الجمعة 2024/10/18 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 23.95 مئويـة
(تماهي الصورة الشعرية مع تقنيات السرد في شعرِ عدنان الصائغ) دراسة نقدية
(تماهي الصورة الشعرية مع تقنيات السرد في شعرِ عدنان الصائغ) دراسة نقدية
فنارات
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

بهاء محمود علوان

أستاذ الأدب الألماني الحديث في كلية اللغات – جامعة بغداد

أكاديمي وكاتب في الدراسات النقدية والمسرحية

 

                      

كانت العلاقة بين الشعر والسرد في الشعر العربي موضوعاً ذا أهمية كبيرة ونقاش بين الأدباء، والمفكرين، والنُقادِ، والشعراء. وقد أدى هذا التفاعل المعقد بين الصور والسرد في الشعر العربي إلى ظهور تقليد غني من التعبير الشعري الذي لا يزال يأسر القراء والمستمعين على حد سواء. وهنا لابدَ للباحث عن مديات تماهي الصورة الشعرية مع متطلباتِ سرديات النص من أجلِ فهم ذلك التداخل الكبير بين الصورةِ والنص في الشعر العربي. يمكن إرجاع هذا التناغم بين الصور الشعرية وعناصر السرد في الشعر العربي إلى الفترة الكلاسيكية للأدب العربي، وخاصة خلال العصر الذهبي الإسلامي. كان شعراء مثل أبو العلاء المعري وابن زيدون معروفين بمزجهم الماهر والبائن بين الصور الحية والسرد المقنع والواضح، والجلي في أبياتهم، منطلقين في حرفية السرد وتقنياتهِ التي لا تبتعدُ عن شكل الصورة الشعرية في قصائده، بل تكون تلك التقنيات السردية عنصراً مكملاً لجمالية الصورة الشعرية. وقد مهد هؤلاء الشعراء الطريق لتطوير أسلوب شعري فريد من نوعه لا يزال يؤثر على الشعر العربي المعاصر. كما يُعدُ الشاعر العباسي أبو نؤاس من أكثر الشخصيات تأثيراً في مناقشة الصور الشعرية والسرد في الشعر العربي. يتميز شعره بالصور الحية والاستعارات المعقدة والسرد العميق. وقد أكسبته قدرتهُ على نسج الأوصاف الحية مع السرد الجذاب مكانة بارزة في مجموعة الشعراء العرب.

ومن جميلُ ما قال أبو نؤاس من أبياتٍ تكون الصورة الشعرية ماثلةٌ ومتناغمةٌ من النص الشعري في هذهِ الأبيات: 

دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْــــــرَاءُ                ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الـــــــــــــــــــــــدّاءُ

صَفراءُ لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها                لَوْ مَسّـــــــــــها حَجَرٌ مَسّـــــــــتْهُ سَــــــــرّاءُ

قامْــــت بِإبْريقِها، والليلُ مُعْتَكِرٌ                فَلاحَ مِنْ وَجْهِها في البَيتِ لألاءُ

وهنا نلاحظُ في البيت الأخير وصفاً دقيقاً لصورة الوجه وكأنما يريد الشاعر هنا أن يمسك بريشةِ رسامِ ليرسم لنا صورة شعرية متكاملة الأركان، بل وتكون منسجمة مع متطلبات النص، من توظيفٍ للكلمة، وجعل المصطلح في مكتنٍ يكملُ تلك الصورة البهية. أنا الشاعرُ أبو العلاء المعري، الذي غالباً ما يستكشف شعره الفلسفي موضوعات وأفكاراً معقدة من خلال استخدام الصور الغنية وعناصر السرد. ويعكس شعر المعري فهماً عميقاً للتجربة الإنسانية والعالم من حولنا، مما يجعل عمله مثيراً للتفكير ومؤثراً عاطفياً في وجدان المتلقي.

