الخميس 2024/9/19 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 32.95 مئويـة
الشيب في الشعر العربي
الشيب في الشعر العربي
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

سامي ندا جاسم الدوري

الشَّيب حلية العقل، وشيمة الوقار. الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب، سرى في طريق الرشد بمصباح الشَّيب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفِع بها درجة ) . وأصدق شاهد وأعدله في بيان فضل الشيب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة، ونهى رسول الله صلى الله علية وسلام عن نتف الشيب، وقال: (هو نور المؤمن ) . وقال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيتة ) فهذه الأحاديث تبين فضل من شاب، وقضى عمره مسلمًا طائعًا، لا كافرًا، ولا عاصيًا. قال الشاعر /

يَقُولون: هَلْ بَعْدَ الثلاثين مَلْعَبُ

فَقُلْتُ: وهل قَبْلَ الثلاثين مَلَعْبُ

لَقَدْ جَلَّ قَدْرُ الشَّيْب إِنْ كَان كلما

بَدَتْ شيبةٌ يَعْرَى مِنَ اللَّهْو مَرْكَبُ

وقديما قالوا: ( الشَّيب حلية العقل وشيمة الوقار) فالشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب، سرى في طريق الرشد بمصباح الشَّيب. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب . قال الشاعر /

رأت وضَحا في الرأس منِّي فراعها فريقان مبيضٌّ به وبهيم

تفاريقُ شيبٍ في السواد لوامع

فيا حسن ليل لاح فيه نجوم

ومن مظاهر مدح الشيب والثناء عليه، ما قاله مجموعة من الشعراء خاصة، والناس عامة، ممن لم يروعه المشيب، فيأبى متابعة النفس .

ويمدح المشيب، متجاهلًا الخضاب قال الشاعر/

بكَرتْ تُحسِّن لي سواد خضابي

فكأنَّ ذاكَ أعَادني لِشَبابي

ما الشَيْبُ عِندي والخِضاب لواصفٍ

إلا كشمسٍ جُلِّلَتْ بِضَبابِ

تخفى قليلا ثم يْقشَعُهَا الصَّبا

فيصيُر ما سُتِرتْ بِه لِذَهَابِ

لا تُنْكِري وَضَحَ المشيبِ فإنِّما

هُو زَهْرةُ الأَفهْامِ والأَلْبَابِ

فلديَّ ما تَهْوَيْنَ من شأن الصِّبا

وطُلاوةِ الأخلاقِ والآدابِ

ويشبه أحد الشعراء شَعره الأسود بالمسك , وشعره الأبيض بالكافور , وهما نوعان من الطيب , ولكن حبيبته التي حاول أن يوهمها بذلك كانت أذكى منه وأقوى عارضة , وأحضر بديهة . قال الشاعر علي بن المقرب العُيوني /

وما شبتًُ من سنٍّ مضت , بل أشابني صروف الليالي والخطوب الفوادح

لعشرين لاح الشيب فيَّ , وأوجفت علي خيول المرزئات الضوابح

ونظر كثير من الشعراء إلى الشيب كرمز لبعض القيم والفضائل الإنسانية والخلقية والنفسية والعقلية فالشيب هو الواعظ الذي يجب أن نأخذ أنفسنا عمليا بمواعظه قال الشاعر /

ما نازِل الشيب في رأسي بمُرتحل عني , وأعلم أني عنه مُرتحل

من لم يعظه بياض الشعر أدركه في غُرَّة حتفه المقدورُ والأجلُ

والشيب عفة وجمال , وإلا كان عارا على صاحبه . قال الشاعر /

إذا ما الفتى لم يكسه الشيب عفة

فما الشيب إلا سُبَّه للأشايب

والشيب عظمة وجلال وإكرام قال ابن الرومي/

أصبحت شيخا له سمت وأبهة يدعونني البيض عما تارة وأبا

وتلك حالة إجلال وتكرمة

وددتُ أنني معتاض بها لقبا

قالت وقد راعها مشيبي

كنت ابن عم فصرت عما

فقلت مهلا , وأنت أيضا

قد كنت بنتا فصرت أُما

ولكن هل يعتبر الشيب دليل قاطعا على بلوغ الشيخوخة أو خريف العمر ؟ الحقيقة أن هذا هو الأصل , ولكن وجود الأصل لا ينفي وجود الفرع فهناك ما يمكن أن يسمى بشيب المواقف وهو شيب يزحف إلى الرأس في سن الشباب بسبب ما يعانيه الشاب في هذه السن , وما يصادمه من مصاعب ونكبات , وما يغشاه من هموم وأحزان .قال ابو فراس الحمداني /

