الجمعة 2024/12/27 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
غائم
بغداد 13.95 مئويـة
نيوز بار
احتراق قراءة سوسيولوجية في رواية "ثقوب عارية" للعراقي "علي الحديثي"
احتراق قراءة سوسيولوجية في رواية "ثقوب عارية" للعراقي "علي الحديثي"
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

د. سوسان جرجس / لبنان

 

الجزء الثاني

العري وإشكالية التربية الجنسية

يقال إنّ الانسان كائن طقوسي بامتياز، وأنّ معاشه وتفاصيل حياته خاضعة بالكامل لطقوس التفاعل اليومي على حدّ قول "إرفينغ غوفمان".

بناء على نسق الاستعدادات والتصوّرات، وبناء على الهابيتوس المتشكّل لدى الانسان بفعل التنشئة الاجتماعية، وبفعل المخيال الاجتماعي الذي تتناقله الأجيال، فإنّ العري مرتهن بأطر زمانية مكانية ظرفية، كالتواجد على الشاطئ بلباس البحر، أو الاستحمام، أو تبديل الملابس، أو الدخول في علاقة جنسية، ممّا يجعل من التعرّي أمرًا حميمًا سرّيًا يتمّ خلف الأبواب المغلقة، فما الذي يحصل إذا ما انتقل فعل التعرّي مثلًا من غرفة النوم إلى غرفة الجلوس، يبدأ الحديثي في الكلام عن هذا الأمر في بداية روايته (ص 7- 8)، مؤكّدًا على الإحساس بالخجل والحياء من دون أيّ مسوّغ، سوى الشعور بعيون تتلصّص وتراقب من خلف الثقوب، وذلك سببه طقس التعرّي لم يمارس في أطره المكانية المعتادة الساكنة في مخيالنا الاجتماعي، فضلًا عن ذلك، فإنّ التنشئة الاجتماعية التقليدية تتمّ بطريقة قد تجعل الفرد راغبًا في إبراز جمال جسده للآخرين، ولكنّه يشعر بشيء من الحياء، أو حتى الانكماش تجاه أعضائه الجنسية، وفي هذا السياق يقول الكاتب في الصفحة 8 (كلّما حجبت مكانًا في جسدي بكفي، بقي الأمر كما هو، حتى حجبت ذلك المكان الذي أظنّ أنّ آدم غطّاه بورق الجنة، حينها شعرت أنّي سددت ثقب الباب بقطعة قماش)، ما يشير إلى قوّة الضبط الاجتماعي والرقابة الاجتماعية، التي تنسحب أحيانًا إلى رقابة ذاتية، على الحياة الجنسية للناس.

وفي هذا الإطار يعود الحديثي مرّة أخرى إلى جرأته الأدبية الهادفة، ليكشف لنا عن نموذج من العلاقات قد لا يكون منتشرًا بكثرة في مجتمعاتنا التقليدية (كالعراق)، هي علاقة جسدية جنسية بعيدة عن الضوابط الشرعية الدينية تجمع بينه وبين علياء، وإذ كانت هذه العلاقة الجنسية أشبه بعلاقة كونية مقدّسة لدى أوس الذي عبّر عنها بمارسة فعل الحياة (ص24)، فإنّ علياء عبّرت عن هذه العلاقة كخيار ذاتي جسدي روحي يرفض الزواج كنتاج لعلاقة آباء وأمّهات مبنية على ثنائية السيادة والتبعية، بدلًا من المحبّة والشراكة الروحية الجسدية (أخرجت فكرة الزواج من رأسي، كنت أرى أبي وأمّي في علاقة روبوتية..... عندما يسافر كان يسلّم عليها كأنّها خادمة في البيت، وهي تودّعه كأنّه سيدها).

إنّ الحوار حول الجنس والعلاقات الجنسية يستدعي حوارًا حول العريّ، وإذا كان أوس قد وضّح أنّ تعوّدنا على معاينة عريّ الآخر، سيجعل منه عاملًا حياديًا فاقد الحضور والأهمية في إثارة الرغبات الجنسية بين الجنسين، فإنّ علياء في هذه النقطة تحديدًا ترى الأمر من منظور آخر، معتبرة أنّ العريّ بهذه الحالة يفقد الإنسان لذّة البحث عن المجهول، كما يفقده متعة التخيّل التي هي روح الحياة وسرّ استمرارها (ص61). 

 

العريّ ودلالاته في رواية "ثقوب عارية" 

سوسيولوجيًا، لا يمكن لمفهوم العريّ عمومًا أن يكون آحادي الرمز، فدلالاته متنوّعة بتنوّع حزمة من المتغيّرات المجتمعية، إنّ عري الطفل براءة، وعريّ الفقير حاجة مادّية تستوجب الشفقة، أمّا عريّ الإنسان عقب التعرّق فرغبة بالنظافة والتخلّص من القذارة، وعريّ السجين عقاب تبعًا لبعض الأنظمة، وأمّا عريّ المرأة أمام الرجل، أو العكس، فإعلان عن رغبة جنسية، إنّ هذا التحليل الدلالي هو ما كنّا قد رأيناه في المجموعة القصصية "عريّ الكائن" للروائي والقاص المغربي عبد الحميد الغرباوي.

