النـص : بقلم: ماهر عبد الجبار الكتيباني
تشكل المجموعة الشعرية (كرتان ونجمة) للشاعرة منتهى عمران ، حلقة ماسية تضاعف النشاط المعرفي النسوي في البصرة، وهو مادة جمالية تثري الذائقة وتفعل عملية التفكير وكشف المستور والمختفي بوصفه عالما حقيقيا يمتاز بالسعة وتمازج الافاق ، للشاعرة قدرة في ان تجعل بنية القصيدة متماسكة وحقيقية تلامس الوجدان والاحساس، بسلاسة لكنها تدفع للتفتيش في ملفات الذاكرة، واعادة انتاج الفكرة بما ينسجم والمعنى الذي يرتبط علائقيا مع المتوالية التي رصفتها الشاعرة عبر نسيج المجموعة، وتأثيث مداخلها وفضاءاتها وحدود الزمان وحضور المكان واحالاته، تجدر الإشارة إلى أن الشاعرة( منتهى عمران ) تدعوا الاخر لقراءتها ولكن كيف؟. تظهر ((قراءة)) من غير ال التعريف ومن هنا فان قراءة المكنون لا تكمن في هويتها، لان الحروف قضمت حاسة اللمس ، بوصفها قضمت اطراف الاصابع حتى لم تعد لديها القدرة ولا الكفاءة على تحسس وجودها، وبذلك فقدت القدرة على الشعور بالأشياء كما هي:
حروفك الملونة
قضمت
اطراف اصابعي
اسيرة انا
اركب زورقا من ورق
شراعه خوص
متاعي رطب
دليلي رائحة الطين.
كما أن للون بنية متحركة ذات دلالات مختلفة ترتسم في حدود فكرية بخاصة في (امرأة رمادية ) وجمالياتها في التصور الخاص بها ضمن كل قصيدة على حدة / وكم هي رقيقة تلك وقد ابحرت بزورق من ورق، وتحيل على رائحة الطين كأنها النطف الاصلية الاولى التي تحرر الانسان من كل ادران علقت به، وذلك لا يمكن ان يكون واقعا سوى (حلم) الذي يؤشر نافذة تفتح كثيرا على مصراعيها في هذه المجموعة (كرتان ونجمة) تتقابل ثنائيتي الحضور والغياب ويغلب عليها طابع البناء الدرامي ، الذي لربما سببه تيار الوعي الخاص بالشاعرة البارعة في تجسيد الاحساس ، وتوزعه مثل نثر تلك النجوم في سماء ، تتقابل تلك الدائرتان الكرتان ، في متن مختفي ومضمر في اتون تلك المتشكلات اللغوية التي رصفت الشاعرة عبرها نماذجها في تجسيم (الغياب) ذهنيا، فالفرضية في جسد الارواح الأكوان التي يتمثلها وجود القصائد وحضورها. تعد فلسفة الغياب هي المكون الجمالي للصور بالغة العمق في متوالياتها التي شغلت لغتها التي تجلت فيها عوامل الابتكار، أذ قدمت عمران صدمات كسرت افق التوقع وخواصه في تعاملها مع محور الاستبدال العمودي لتجرد لغتها عن التقريرية الصرفة، في ضوء ذلك ليس امام القارئ سوى الغوص في ذاكرته لملاحقة استرسالاتها المزججة بالحلم والوهم، يتقابل لديها الحضور بالغياب، الوهم بالحقيقة ، الغياب المختبئ في فهم الاشياء ، مقولاتها امتازت بالشاعرية العميقة، والقارئ المتفحص والمتمعن يجد ذلك الانحياز للغرابة وجمال ما هو مفاجئ وصادم ،الحضور الذي يناكف الغياب ، الحضور لديها رخو والغياب هو الاصل ، يتجلى ذلك في الاتي:
ايها الحضور
لا تناكف الغياب
دعه يخطف مني الشعور
ويهذب التياع الروح
فبعض الوجع
خصيمه اللقاء