رأيت الشيب لاح فقلت أهلا

وودعتُ الغواية والشبابا

وما إن شبْت من كبر ولكن

رأيتُ من الأحبة ما أشابا

بعثن من الهموم إلى ركبا

وصيرن الصدود لها ركابا

وقد صور البارودي في منفاه سرنديب بصدق ودقة البصمات والآثار السيئة التي تركها الشيب على جسده ونفسه وفكره فقال /

أَيْنَ أَيَّامُ لَذَّتِي وَشَبَابِي

أَتُراهَا تَعُودُ بَعْدَ الذَّهابِ

ذَاكَ عَهْدٌ مَضَى وَأَبْعَدُ شَيْءٍ

أَنْ يَرُدَّ الزَّمانُ عَهْدَ التَّصَابِي

فَأَدِيرَا عَلَيَّ ذِكْراهُ إِنِّي

مُنْذُ فارَقْتُهُ شَدِيدُ المُصَابِ

كُلُّ شَيءٍ يَسْلُوهُ ذُو اللُّبِّ إِلَّا

ماضِيَ اللَّهْوِ فِي زَمانِ الشَّبابِ

ويبدي الشريف الرضى فزعة الدائم من الشيب وينكر ما جمَّلوه به وحسنوه فقال /

غالطوني عن المشيب وقالوا

لا تُرَع . إنه جلاء حسام

قلت ما أمن من على الرأس منه

صارم الحد في يد الأيام

وقال الشاعر أبو دلف في بياض اللحية /

تكوَّنني همّ لبيضاء نابته

لها بغضة في مضمر القلب ثابته

ومن عجب أنني إذا رمتُ قصها

قصصت سواها وهي تضحك نابته

وللشيخوخة وهى سن المشيب مظاهر متعددة لا يمثل الشيب أي بياض الشعر إلا واحدا منها فلو تغلب الإنسان على بياض شعره بالخضاب فلن يتغلب على وهن الجسم وسقم البدن , وضعف النظر , ومحدودية التحمل . قال

الشاعر /

قالت أراك خضبت الشيب قلت لها سترته عنك يا سمعي , ويا بصري

فقهقهت ثم قالت من تعجبها

تكاثر الغش حتى صار في الشعر

وأبلغ من ذلك قول ابن الرومي مساخرا من المخضبين /

يأيها الرجل المسوِّد شيبه

كيما يُعَد به من الشبان

أقصر . فلو سودت كل حمامة

بيضاء ما عُدَّت من الغربان

وقد يلجأ بعض الشعراء المخضبين إلى حسن التعليل , ويقصد به في البلاغة تعليل العمل أو الظاهرة تعليلا لا يتفق مع الواقع , ولكنه مستحسن في الشعور . فذهب هذا الصنف من الشعراء إلى أنهم لم يسودوا لحاهم وشعرهم غشا ومخادعة للحسان , ولكنهم بهذا الخضاب ألبسوا لحاهم وشعرهم ثوب حداد على فقيد اسمه الشباب . وقال الشاعر الأفوه الكوفي /

فإن تسأليني ما الخضاب فإنني

لبست على فقد الشباب حدادا

إن الحديث عن الشيب حديث ذو شجون في أدبنا العربي ،فالشيب علامة من علامات الكبر والهرم ،وهو دلالة على قرب انطفاء شعلة الحياة المتقدة حيوية وقوة ونشاطاً ،ولكنه في المقابل دلالة على الاتزان والحكمة ،وباعث لمشاعر الحزن على مافات والانكفاء على النفس ،والحنين إلى أيام الصبا والشباب .قال النوبختي /

لم أخضب الشيب للغواني

أبغي به عندها ودادا

لكن خضابي على شبابي

لبست من بعده حدادا

ولعل الشعراء بما فطروا عليه من الإحساس الرقيق ،والعواطف الجياشة ،والنظرة المتأملة في الحياة أكثر استقبالاً لهذه المشاعر وأكثر تعبيراً عنها . قال ابن الرومي /

رأيت خضاب المرء عند مشيبه

حدادا على شرخ الشبيبة يلبس

وهبه يواري شيبه . أين ماؤه

وأين أديم للشَّبيبة أملس

ولقد كان الحديث في تراثنا الشعري عن الشيب حديثاً واسعاً ذا شجون وله دلالاته النفسية والاجتماعية الكثيرة من حيث إنه علامة الهرم والوقار والهيبة وتجرع المصائب وخوض التجارب وقلة الحظوة عند النساء .قال عروة بن الورد /

لبسنا زماناً حسنها وشبابها

وردت إلى شعواء والرأس أشيب

وقال المرقش /

أن الخضاب لا يعيد عهد الشباب ولا جماله فهيهات هيهات أن يعود للنفس طموحها وإقبالها على الحياة بعد حلول الشيب /

هل يرجعن لي لمتي إن خضبتها

إلى عهدها قبل المشيب خضابها

 

المشـاهدات 27   تاريخ الإضافـة 15/09/2024   رقم المحتوى 53463
أضف تقييـم