مسرحية المَلْجأ .. حواريّةُ الأنْقاض في زمان القَصْف محمد جميل خضر |
مسرح |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب |
النـص : "لن نترك المكان حتى ولو هدموا المسرح فوق رؤوسنا"، بهذه الجملة الفرديّة والجماعيّة المعبّرة، تَسدِل مسرحية "الملجأ" ستارةَ فصلِها الطويل بِطول حربٍ اقْتصرت إنجازاتُها بعد عامٍ من العدوان على قصف الدّور وَالمباني فوق رؤوس الصغار.بإيقاعٍ حيويٍّ صعَدَ وخَفَتَ بحسب وقائع الدراما ومُوجبات اللحظة المتعيّنة فوق الخشبة، راكمت مسرحية "الملجأ" التي عُرِضت خلال الأيام الثلاثة الماضية على المسرح الرئيسي في المركز الثقافي الملكي (مسرح هاني صنوبر) في العاصمة الأردنية عمّان من إخراج سوسن دروزة والحاكم مسعود عن نصٍّ كتبه نجيب نصير وأسهم مخرجا العمل في صياغته، مردودَها الدلاليّ والجماليّ والأدائيّ الموشّح بِسينوغرافيا بصريّة شيّدَ المخرج إيهاب الخطيب مِعمارَها. المُراكمةُ الموجّهةُ لِجهةِ غايات العرض الكبرى، شكّلت عنوانًا مدروسًا نسجته الرؤية التي توافق عليها دروزة ومسعود وَتقاطعا في بلوغِ مَراميها، وتذليلِ مُعضلات المشهدية المسرحية في الطريق إلى تسليط الضوء على عناوينها.حارس المدينة/ المسرح (أدى المنذر خليل مصطفى الدور باقتدار)، ينير مصابيح شوارعها وحاراتها، يذكّرنا بـ (المشعلجي عند المصريين والدُّومري عند الشوام) الذي كان ينير حارات القاهرة والشام وباقي العواصم أيام زمان. منذ اللحظة التي يقوم بها الحارس/ الخادم بتشغيل أزرار الإنارة تصبح الإضاءة عنصرًا رئيسيًا من عناصر العرض المسرحيّ الذي تجسّدت خلاله المنصة بوصفها شاهدًا على القصف وشهيدًا من شهدائه؛ بقايا حطام، صخرة سيزيف متدلية من سقف المنصة نحو أرضها، كرسي أحمر كما هي عادة الكراسي في بلادنا ممهورة بالدم محروسة بالصّولجان، زاوية المسرح الأمامية على يسار النظّارة مخصصة للإنارة/ الإضاءة يزورها (الدومريّ) كلما تطلّب الأمر تغيير الإضاءة، أو الإيحاء بضجيج الأضواء المنبعثة من سيارات الإسعاف، ولتلك الزاوية مآرب أخرى: التحوّل إلى (مِكسر) أصوات، أو مكبّرات صوت. ثمّ، وسط كل هذا الإيقاع المتحوّل المتبدّل المترافق مع أداءٍ عفيِّ الحَجَلِ قويِّ التَّمَثُّل، تدويّ أصوات القصف، قصفٌ لا يتيح للأشخاص الضائعين فوق المنصة اللائذين بالمسرح بوصفه ملجأَ الواقع أو ملجأَ التعبير عنه، فرصة التقاط الأنفاس بين عرضٍ مسرحيٍّ آفِلٍ وآخر. يضيع الممثلون في لعبة تداخل المشاهد بين عديد الأعمال المسرحية العابرة للقارات والحضارات، يفقدون مرشد هواياتهم، ودليل أدائهم تحت القصف. مجسّاتهم تتحوّل إلى كمائن غرائزية للهروب أو التشظّي. المدينة/ المسرح غارقة في الليل، العمل الليلي على أشدّه قصفًا أو بوحًا أو كلاب حراسة. الذاكرة تذوب في راهنيةِ المِطحنةِ التي تدوّخ فُرصَ التّلقي... تدريجيًا يتورّط المتلقّون فوق مقاعدهم بالحيلةِ التي اختارها المخرجان؛ متاهة الأحداث على حساب حدثٍ دراميٍّ متصاعدٍ مضبوط الإيقاع محكوم المصير، فالمدينة/ الأمكنة جميعها خارج إمكانيات الضبط، والمصائر معلّقة فوق مشانقِ القاذفات الحربيّة الجويّة، والجميع يبحث عن ملجأ/ جدار أخير.
