقرآن، باتوا ولهم دوي كدوي النحل استعداد للقاء الله سبحانه، فيومهم الأخير سيكون شاقاً، طويلاً بأحداثه، طافحاً بأحزانه وأتراحه، وسيبقى سيد الشهداء وحيداً يستنصر فلا يُنصر، ويستغيث فلا يُغاث، وسيُعانق ثرى كربلاء بإغماضته الأخيرة، غداً يبدأ شلال الدم النبوي الطاهر يلامس ثرى کربلاء، لكن قبل هذا ستكون فواجع ورزايا، عبر عنها المستشرق البريطاني السير آرثور ولستون حينما قال: (لم يشهد العالم قط رجلاً هالت عليه المصائب والآلام من العطش والجوع وعدم الاستقرار، ومع هذا فقد قاومَ وواجه هذا الكم الهائل من الأعداء في تلك الصحراء العربية ذات الحرارة الشديدة).نعم ، انها ليلة تاريخية قاسية، لا يحتملها إنسان مهما أوتي من رباطة الجأش،  لكن ربيب النبوة وسليل الدوحة الهاشمية لم ينشغل عمّا يهمّ أمر دينه ودنياه، وحاشاه أن يرتبك وهو أبن علي عليه السلام، لذلك قسّم ليلتهُ تلك إلى ثلاثة أقسام :القسم الأول أجتمع فيه مع اصحابه وخبرهم وخيرهم بالرحيل ورفع البيعة عنهم خاطباً فيهم : أما بعد فإنّي لا أعلمُ أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبرَّ ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكُم الله عنّي جميعاً خيراً ، ألا وإنّي أظنُ يَومنا من هؤلاءِ الأعداء غداً إلّا وإنّي قد أذنتُ لكم ، فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم حَرجٌ منّي ولا ذمام، وهذا الّليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جَمَلاً ، وليأخُذ كلُ رجلٍ منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سَوادِكم ومدائنكم حتّى يُفرجَ الله ، فإنَّ القومَ إنما يطلبونني ولو قد أصابوني لَهوا عن طلب غيري، فقال له اخوته و أبناؤه و أبناء عبد الله بن جعفر: و لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا، وقال بعض اصحابه : والله لا نخليك حتى يعلم الله أن قد حفظنا غيبة رسول الله فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى في الهواء، ويفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك.أما القسم الثاني من اعمال هذه الليلة فقد خصصه الإمام الحسين عليه السلام للتخطيط العسكري فقد أمر أصحابه ان يقرّبوا بيوتهم بعضها من بعض، وأن يدخلوا أطناب الخيام بعضها في بعض حتّى يحتوي معسكره على أقل مساحة ممكنة من الأرض ثمّ أمرهم بأن يحفروا خندقاً حول الخيام، وفي كلّ أطراف المعسكر، ما عدا طرف واحد وهو طرف المواجهة، ثمّ أمر أن يملؤوهُ بالقصب والحطب حتّى يكون جاهزاً عند الصباح لإضرام النار فيه، فيكون بذلك خطّاً دفاعيّاً لهم ، يقيهم من هجوم الأعداء من كلّ الجوانب، ويحفظهم من محاصرة القوم لهم من كلّ الأطراف، وليكون دفاعهم عن أنفسهم على جبهة واحدة، ومن طرف واحد وقد أفصح الإمام الحسين عن وعي عسكري وعبقرية فذه، فقد جعل الخيام على شكل قوس والمواجهة من جانب واحد  .أما القسم الثالث من أعمال الليلة الأخيرة فكانت مخصصة للعبادة والتوجّه إلى الله تعالى، بالصلاة  وبتلاوة القرآن ، وبالدعاء والاستغفار، وأقتدى به كلّ أصحابه وأهل بيته، وفي طليعة أصحابه وأهل بيته أخوه العبد الصالح المطيع لله ولرسوله أبو الفضل العبّاس (عليه السّلام) ، فإنّه إلى جانب حراسته كان قد شارك الأصحاب في ابتهالهم إلى الله تعالى، فقاموا يصلّون، ويتلون القرآن، ويدعون ويستغفرون حتى كان لهم على أثر ذلك دويّ كدويّ النحل حسب تعبير من شهد المعركة ، وهكذا حفلت تلك الليلة بالكثير من الأجواء الايمانية الراقية في حالة من الخشوع والخضوع والعبودية التامة لله والتسليم المطلق له والرضا بقضائه.غداً سيعانق الحسين عليه السلام صعيد الطف، ممدداً عارياً علی بطحاء کربلاء، وسيجري شريان الدم النبوي، ولكن هل يكتفي الاعداء بذلك، هل تهدأ روح الكراهية عند هذا الحد، الجواب عند الحسين عندما طلب من اخته عقيلة بني هاشم:  أبغوا لي  ثوباً لا يرغبُ فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه، لأنه عليه السلام يعلم أنه مقتول مسلوب، لكن هل خفت روح الحقد والوحشية التي ملأت جوانح الطغاة، الجواب كلا، لم يكتفوا بذلك الصنيع ولم تستفرغ احقادهم في حدود هذا الموقف، بل راحوا لاحتزاز الراس الطاهر، ورفعوه فوق رمح طويل لتخبو نفوسهم المريضة وتستقر نوازع الجاهلية في دواخلهم، لكن هل خبت عند هذا الحد نفوسهم، الجواب كلا، فمازالت في انفسهم أحقاد تستعر، فأنتدبوا عشراً من الخيول الاعوجية لتطأ الجسد المقدس.  . أستشهد الامام الحسين عليه السلام وانتهى جسداً وقطع غصن النبوة، وأُحتز الراس الذي طالما سجد مخلصاً لله ، لكن الحسين ولدّ قضية ومبدأ ورسالة وبقيّ موجودٌ مخلّد، لان ثورته هي ثورة الإنسان الباحث عن النور والحرية والعدالة، وكلماته شاهدة على ذلك: أيها الناس إني سمعت جدي رسول الله يقول: من رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحُرم الله، ناكثاً بعَهدِه، وفي رواية بيعته، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يُغيّر ما عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه، استشهد وريث النبوة وامتداد الرسالة وثمة صدى يردد في افق الشهادة وبقايا الجسد الشريف (لا اعطيکم بيدي اعطاء الذليل ولا اقر اقرار العبيد).

المشـاهدات 172   تاريخ الإضافـة 16/07/2024   رقم المحتوى 49574
أضف تقييـم