أمّا مع العراقي الحديثي، فإنّ الأمر يأخذ منحىً فلسفيًا، ففي روايته "ثقوب عارية" ركّز الكاتب مونولوجاته الذاتية، كما حواراته مع الآخر، حول مفهوم العريّ، مدركًا بذلك احتواء هذا الأخير على دلالات كثيرة مرتبطة بالسياق الوجودي لها، فإذا جعل من النهار لباسًا يتمّ سلخه عن الليل، اعتمادًا على قراءة فلسفية دينية، لتكون النتيجة هي عريّ وخلاص البشرية من صخب المعاش اليومي، وارتماءها في حضن الهدوء والسكينة التي تبعث على التأمّل والارتقاء النفسي والروحي، وفي موضع آخر من روايته، رأى الحديثي أنّ السماء هي الثوب الذي يغطّي جسد الأرض، وأنّ المتعة المطلقة التي لن يصل إليها الإنسان هي في تعرية الأرض من ثوبها السماوي، حتى تتكشّف له تلك المعرفة الإلهية التي تعتبر سرًّا وجوديًا؛ وما الأمر بمختلف مع المعرفة الثقافية، فكلّ ما يتضمّنه المسرح من أدوار وأفعال وحركات وثورة فكرية لن ينكشف لأولئك المنتظرين على كراسيهم ما لم يتعرَّ المسرح من ستاره، فضلًا عن ذلك، فإنّ متع الحياة الدنيا لا يمكن الوصول إليها إلّا بفعل التعرية الذي يزيح القشرة عن المحتوى الحقيقي الذي به تحدث اللذة الروحية والنفسية والجسدية، ومن الأمثلة على ذلك، المغرم بالتدخين، لن يشعر بمتعة السيجارة ما لم يعرِّها بالاحتراق، والرجل المغرم بامرأة، مهما كانت علاقتهما الروحية والنفسية سامية، فإنّه لن يشعر بالمتعة الجسدية معها ما لم يخوضا فعل العريّ بما هو الخطوة الأولى في العلاقة الجنسية بكلّ ما فيها من لذّة وأيروتيك وسموّ وقدسية، وقد حرص العراقي علي الحديثي في عدّة مواضع على أن يؤكّد العلاقة العميقة بين العريّ والمجتمع، لا بين العريّ ومنظومة القيم الخلقية (ص14)، بدليل أنّ طفلًا يولد، والناس حوله عرايا، فلن يشعر بالخجل من هذا العري، وإنّما سيصبح هذا الأخير جزءًا من نظامه الجسدي- الاجتماعي.

لقد اعتاد مخيالنا الاجتماعي أن يؤطّر العريّ بالجسد، وتحديدًا بالجنس، ولكن أليس العريّ بمعناه الفلسفي أعمق وأبعد من هذا بكثير؟ الغريب هو أنّ العريّ يحمل في نواته تناقضًا دلاليًا، فبعض العريّ يحيي الإنسان، وبعضه يذلّه، وبعضه يميته، ولقد أبدع الحديثي حينما قال في ص46: "لم أجد شيئا كالذكريات يجيد تعرية وجوهنا، تتفنّن في إزاحة الأقنعة عن ملامحنا، لتكشف عليها عمق الحزن الكامن فينا"، يبدو إذًا أنّ الإنسان في كامل مراحل حياته بحاجة دائمة إلى التعرّي، ليس من الملابس، فقط بل من الأقنعة والجهل والخوف... إنّه بحاجة ماسّة لأن يتعرّى من ذكرياته الحزينة ليكون ابن اليوم، ابن الحياة ومتعها التي عليه أن يعرف كيفية التمتّع بها، وتعريتها برقيٍّ يحفظ وجودها ويصون كينونتها.

 

التمرّد على قواعد "الجماعة".. شكّ، أسئلة وتغيير

بعض التمرّد انحراف، وبعضه الآخر وعي خلّاق؛ ولا يكون التمرّد وعيًا إلّا مع الفاعل الاجتماعي الممسك بأدواته المتجلّية بالقراءة النقدية والشغف بالسؤال، وما أظنّ ذكر الكاتب لرواية "الشياطين" لدوستويفسكي، وحرص البطل على شرائها في زمن الحصار في العراق مجرّد صدفة، إنّما هي دلالة "الشيطان" الذي طالما رمز إلى التمرّد على الإله، محرّكه في ذلك هو التساؤل والاستفهام واستنكار واقع معهود، استنكار صورة نمطية تقول إنّ بائع "بسطية" بسيط سيحرص أن يستخدم المال في شراء استكان الشاي لا كتاب شيطاني (ص36).

إنّ هذا الشغف بالسؤال والتمرّد على الصور النمطية السائدة لا يمكن أن يكون وليد لحظة عابرة، إنّما هناك أفراد - بصرف النظر عن ظروفها الاجتماعية ومستواها التعليمي وموروثها الذكائي- يمتلكون منذ الطفولة شغف التساؤل والبحث عن أدلّة مقنعة، وعدم القبول بالمسلّمات، وهذا ما تشكّلت عليه البنية الإدراكية لأوس بطل الرواية، حيث كان منذ الطفولة يتساءل حول سرّ فائدة "الماطور" الذي يدوّر الماء في حوض السمك، إلى أن اكتشف أنّ السمك يعيش في الماء المتحرّك، ويموت في الماء الساكن (ص14)، وكذلك هو حال الإنسان الذي لا معنى لوجوده وحياته إلّا بفعل التغيير البنّاء، وقد لاحظنا أنّه على الرغم من احتفاظ أوس بذكرى حبيبته السابقة "صباح" التي توفّيت حرقًا، إلّا أنّ الزمن لم يقف عند تلك اللحظة المأساوية، بل تعدّاها مثبّتًا قوّة الحياة في وجه الموت، تمامًا كقوّة سمكة أفلتت من الشبكة حينما أدركتها البصيرة، ولكن يبقى السؤال، أو ربّما الخوف الأبدي من عدم الإفلات من ذلك "الصيّاد" الذي يمسك رمحًا سيرمينا به إن نجونا من الشبكة...... من يدري؟!!!!

المشـاهدات 200   تاريخ الإضافـة 30/07/2024   رقم المحتوى 50454
أضف تقييـم