تَداخُلات
التداخل سمة رئيسية من سمات العرض الذي أنتجه "المعمل 612"؛ نوفل حارس المدينة/ المسرح/ الدومريّ يتداخل دوره فجأة مع دور مدير المسرح، يتداخل ويصبح مقتنص فرصةِ أن ينسى ممثل من الممثلين دورَه في العرض المسرحيّ، ينسى نفسه ويتداخل مع وظيفة صانع النجوم، أو ضابط إيقاع الفوضى ومهندس الشتات. يتداخل دور الراقصة شهلا (أدت دورها بطزاجةٍ لافتة الممثلة سنابل ضمرة) مع فتاة باحثة عن ملجأ في التمثيل بديلًا عن ضياعها في أحابيلِ المدينة وخبرتها بسجونِها. جواد (أدى دوره يوسف الشوبكي) يتداخل دوره بوصفه نجمَ تمثيل معروف مع شخصيةٍ متعثّرةٍ لا تكاد تعرف ماضيها من حاضرها.سلوى (أدت دورها حلا سامي) تضيع في دوامة تداخل بين نجمة مسرحية وامرأة غيورة وسيدة باحثة عن فرصةٍ لبيتِ العَدَل. لا شيء مستقرًا فوق المنصّة، تمامًا كما هي الحال خارج المسرح/ الملجأ، لا شيء يقينيّ، لا أحد ممّن وجدوا أنفسهم أسرى المكوث تحت الأنقاض يفكّر بمغادرة المكان أو التمرّد على الزمان.الأقنعة ضرورية في زمن الحرب... رجال "طيبة" يعلنون انتصارهم على شعب "أرجوس"... كائنات منقرضة تتحرّك في عمق المنصّة... ونداءات فوقها تحض على دفنِ الخوفِ وخوض مغامرةِ مواجهةِ إلهِ الموت. تداخلٌ نصّيٌّ مع تداخلٍ حواريٍّ يتحرّكان كلاهما نحو المغامرةِ الأخيرة المُحزنة/ المُعتمة حيث الحقائق ترتدي ثوب الخيال في تداخلٍ رابعٍ... سابعٍ... إذ لا تعود التَداخلات تُحصى، فهل يُحصي القتلى عدد القذائف؟!
تحوّلات
ينْحو المخرجان نحو إيقاعٍ مسرحيٍّ قويّ الجُنوح فإذا بالتداخُلات ترتقي بدورِها إلى درجة التحوّلات؛ حارس المسرح/ المدينة يصرخ فجأة "أنا المسرح" طاويًا الكُلَّ في عدميّة الفكرة الاستئثاريّة القابعةِ في جنباتِ الأنا العليا، الطالعة من غيبيّات التاريخ على امتداد الأزمنة. يتحوّل المشهد من ألفِهِ إلى يائِهِ؛ نحن الآن في كهفٍ من كهوف الزمان البعيد السّحيق الضاربِ منابتَ الأصول والفُروع، لم يعد للأقنعة من مغزى فسكّان الكهوف لا يُشبِهون الديناصورات، ولم يعد للمشهد المسرحيّ من ضرورة ولهذا يُخفق في قول حواره جواد. يبحث الجميع عن الضوء، من دون أن نعرف أكانوا أصلًا في نفق، أم في كهف، أم في ملجأ تحت كلِّ هذا الركام؟ الركام لا يقتصر على الحجارة، بل أيضًا على النصوص الفائضة عن حاجة المسارح، فلا نصّ اليوم سوى نصّ القضية التي بدأت في عام 1917، عندما قرّر مستثمرٌ بريطانيٌّ الاستئثارَ بموسمِ الفنونِ الأدائية آنَذاك، وأحضر لهذه الغاية "فرقًا مسرحية من أوروبا الشرقية والغربية كانت عاطلةً عن العمل إبّان الحرب العالمية الأولى، من دون أن يمنحَ الفرقةَ الأصلية فرصةَ تفقّدِ الفرقِ الدخيلة التي اقتحمت مسرحَهم، واستوْلت على أماكنِهم فوق منصّته، ومن دون أن يشاورَهم، بفكرة استثماره، من الأساس، في موسمهم وجلْبِ فرقٍ تحلّ مكانهم!".