الأحد 2024/9/8 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 28.95 مئويـة
نيوز بار
رحلة في عباب الإبداع
رحلة في عباب الإبداع
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

صباح بشير:

الجزء  الثالث

 

أمّا الـقصّة المعنونة بسرب ضجيج (ص53) فتروي حكاية شابّة تعاني من التّشتّت النّفسيّ وتركّز على أهميّة الحبّ.

تستخدم الكاتبة في هذه القصّة أسلوبا سرديّا متدفّقا، يجمع بين الواقعيّة والخيال، وذلك بلغة شعريّة أنيقة، مليئة بالصّور الرّمزيّة والاستعارات. كما تعتمد على السّرد الدّاخليّ في كشف أفكار البطلة ومشاعرها للقارئ.

القصّة التّاسعة "بعد أن كَبُرَ الموج"، تحمل عنوان المجموعة بذكاء، وتصوّر صراعا داخليّا لفتاة عاشقة للقراءة والكتابة، وتحت الفراش بعيدا عن الأعين، تخبّئ ما خطّته من أفكار وخيالات وشغف، على أوراق تمثّل ملاذها الوحيد من قسوة الواقع.

 لكنّ السرّ لا يطول، إذ تنكشف خباياه أمام والدتها التي تحاول قمعها؛ لتغدو الفتاة أسيرة حبّها للقراءة والكتابة، مجسّدة بذلك صراع الأجيال والقمع في بيئة لا تقدّر قيمة الإبداع، ولا تتيح مساحة للتّعبير عن الذّات، ولا تتفهّم طموحات الأفراد ولا تشجّعهم على التقدّم.

هذه القصّة ثريّة بالمعنى، تمكّن القارئ من التّماهي مع مشاعر البطلة وأفكارها، وتثير نقاشا حول حريّة التّعبير واحترام الخصوصيّة.

النّصّ العاشر بعنوان "لوّم" (ص64) وهو ليس قصّة بالمعنى التقليديّ، بقدر ما هو نصّ نثريّ مؤثّر، يظهر الألم الَّذي تعيشه أمّ جرّاء فقدان ابنها، فتعبّر الكاتبة عن مشاعر الأمومة الصّادقة والفقد والحزن، وتصف الظّلم والقهر والعنف وفقدان الأحبّة،  وتدعو إِلى التّضامن مع الأمّهات الثَّكلى في كلّ مكان.

تتميّز لغة النصّ بجمالها وصورها الشّعريّة وتعابيرها الحزينة، كما يضفي الاقتباس من أشعار سميح القاسم في نهاية السّطور عمقا ومسحة من التراجيديّا.

في قصّة "ذاكرة العسل المرّ" (ص68)، تخلق الكاتبة أجواء حالمة تثير الأحاسيس، حين تجسّد حكاية ستيفانوس وكارمن، في ظلّ مأساة إنسانيّة، ليجد كلّ منهما في الآخر ملجأ من آلامه وأحزانه، بعد أن عانيا من ويلات الحرب وفقدان الأحبّة.

أمّا قصّة "نقرات الكعب العالي" (72ص)، فتصف حالة الحزن التي تخيّم على شاب يرى في الخيال مهربا من واقعه القاتم.  تحلّق خيالاته وهو يتأمّل بشغف جمال شابّة يراها فتاة أحلامه، لكنّ القدر يتدخّل وتأخذ الأحداث منعطفا مأساويّا مفاجئا، حيث تصاب الشابّة بحادث مروّع، يطفئ شمعة حبّه وآماله وأحلامه.

وعند الحديث عن النّصّ المعنوّن بمنفضة (ص77)، فهو صورة قلميّة قصيرة ومكثّفة، تغوص بالقارئ في رحلة سرياليّة عبر دهاليز الذّاكرة والصّور المبهمة التي تثير الغموض وتحفّز على التأمّل.

يعتمد هذا النّصّ على الإِيحاء برموزه المنبثقة من العبارات الحسّيّة، التي تترك للمتلقّي مجالا للتصوّر والتخيّل لإكمال الدّلالات الرمزيّة كما يوحي بها، حيث تصبح المنفضة رمزا للأحلام والذّكريات التي تضمحلّ مع الوقت.