تلك جدلية فلسفية، التخاصم هنا يرتكز على مبدأ الاختلاف ومرجعه تلك الكرتان اللتان تمتازان بخواص مشتركة ويتبادلان الية الحضور والغياب ، ونجمة هي في طور الغياب فهي المتعالي الذي يشكله الضوء الذي تبرقه في حضورها الماقبل ، إذ أن ضوء النجمة هو دلالة وجودها الذي يبتعد سنوات عميقة عن الأصل، وهنا يمكن القول أن الكرتين اللتين تتدحرجان تمثلان تلك الرحلة الضوئية الماضية والمتداخلة، الانا والاخر يتلاحقاها بوصف حضورهما يمثل حصيلة ما عاشاه وتمخض في الغياب ذاكرة ووجود معنوي، وما الوجود غير تلك الاضواء التي يرسلها الغياب ويتكأ الحضور على تلك العكازة التي يتكرر ويتكور حضورها في متواليات تتمثل ( لحظة ) دزاين بحسب (هيدجر) ذلك ان الكائن يُدسُ هكذا في وجود غريب هو ( تيه ) مشفوع بوجع الوهم المنساب عبر( حلم ) رقراق لحظة غير محسوبة ضمن قياسات زمنية قلقة ووجودية، هاربة من وهم الحضور الى عالم يمنحها جناح غير كسيح لتحلق، هي لحظة مفارقة وتصادم بين حقيقة ماثلة ليست اصلا لغائب محلق في زمن كوني :
لحظة مسروقة
من ضجيج اشتياق
كأغنية في زنزانة
تعلق الروح
بساق طير
مكسور الجناح
يغفو على ابتسامة
تحتدم المفارقات في النص أعلاه التي تجرح التوقع التقليدي، عبر وضع المكونات اللفظية بين مزدوجين لتكتشف ظاهراتيا وعبر التأمل الانعكاسي تلك المقدرات التي تنسجها الشاعرة البارعة في تجسيم الكائن الغريب الذي يشتق لنفسه نسقية جديدة. (اللحظة) تلك الممتزجة بحزن شفيف لا يمكن لها ان تجتاز قضبان الروح التي تكبل تأججها حتى وان ارادت الانعتاق والتحليق، فهي مبتورة الحلم لان جناح انطلاقها مكسور وبالتالي فان كل احلامها محشوة بالموت والانغلاق والانعزال.
كما أنها تبحث عن (وجه وطن) في أفق معفر بالصخب والفوضى وبصباحات تشرق ويتلاشى حضورها وان لاذت بها من وهج ليلي بهيم. تتنازع الشاعرة ( منتهى عمران ) متاهات الانكسارات المتتالية تبحث دائما عن طيف يزجج احلامها بالضوء لكن ذلك الغياب اما ان يكون عكازة او ان تكون عكازة لعوقه وهذا ما تلوح ملامحه في القصائد التي تومض وتصدم دائما بخاصة محاولة كسر المألوف المتداول ، لينشر شاعرية بالغة التودد. فالأرض السعيدة تفتح نوافذ وابواب لاسراب السعادة التي تمر عبرها عسى أن يستهويها البقاء، لكن ما هو مفارق ( وجه الوطن ) ذلك الإشراق بوصفه خاصم ذلك الصباح المنشود في لون الوطن كما تراه اصلا في لوحة القصيدة . وبالعود لتلك الجدلية بين الوهم والحقية والتجسيد الذي يحلق متساميا عبر جناحي الخيال فان درة المجموعة تكمن في هذه الاستبدالية:
حلم
رأسي يتهدل
ممتلئ جدا
بحلم
يتكئ على كتف رف
يتزحلق
يسقط بحضن طست
ليست نهاية مفجعة
داعبته يدا امي
غسلته بمرثيتها
رأسي ينعم بهدوء عجيب
لطالما أزعجته
محاضرة عن الحكمة
اين الحكمة في ان اكون بلا رأس
وهناك في مجموعة الشاعرة (منتهى عمران) المزيد من تلك الصور التي تداعب الوجدان والقلب وكلها تصلح ان تكون سيناريوهات كاملة وهي ايضا قصص وومضات متكاملة في متنها ومبناها ، تشتق الشاعرة عمران عناوين قصائدها بشاعرية عالية وفيها وحدة موضوع منفردة ومتصلة وتشكل العناوين حقيقة ثريا تشع بمجموعها قصائد تثري ذائقة المتلقي وتغذي ذاكرته وقدرته على التفكير. وأخير من المهم الإشارة الى لغة المجموعة حيث توظف الشاعرة لغة هادئة تصمت في ظاهرها لكنها تخفي هياجا وصراخا وثورة ، كما أن للموروثات حضور يتشرب قصائدها ، تمزج بشكل رصين وحقيقي الاسطورة بالخرافة تجعلهما يتقابلان ما بين الوهم المتحقق جزئيا وما بين غير المتحقق وهي هنا تفتح النار على الحضور الذي يتكاسل عن تحقيق وملأ الفراغات التي تركها الغياب. يستحق (كرتان ونجمة) القراءة المتأنية الفاحصة الراصدة فقد اكدت المجموعة حضور شاعرة تمتلك عناصر الابداع.
|