العراقيون والمغالاة! |
كتاب الدستور |
أضيف بواسـطة addustor |
الكاتب أ.م.د. صدام العبيدي |
النـص : المغالاة من الغلو، والغلو هو مجاوزة الحد في كل شيء، والعراقيون معروفون بالغلو في كثير من الأمور، فالغلو في الحب والكراهية، الغلو في المدح والذم، الغلو في الفرح والحزن، الغلو في تعظيم الأمور الثانوية وتحقير الأمور المصيرية، الغلو في الشجاعة إلى حد التهور، الغلو في الكرم إلى حد التبذير هو ما يتميز به العراقيون. وهو ما يعبر عنه الدكتور علي الوردي (رحمه الله) بالتطرف السلوكي، فالعراقي متطرف بمواقفه والكثير من سلوكه، فحينما يفرح يفرح لحد الجنون، وحينما يحزن يحزن بشكل مفجع، وحينما يمدح شخص يغدق عليها كل صفات المدح، وحينما يكره شخص يضع فيه جميع صفات الذم والنقص وهكذا. والغلو بلا شك صفة مذمومة حتى في أمور التدين والعبادة، قال عليه الصلاة والسلام: "هلك المتنطعون". والمتنطعون: هم المتكلفون والمتعمقون في الشيء والمجاوزون للحد فيه، فالاعتدال هو المطلوب من الإنسان في كل الأمور، وأدلة هذه المغالاة عند العراقيين في الأمور كثيرة لا تخفى على أحد، فمن صنع الطغاة والمتجبرين في العراق غير الهتافات والأغاني والأهازيج للحكام والقادة والزعماء التي كادت أن تجعل منهم آلهة؟! والعرب بصورة عامة عرفوا بتعظيم الحكام والملوك والقادة على مر العصور حتى أسبغوا عليها صفات الله ومن ذلك ما ورد في الشعر الذي غالى به ابن هانئ الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بقوله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار
فالعرب والعراقيون هم من نظموا القصائد وغنوها للملوك والرؤساء والحكام وبالغوا في ذلك إيما مبالغة. وكما يبالغ العراقيون في المدح يبالغون في الذم أيضاً، فإذا كرهوا شخصاً اطلقوا العنان لعبارات السب والقذف والشتم لتنال منه ولم يقصروا السب والقذف والشتم على شخص المذموم وإنما قد ينالوا من أمه أو أبيه أو عشيرته، العراقيون يبالغون في حب بعض الأشخاص إلى حد التعظيم المذموم كما نرى ذلك من خلال تعظيمهم لبعض لاعبي كرة القدم المحليين أو العالميين حتى أوصلوا البعض منهم لمرحلة الغرور والتكبر. وقد طالعنا خلال الأيام الماضية أخبار حضور اللاعب كريستيانو رونالدو ضمن وفد فريق النصر السعودي الذي يلاقي فريق الشرطة العراقي وكيف تهافتت حشود الناس وخصوصاً الشباب لقطع تذاكر دخول الملعب لمشاهدة رونالدو!!! فرأينا من خلال وسائل التواصل الاجتماعي شباب يقفون في الطابور وينتظرون لساعات طويلة ليحصلوا على تذكرة حضور المباراة فخرج من هؤلاء شاب يتذمر ويقول أنه واقف منذ السادسة صباحاً وحتى المساء لقطع التذكرة ولم يحصل عليها وأنه وراء الكثير من هؤلاء الشباب عمل ينتظره قد تعطل! فأتساءل ما الذي أجبر هؤلاء والبعض منهم محدود الدخل ولا يكاد يكفيه دخله ليدفع حق تذكرة حضور مباراة لمشاهدة رونالدو! والبعض منهم عاطل عن العمل فبدل أن يسعى لعمل يعيل به نفسه وأهله يقف في طابور ليقطع تذكرة لمشاهدة رونالدو الذي أعلن ناديه عن عدم حضوره لأنه يمر بوعكة صحية!!! المبالغة والغلو عندنا أن نجعل من لعبة كرة قدم كأنها الحياة برمتها وأن الفوز فيها مسألة مصيرية كأنها مسألة حياة أو موت، فالتعصب والغضب والسب والشتم والقذف في حالة خسارة الفريق أو المنتخب ديدن الكثير من العراقيين لا بل يصل الأمر عند البعض إلى حد التلفظ بعبارات الكفر وسب الله! فهل فوز منتخب أي دولة من دول العالم الثالث ومنها العراق في أي بطولة حتى لو كانت كأس العالم أو التأهل فيه يحل مشاكله المتراكمة من فقر يأن تحته شعبه؟ ففي العراق مثلاً عشرة ملايين عراقي يعيشون تحت خط الفقر! أم أن الفوز يقضى على البطالة التي تنتشر بين صفوف الشباب وخصوصاً خريجي الجامعات الذين لا يجدون لهم فرص عمل؟! أم بالفوز ستتوفر خدمات الماء والكهرباء والبنى التحتية، وبه تحل مشاكل التعليم وسوء الخدمات الصحية؟! أم تحل بهذا الفوز مشاكل العنف الأسري، وانتشار المخدرات التي تفشى تعاطيها بين الشباب فظهرت تبعاً لذلك جرائم الاغتصاب والعنف وزنا المحارم؟! أم بالفوز يتم القضاء على الفساد الذي ينخر الدولة ويوشك أن يقضي على مستقبل الجيل الحالي والأجيال واللاحقة؟! أجزم أنه لا يخالف منصف أن الدين والمنطق والعقل يقول أن كرة قدم هي لعبة للترفيه واللهو لا يجوز المبالغة والمغالاة فيها، في حين أن عمارة الأرض بالعلم والعمل بكل أنواعه وصنوفه هو ما تتقدم به الأمم والشعوب فلابد من الانصراف إلى العلم والعمل واشغال الأوقات به. العراقيون معرفون بالشجاعة ولكن هذه الشجاعة تقودهم إلى التهور في كثير من الأحيان. العراقيون معرفون بالكرم، وهذا الكرم قد يصل بهم إلى حد التبذير والإسراف والهدر حتى صار العراق من أكثر البلدان هدراً للطعام، حيث شغل العراق المركز الأول عربياً والسادس عالمياً بأكثر الدول هدراً للغذاء حسب دراسة أجرتها مجلةceoworld الأمريكية في عام 2023. فالمبالغة والتطرف والمغالاة في جميع الأمور فيه مخالفة للدين والعقل والمنطق السليم، والوسطية والاعتدال في الأمور كلها هو المطلوب ديناً وعقلاً ومنطقاً.
|
المشـاهدات 200 تاريخ الإضافـة 13/10/2024 رقم المحتوى 54625 |