قصّة "رهان" (ص78) هي حكاية امرأة تنجذب إلى رجل غريب الأطوار يثير فضولها، وفي النّهاية يتحوّل هذا الانجذاب إلى ريبة وشكّ، ما يدفعها إلى الهرب.  

لا يقدّم هذا النصّ تفسيرا واضحا لتصرّفات الرّجل أو لمشاعر المرأة، ما يترك الأمر مفتوحا للتأويل.

في نصّ طائر النّفايات (ص 83)، تحيك الكاتبة من الكلمات طائرا نادرا، مستهلّة سردها بكلمات الأديب حيدر حيدرِ، الَّتي تحمل معنى رمزيّا مجازيّا يتجاوز المعنى الظّاهريّ.

تتابع في نقد الواقع القاتم، فتشير إِلى عدم إيمانها بإمكانيّة التغيير أو الأمل، وتترك المعنى مفتوحا.

 تتحدّث عن هذا الطّائر الغامض وتعرّف بأنواعه المختلفة، موظّفة لغة بيّنة مليئة بالرّمزيّة والصور الحيّة، لتضفِي على النّصّ تأثيرا عاطفيّا قويّا زاخرا بالإيحاءات والاشارات المُلَمّعة بالغموض، فتدفع إلى التّساؤل:

من هو طائر النّفايات هذا؟ هل هو ظاهرة متفشيّة؟ أم سلوك اجتماعيّ سلبيّ؟ أم رسم لواقع ديستوبيّ؟

في قصّة "دون خيار" (ص88)، تضعنا الكاتبة في مشهد يثير ألوانا من الحزن واللّوعة. تكتب عن صراعها مع المرض، وعن مشاعرها جرّاء الفقد؛ لتغدو الكلمات رثاء ووجدا، وتضيف إلى النصّ عمقا من خلال دمج بعض أَبيات الشّعر، الَّتي تعزّز من مشاعر الألم. وممّا كتبت:

تَلَوَّنَت الأقاحِي بِالشَّحُوبِ .. فَنُوحِي يَا مَدَامِعَ أو فَتُوبِي

أَيَغفُو العُمرُ بَعدَ فِرَاقِ نَهرٍ .. وَتَلتَئِمُ الثَّوَانِي مِن نَدُوبِي

وكأنّ الشّاعرة هنا، تعكس المشاعر المجروحة التي لم تلتئم، فالوقت برأيها لن يداوي الجراح، ولن يوقف الدّموع بعد الفقد.

تتساءل عن إمكانيّة الحياة بعد رحيل من وصفته بنهر الوجود ومصدر الحياة، تقوم بتوظيف الصّور الطبيعيّة المعبّرة، وتشير بالأقاحي إلى الزّهور التي أصابها الشحوب والذبول؛ لِتُرمِّز بذلك إلى شدّة الحزن بعد الفقد.

ثمّ تجمع شتات روحها فوق سرير أبيض داخل جدران المستشفى (ص94)، فتبوح عن مشاعرها المتضاربة بين الألم، والأمل بالشّفاء، ليغدو السّرير الأبيض مسرحا لصراع مؤلم مع المرض ومشاعر الفقد، وتغدو اللّحظات حينها اختبارا لصبرها وقوّتها.

نقرأ بعد ذلك قصّة "وفاء" (ص98) حيث تنقش البطلة ثوب ذكرياتها بخيوط الوفاء لزوجها الغائب تاركة قلبها رهينة لقيد الحنين، لكنّ شعلة الوفاء تنطفئ تدريجيّا مع مرور الزّمن، وتصبح الذّكريات عبئا ثقيلا.

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى نصّ آخر بعنوان "مغفرة" (ص104) تختمه بعبارة "يسقط الحلم من حنين الذّاكرة"، وتلحقه بنصّ "هودج الأحزان" (ص106) الذي تنهيه بعبارة "الأمّ المكلومة"، وتصطحبنا إلى نصّ آخر بعنوان "خطيئة" (ص109)، ثمّ تختتم بقصّة "هناء" (ص112).

