الأحد 2024/12/22 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 7.95 مئويـة
"رسالة من تحت الماء"(1)
"رسالة من تحت الماء"(1)
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

داود سلمان الشويلي

   ها أنا أرتشف قطرات الندى على الأوراق الخضر لنباتات حديقتي الجميلة إذ انعتقت من شرنقة الجسد الخاوي لأهيم في حضيض الهوّة العميقة تحت ماء النهر، فانفتحت أبواب روحي اليها، عندها مرّت بخاطري حكاية الشيخ الكبير الشعبية التي تذكر ان شيخا كبيرا جاء النهر، وعائلته المتكونة من زوجة، وثلاثة أولاد، وعندما أرادوا عبور النهر غرق الأولاد الثلاثة أما هو فقد أخذته أمواج النهر المضطربة، ففقد  بذلك زوجته، وأولاده.

   عندما قرأت هذه الحكاية، وأنا أكتب فصول كتابي الأوّل عن القصص الشعبي، تذكرت البسطة التي بسطنى والدي بعد أن غرقت في النهر، ومتّ، هكذا تخيلت تلك البسطة، كل ذلك حدث في تصوراتي التي عرضها أمامي خيالي المرتجف خوفا، وأنا في الهوة العميقة تحت سطح ماء النهر. كان الخيال عندي نشيطا، حيويا، يولد أفكارا كثيرة، يصنع من الكبة قبة، يجعلني أطير وأحط في مملكة النسوان، أو في بيوت الغيلان، أو أصمت صمت الحملان، أو أكون في مجلس ويدير عليّ الكؤوس الغلمان المخلدون، هكذا يصور لي خيالي النشط ان كان رأسي على وسادة النوم، أو ان جسمي تركته للهوة العميقة تحت ماء النهر.

***

   عندما كنت في مرحلة الدراسة المتوسطة، ودار أهلي في شارع 21، فيما أصدقائي من منطقتنا القديمة، منطقة السيف، حيث تزوجت شقيقتي الكبيرة من رجل من المنطقة نفسها لا يبعد داره عن دارنا السابقة سوى أمتار قليلة، وكنا دائما بعد العشاء، خاصة في فصل الصيف، نزور عائلة شقيقتي أنا، والعائلة، مشيا على الأقدام من دارنا في شارع 21 الى دارهم قرب "فلكة" الحاج هادي، في "عگد الهوا"، لنسهر عندهم، ونعود بعد منتصف الليل مشيا على الأقدام أيضا الى دارنا التي كثيرا ما ننسى بابها الخشبي غير مقفول إذ كان الأمان هو الغالب. ذهبت الى الشط مع أصدقائي، صاحب، وعبد علي، ودعبل، وغيرهم، وكنا مفعمين بالحيوية الزائدة خاصة أثناء العطلة الصيفية، وكنت أنا لا أعرف السباحة رغم هذه الحيوية، فيما هم يعرفون كيفية السباحة، والعبور الى الضفة الأخرى، لأن دورهم تقع قرب النهر أما داري فهي في الشارع/ 21 بعيدا عن النهر، وقرب شط "الخيسة" الأسود المياه، وعندما نزلنا الى ماء الشط من جرف طيني لزج قالوا لي: ابق في الجرف، ولا تغادره، أما هم فسبحوا مثل الكبار متجهين الى الصوب الثاني للنهر.

   لن أغادر الجرف الضحل، وبقيت أسبح فيه، إلا انني سقطت في هوة عميقة شعرت انني أفقد جسدي نهائيا، وأتركه الى تلك الهوة، فكنت أعالج الموقف بالصعود الى الأعلى، والغطس مرة ثانية في الماء لا إراديا فقد فقدت السيطرة على جسدي، وكنت أصرخ بأعلى صوتي اللاهث على أصدقائي:

- صــــــــــــــــــــاحب !!!

   ثم أغطس، بعدها يصعد رأسي الى ما فوق ماء النهر، وأصرخ عاليا:

- عبد علــــــــــــــــــــــــــــــي !!

   وأنزل  الى داخل الماء، وأثب الى الأعلى، وأصيح:

- دعبــــــــــــــــــــــــــل !!!

   كنت أنادي عليهم فلا من مجيب، عندها يئست من النجاة، فتركت جسدي الى رحمة الهوة العميقة التي جذبتني اليها، عندها مرّ شريطا خاطفا في خيالي، ورأيت والدي يضربني بحزامه الجلدي لأنني غرقت، ومت، وبين خيالاتي تلك مسّت أصابع يدي أرض صلبة فتوكأت عليها، ودفعت بجسدي الى الأعلى، فاستنشقت هواء منعشا  ملأ رئتي، وخرجت من تلك الهوة اللعينة التي أفقدتني الأمل بالنجاة من الماء، وأنا ألهث، وأخرج الماء الذي امتلأت به بطني، وأبسقه،  وأنا أضحك من خيالي النشط الذي أوصلني الى ابي، وأخبره بأنني قد غرقت، ومت، وكيف أنه أخذ بضربي، وأنا الغريق الميّت الذي لا حول له، ولا قوة، إلا أنني كثيرا ما كنت أردد بعد أن كبرت قول الشاعر:.  

نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى

                                  ما الحبُّ إلا للحــبيب الأوّلِ

كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى

                                  وحنينُــه أبــداً لأوّلِ منــــزلِ

   ورغم محاولة غرقي، ومن ثم نجاتي، زرع حبي للشجرة التي تنتج حريرا، وتلبسناه لتستر عرينا، الحاجة زهرة عباس، أو كما تناديها أمها الحاجة "عانية" بـ "قسيمة"، وهذا اسمها قبل أن تتزوج من والدي، ويلقح بيضتها الحاج سلمان مطلك فألد أنا، فتدعى أم داود، وينسى اسميها الى أن تموت، الذكر الطيب لها، والسكينة، والأمان ترافقانها في دارها الجديدة، الجميع يناديها "أم داود"، وأبي ينادونه "أبو داود"، حتى بيتنا أصبح بيت أبو داود.

   أما حنيني فيبقى لأوّل منزل، وهو قرب محل الحاج هادي، في أرض الحاج موسى الهايس النهاية الشرقية لشارع "عگد الهوا"، البيت الذي أبقاني لا أعرف السباحة، ولا العوم، وكما قال الشاعر نزار قباني:

إني أتنفس تحت الماء إني أغرق

                   إني أغرق إني أغرق أغرق أغرق

***

   كان بيتي، أقصد بيت عائلتي، هي صريفة مقابل صريفة ابن عمتي، في ذلك الدار، أقصد الأرض الترابية، والمكشوفة، التي تحيطها الأشجار من كل جانب، وتزين أرضها الورود، والأزهار، وسماءها زرقاء كعيني طائر، هكذا هو الدار الذي حلمت مرة اني أسكن فيه فرحت اشتري سندانات نباتات الزينة، وأضعها داخل غرف كل دار أسكنه إلا انها تموت، لأن الأجواء لا تناسبهاـ حتى أحواض سمك الزينة الملونة فهي تفطس، وتموت داخل أحواضها.

***

الهوامش:

1– قصة قصيرة من ضمن كتابي الذي يحمل بعض مذكراتي على شكل قصص قصيرة أعده للطبع.

 

المشـاهدات 151   تاريخ الإضافـة 25/08/2024   رقم المحتوى 52071
أضف تقييـم