هكذا يحقّق العرض أهم تحوّلاته وأكثرَها دلالة؛ فقد باتت وجْهات العرض واضحة: القضية الفلسطينية، العدوان على غزّة، وبتْنا نعرف أن الملجأ ما هو إلا استعارةٌ مكنيّة/ مكانيّة لكلِّ بُقعة مذبوحةٍ بالقصفِ والدمارِ على امتدادِ القِطاع. إنها، إذًا، تحوّلات "الأراضي المزعومة المنكوبة المنهوبة" حيث الأبوابُ مغلقةٌ والنوافذُ مشرعةٌ وصنّاعُ المسرحِ يُهَرْمِسونَ تاريخَه، والبابُ المخلوعُ يُنذر بغضبِ الريح، والكلُّ أصبح مدفوعًا بفعل الإخلاء؛ إخلاءُ المنصّةِ من أصحابِها، والوصيّةِ من ورثتِها، والواقعِ من انتباهِه. إنها الغيبوبة التي تجعل حاويةَ النفايات مسرحًا للبحث عن الطعام، وحافلات المدارس مسرحًا لمشهد الفَقْد فلا أطفال يركبونها، والحقول مسرحًا للقحط فلا شباب يحرثونها ويزرعونها ويجْنون ثمار الموسم الذي احتلّه المستثمرُ الأجنبيُّ مانحًا الوعدَ لِمن لا يستحقُ وهو الذي لا يملكُ إلا مدافعَ الحِماية الدوليّة.هكذا يصبح العرضُ مساحةً للتأويل، أطروحةً فلسفيةً حول الكيْنونة "أن نكون أو لا نكون"، فرجةً شعبيةً تطير خلالها (البَلالين) مالئةً السّما بلون الدم، فكرةً تجريديةً حول أقصرِ الطُّرق للدورانِ المُنكفئ إلى العدم، تراجيديا تصبّ في أوعيةٍ تقطّعت أيدي من كانوا يحْملونها بانتظار الدّور. تحوّلاتٌ مُتتاليةٌ متراكمةٌ تجعل من العام 1948 بدايةَ حقبةٍ من "الرّعبِ والوحشيّةِ القائمةِ على إرهابِ سكّان المسرح الأصليين... حقبةٌ مُظلمة، تحطّمت خلالها أركان المسرح وديكوراته... تشرّدت النصوص والأَراشيف... واستوْطنت الفِرَقُ الدخيلةُ كلَّ زاويا المكان".في سياقِ التّرميز الذي اختطّه المُخرجان رؤيةً إخراجيةً للتعريف بتاريخ القضية وأنها لم تبدأ في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تمرّ حوارات العرض على مرحلة تزوير الخرائط وتلْفيق التاريخ: "قامت الفرقُ الدخيلة بتزويرِ مجموعة من الوثائق أهمها وثيقةِ أبعادِ المسرح وأساساتِه، مدّعين أن المسرح هو ملكٌ لهم منذ حقبةِ ما قبلَ الميلاد"، ومرحلة الاغتيالات: "قامت الفرقُ الدخيلةُ باستهدافِ فنّاني الفرقة الأصلية المبدعين المناضلين فردًا فردا، وتصفيتِهم".
الخذلان
لا أحد يردّ على اتصالات جواد... في الملجأ تتداخل أوقات اليوم، فلا نهارُه نهار ولا ليلُه ليل، وتدريجيًا تذوي الأصوات، فالموت لا ينقطع، تمامًا كما أن أصوات القصف لا تنقطع... تتحرّك الجدران دافعةً لهم نحو خارجها... الوقت طويل... الوقت زمان... الوقت الآن... يعود نوفل إلى لعبة مسك الخيوط جميعها، فهو، إن كنتم نسيتم، حارس المدينة، أقصد حارس المسرح، الرجل المتواضع الذي يحمل مكنسة وينظف المكان... لا شيء يمكن أن ينظف كل قذارة هذا القتل العشوائيّ... لا شيء يمكن أن يمحو عار الخذلان... يقول طيفٌ راسخٌ في المكان إن أمكنة المدنيين هي الأشد خطورة لأنها الأكثر استهدافًا! نبيل العلماني (تامر عساف) يكتشف أنه تحوّلَ من صحافيٍّ يكتب الأخبار إلى خبرٍ هو نفسه... رائحة الموت تخنق الملجأ... عفوًا أخطأتُ ثانية أقصد المسرح... جواد يتحوّل إلى شبهِ شاعر: "نُشعل النار لِتُبقينا دافئينَ في الليالي الباردة... نتخلّص من أنسجةِ العنكبوت العقليّة... نحرقُ أمراضَ العبارات المنْطوقة... دعونا ننهضُ من