     

          ملامح أسلوبيّة:

تتميّز هذه المجموعة بالدّمج المبدع بين السّرد والنّثر والشّعر والصّور القلميّة، هذا المزج الفريد يجعلها أكثر تشويقا وجذبا، فالسّرد يحاكي الواقع ويدخل المتلقّي في أجواء القصّص، ويسبغها النّثر بالسّلاسة والوضوح، أمّا الصّور القلميّة فتثير المشاعر وتحفّز الخيال، واللّغة الشّعريّة تكسوها بالجمال والرّومانسيّة.

تمتاز هذه المجموعة أيضا بقدرتها على خلق وحدة الأثر أو الانطباع، تماما كما وصفه "إِدغار آلان بو" الّذي عرّف الانطباع، أنّه كل ما يجب أن تخلّفه القصّة في ذهن القارئ، مؤكّدا على ضرورة أن يكون هذا الأثر واحدا ومباشرا وقويّا، ومشدّدا على أهميّة اختيار العناصر الفنيّة بعناية وتوظيفها بمهارة مع لغة قويّة، ذات إيحاءات معبّرة.

 

تتوفّر أكثر تلك الشّروط في قصص هذه المجموعة وأحداثها التي تركّز على جوانب الحياة اليوميّة، ببساطتها وتعقيداتها، ليغدو السرد متماشيا مع طبيعة الأفكار المتناولة، بكلّ ما فيها من ثراء.

كما نستشعر الأسلوب الأنثويّ النّاعم من خلال اللّغة العذبة، الزّاخرة بالكلمات ذات الدّلالات العاطفيّة؛ كالحبّ والأمل والحزن والفرح، التي أضافت إلى النّصوص لمسة خاصّة. ووفقا لعدسة نظريّة الاستقبال والتلقّي للمفكّر الألمانيّ "هانس روبرت ياوس" نجد أنّ عناوين القصص وضعت كبوابات، تفضي إلى عوالم مظلمة ونورانيّة في آن واحد، تشير إلى قضايا تؤرّق الكاتبة؛ فتبثّها في قصصها لتحفّز القرّاء على التّفكير في مغزى الوجود، وذلك من خلال تصوير العبثيّة والوجوديّة، والكشف عن تناقضات الحياة وصراعاتها.

كما يتجلّى تأثّر الكاتبة بكافكا، بوضوح في عناوين قصصها وأسلوبها الرّمزيّ، الذي يضيف طبقات من المعاني إلى القصص.

جاء ذلك في صور نثريّة غنيّة مقرونة بحوار تفاعليّ عاطفيّ، وسرد واقعيّ أحيانا، ورومانسيّ أحيانا أخرى، وغموض وسرياليّة مرّات ومرات، وكلّها تنصهر في بوتقة الخيال الأدبيّ، وتجتمع بشفافيّة اللّغة وانسيابها، وبفنيّة الصّور البيانيّة من وصف واستعارة وتشبيه وكناية ومجاز لغويّ، وثراء في المفردات ودقّة في التراكيب.

هذا من ناحية؛ لكن.. من ناحية أخرى فقد استهدف هذا العمل نخبة القرّاء، وذلك لغوصه العميق في الرّمزيّة.

يضفي هذا الاستغراق في الرّمزيّة على العمل بعدا من الرّقيّ والإلهام، بيدَ أنّ هذا الاستغراق صعب على القارئ العاديّ البسيط، ما يؤدّي إلى صعوبة فهمه للأفكار الواردة وتحليلها، وبالتّالي إلى عزوفه عن القراءة، وهذا الأمر يعيق وصول العمل إلى جمهور أوسع.

وبعد.. تبقى قراءة هذه المجموعة تجربة مثيرة للاهتمام؛ فكلّ جملة محكمة بعنايّة، وكلّ كلمة مختارة بدقّة، وكلّ مشهد يهدي إلى النّصّ جمالا وتأثيرا خاصّا.

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ.

 16.05.2024

المشـاهدات 56   تاريخ الإضافـة 19/07/2024   رقم المحتوى 49663
أضف تقييـم