وحين نقرأُ قصائد الشاعر عدنان الصائغ في ديوانهِ الأخير (ومضاتكِ)، نجدنا بلا وعيٍ نعيشُ ذلك التماهي الكبير بين الصورةِ والنص، ذلك النص الذي أُخُتُزِلَ إلى مدياتهِ الصغرى كي لا يشغلنا عن بهاء الصورةِ التي أراد الصائغُ عدنان صياغتها لنا. تلك الومضات الشعرية المتفردة على شكلِ دفقاتٍ من سيل عارم مت تلاطم الصور، وتكاتفُ المعنى مع تلك الصور، دفقاتٍ يكملُ بعضها بعضاً لتسج لنا في مخيلتنا ما أراد الشاعرُ إبلاغهُ. وهنا أستشهدُ بهذهِ الومضة من ديوانهِ الأخير (ومضاتكِ):

يا لي ...... بين زرقتين لا متناهيتين

البحرُ والسماء

تجمعهما عيناكِ

وفي هذهِ الومضة أراد الشاعرُ أن يختزلَ العالم بأسرهِ ليتمثلُ عيناها، كما أختزل في أبياتهِ الكلمات، فأنتجَ لنا صورةً بهية نتخيلها ونحنُ سارحون في مدياتها للولوجِ إلى ما أراده الشاعر. لبحرُ مثلَّ لنا الزرقة كما مثلّتها لنا السماء، وكلاهما يمثلان المدى اللا منتهي والعمقُ السحيق، ويمثلان المجهول. وهنا حقَّ له بأن يصور عين حبيبته بتلك الأوصاف التي تجمع الجمالُ، بالمتاهاتِ باللون الجاذبِ وبالخوفِ من المجهول.

لقد سمح هذا المزج بين السرد البصري والتعبير الشعري عند عدنان الصائغ بإنشاء أعمال ممتعة جمالياً ومحفزة فكرياً. إن استخدام الصور الحية وعناصر السرد في الشعر عند عدنان الصائغ مكّنه من صياغة أبيات تتردد صداها لدى القراء على مستوى عاطفي عميق.

ولو نظرنا إلى ومضة أخرى من ديوانهِ ومضات سنجدُها غنيةٌ بتلك الصور المشعة عاطفةً، ولو أخذنا ومضةً أخرى:

غرفتُكِ

ما حاجتُها لهذهِ الزهورِ والموسيقى

أَوَلَا يكفيها

أَنَّكِ فيها

كان مزج الصورة الشعرية في هذهِ الأبيات يعزز الرنين العاطفي للشعر، مما يسمح للقراء بالتواصل بشكل أعمق مع الموضوعات والأفكار المقدمة. وهنا سيجد القارئ نفسه وسط صورة قد اقتحمت مخيلتهُ ليعشها مُغمضُ العينين ويتأمل تلك الدميات التي أراد عدان الصائغ الوصولُ إليها، وكذلك ليختزلُ كل عناصر الجمال المتمثلة بالورود، وكلَّ التعدد اللوني في الورد وكذلك ليمثل الحياةُ التي تشعها الوردة، ليجمعها ويصفها معاً ويستبدلها بحبيبته التي تُعوضُ كلَّ تلم الحواضر.  وقدْ يرى بعضُ النقادْ، بأن التركيز المفرط على الصور والسرد يمكن أن ينتقص من الجودة الفنية الشاملة للشعر، مما يؤدي إلى أبيات سطحية وتعليمية بشكل مفرط، وهذا ما لمْ يتحقق في تجربة الشاعر عدنان الصائغ. ومع استمرار الشعر العربي في التطور والتكيف مع الأوقات المتغيرة، من المرجح أن يظل التناغم بين الصور الشعرية والعناصر السردية موضواً مركزياً في عمل الشعراء المعاصرين. وقدْ تتاح الفرص كي يتمتع الشعراء بفرص أكبر لتجربة أشكال وأساليب جديدة، ودمج عناصر الوسائط المتعددة في عملهم لتعزيز التجربة الجمالية الشاملة للقراء والمستمعين. وهنا يمكننا القول بإن العلاقة بين الصور الشعرية والسرد في الشعر العربي هي ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه شكلت التقاليد الفنية للعالم العربي لقرون. وستبقى أيضاً عنصراً فاعلاً وقوياً ينسجُ لنا ذبكَ الغني والمتنوع للشعر العربي وإرثه الدائم في عالم الأدب.

 

 

المشـاهدات 68   تاريخ الإضافـة 06/10/2024   رقم المحتوى 54462
أضف تقييـم