كلِّ هذا الرماد". لَدى نوفل أخبارٌ سيّئةٌ عن الشمس... يعود جواد إلى لعبة تبْديل الطّواقي، أقصد الأدوار: "الحلول سهلة... بسيطة: المنوّم بدل السُّم لِروميو وجولييت، وشايلوك يمكن إرضاءَهُ برطليْن من اللحم (يضحك)... أضحك... لكنني مفزوووووع ومهلوع... اتّضح أن الحلول... لا أدري... أقدامُنا ليست لنا... لعلّك لم تفهم أيها الفتى أن الشقاء لا يأتي، فقط، من القضايا الكبيرة". طيفٌ آخرُ يتوّعد بأن الجميع سوف يتكيّف مع الظلام... الطيور تنفُق... الحيتان تقرّر الانتحار الجماعيّ... المنظومةُ الأخلاقيةُ تنقلب رأسًا على عقَب... البشريةُ تأكلُ نفسَها... أصواتُ انفجاراتٍ وأنينُ هَلَع... شهلا تقرّر: "خلاص فردي ما في"... نبيل يعثر على (مانشيت) فاقع: "الحضارة تبتلعُ نفسَها"... بصوتٍ فرديٍّ "لن نترك المكان حتى ولو هدموا المسرح فوق رؤوسِنا"... بأصواتٍ جماعيةٍ "لن نترك المكان حتى ولو هدموا المسرح فوق رؤوسِنا"... بِتمتماتٍ "لن نترك المكان حتى ولو هدموا المسرح فوق رؤوسِنا"... يشكّلون معًا حزمةً بشريّةً غرائزيّةَ الصدِّ وحشيةَ الأسى... يكرّرون بيأسٍ غير يائِس "لن نترك المكان حتى ولو هدموا المسرح فوق رؤوسِنا"... أصوات الخارجِ مرعوبةٌ بعد انفجارٍ جديدٍ قديم... صخرةُ سيزيف تَتداعى... تكاد تسقط فوق رؤوس الممثلين، أقصد اللائذين بِالملجأ... إعتامٌ يضيء المسرح والمدينةَ وموائلَ الأطفالِ المعلّقة ألعابُهم فوق المنصّةِ حيث المكانُ رُكامٌ والزَّمان فَزَع. إعتامٌ يُضيء الجدار الرابع.من فكرةٍ أشعلتها سوسن دروزة جرت صياغة النص وفْق ورشةِ عملٍ جماعيّة، لِيحملها إيهاب الخطيب بحدبهِ ومقترحاتهِ السينوغرافيّة (المؤثّثات من اكْسسوارات وغيرها متاحةٌ في متناول الشّخوص، المداخل في عمق المنصة موظّفة ومتحوّلة [مرّة سجن، ومرّة مساحة فضول وثالثة منبر إلقاء وهلمّ جرّى]، التقطيع بسيط ومحمّل بِالدلالات)، ويضيء محمود المجالي دروبَها بإضاءةٍ صمّمها بمراوحةٍ بين واقعيّة العدوان اليوميّ المتواصل، وإيمائيّة الفكرِ الفنّيِّ الدراميّ، ليصبح بين يدينا، أخيرًا، عملٌ مسرحيٌّ طالعٌ من أوجاعِ الناس في زمن العدوان، وَبقايا الصّور الراسخة في الذاكرة، وَقناديل الشوارع العَتيقة. |
المشـاهدات 60 تاريخ الإضافـة 30/09/2024 رقم المحتوى 54198 |
العراق ومصر يبحثان سبل تعزيز التعاون المشترك في المجال العمراني |
البرلمان يحيل قانون مضاعفة الخدمة الوظيفية لأغراض التقاعد الى اللجنة القانونية رئاسة البرلمان تعود للواجهة بقوة والإطار يشدد على الحسم مع توتر أوضاع المنطقة |
بمشاركة 16 دولة عربية وأجنبية الأردن يعقد أضخم منتدى للاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في 20 نوفمبر المقبل |
الدفاع النيابية: قواتنا المسلحة جاهزة لمواجهة أيِّ اعتداء على الأراضي العراقيَّة وسيادتها الحكومة العراقية ترفض بشدة تخوين الأشقاء في حماية الشعب الفلسطيني |
صقور الجو تقضي على وكر إرهابي يضم 6 عناصر في صلاح الدين مقتل ما يسمى بوالي داعش في صلاح الدين بضربة جوية عراقية |