الخميس 2024/11/21 توقيـت بغداد
+9647731124141    info@addustor.com
سماء صافية
بغداد 19.95 مئويـة
عزالدين المدني وحافظ خليفة ثنائي يصنع مسرحا تاريخيا برؤى معاصرة أم البلدان.. تغنٍّ مسرحي استعراضي بتونس بين الماضي والحاضر
عزالدين المدني وحافظ خليفة ثنائي يصنع مسرحا تاريخيا برؤى معاصرة أم البلدان.. تغنٍّ مسرحي استعراضي بتونس بين الماضي والحاضر
مسرح
أضيف بواسـطة addustor
الكاتب
النـص :

 

أن تشاهد مسرحا تاريخيا فيثير فيك تساؤلات ويروي لك حكايات دون أن تشعر بالملل، فذلك أحد أهم الأهداف التي يسعى إليها مخرجو هذا النوع المسرحي، ومن هؤلاء المخرج التونسي حافظ خليفة الذي يتخذ التاريخ عنوانا مهما يستأثر بجانب كبير من تجربته الفنية. وهو في "أم البلدان" يستعيد صورة تونس بين الماضي والحاضر متغنيا بأمجاد الدولة الحفصية.يكتب المسرحي التونسي الكبير عزالدين المدني التاريخ ورموزه وسيرة أكبر المؤثرين فيه بالكثير من الاعتراف والتقدير والنقد. يصوغ نصوصا بلغة عربية ومسحة تونسية تضفي عليها الكثير من الهزل والكوميديا، فيقتنصها المخرج المسرحي حافظ خليفة ليصنع منها أعمالا مسرحية متكاملة يوظف فيها أكثر من عنصر فرجوي تجعل المشاهد لها في رحلة عبر الزمن، رحلة تثير العقول الناقدة.هذه المرة، تأتي مسرحية “أم البلدان” المقتبسة من نص “تونس يا أم البلدان” أحدث إبداعات المدني، تتويجا لتعاونه الثالث مع المخرج حافظ خليفة بعد مسرحيتي “رسائل الحرية” و”عزيزة عثمانة”.ويشارك في المسرحية مجموعة كبيرة من الممثلين المحترفين ونجوم المسرح والدراما في تونس وهم عزيزة بولبيار وجلال السعدي ومحمد توفيق الخلفاوي ونورالدين العياري وعبدالرحمن محمود وجميلة كامارا ونزهة حسني وشهاب شبيل وكمال زهيو وآدم الجبالي وعبدالقادر الدريدي وفاطمة الزهراء المرواني وعبداللطيف بوعلاق وعبير بن صميدة وأحمد روين وشيماء السماري ومجدي محجوبي ومحمد يوسف وبن عزيز وسيف الدين الوجيهي.أداء كوريغرافي من تصميم شيماء العوني وأدائها إلى جانب هيثم البوغالمي وياسين القاسمي ونورة الخماسي وسلمى بهلول وحليمة الدريدي، تصميم ملابس آمال الصغير، موسيقى تصويرية للدكتور رضا بن منصور أما الموسيقى الحية فهي من عزف إبراهيم بهلول، مساعدة مخرج نزهة حسني، تصميم وتنفيذ إنارة رمزي النبيلي، هندسة رقمية نور الجلولي.

 

قراءة للتاريخ

 

وفي حين تناولت “رسائل الحرية”، أول تعاون بين عزالدين المدني وحافظ خليفة، فترة تاريخية حرجة من تاريخ أفريقية (تونس) دارت خلالها رحى حرب دينية، أذكى جذوتها دعاة من الشيعة وتحديدا من الإسماعيليين، جيشوا قبائل بربرية مثل كتامة وقاموا بمحاربة الدولة الأغلبية التي همشت البربر كغيرها من الدول التي قامت باسم الإسلام في شمال أفريقيا، استرجعت مسرحية “عزيزة عثمانة” سيرة عزيزة عثمانة “أميرة الفقراء” التي يذكرها التاريخ بأنها نصيرة الطبقات الكادحة والفقيرة وأصبحت واحدة من رموز النضال النسائي التونسي بفضل أعمالها الخيرية.وها هي “أم البلدان” تستكمل مسيرة التعاون المهم، بأن تتحدث عن فترة خاصة من تاريخ تونس، تحديدا فترة حكم أبي زكرياء الحفصي، مؤسس الدولة الحفصية في القرن الثالث عشر ميلادي، الدولة التي شهدت ازدهارا اقتصاديا وسياسيا مهما إلى جانب انفتاحها الديني ونجدتها لنصرة المسلمين والمستضعفين. ولم تنس أهم المؤثرين في مسيرته، كزوجته الأميرة عطف، والدة المستنصر، التي كان لها أثر كبير في تاريخ تونس. وتدور المسرحية في فلك تساؤل مهم “هل لنا بأبي زكرياء آخر يعيد لحاضر تونس مجد الأجداد ويرفع راية العدل والإنصاف والازدهار عاليا؟”.بنص فنتازي تمت معالجته برؤية فنية متميزة، تراوح بين الماضي وإسقاطه على قضايا من الحاضر، حاضر تونس والمنطقة العربية والإسلامية، روى لنا حافظ خليفة وعزالدين المدني مرحلة مهمة من تاريخ البلاد، مشددين على أن تونس كانت “أم البلدان” ولا تزال قادرة على استعادة دورها الريادي إن أراد أبناءها ذلك.رسمت المسرحية بمفردات تتراوح بين الموروث العربي والإسلامي والتونسي، ملامح حكم الدولة الحفصية، التي كان نظام الحكم فيها وراثيًا، والأمير رئيسًا للدولة. وهو الحاكم المطلق، يجمع بين السلطتين الزمنية والروحية. ويعتمد على مجلس استشاري يلقب رئيسه بـ«الشيخ الأعظم» ويتكون من عشرة مشايخ يعينهم الأمير، ويعتمدون بدورهم على مشورة مجلس آخر يضم خمسين شيخا معينين من طرف الأمير أيضًا.ركزت المسرحية على تونس رمزا للأصالة والابتكار، حيث تعلن صراحة رفض فكرة محو آثار السابقين، وتؤكد على ضرورة الابتكار لتأسيس دولة العدل والإنصاف، المشروطة بقيم العمل والحريّة والقوانين واحترام الإنسان للإنسان.تصورت أيضا تحرك تونس لنصرة المستنجدين بها، بين الأندلسيين في الماضي والفلسطينيين في الحاضر، باستعادة ذكرى ابن الأبار البلنسي، أحد أهم الشعراء الأندلسيين وقصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها “أَدْرِكْ بِخَيْلِكَ خَيْلِ اللَّهِ أندلُسَاً/ إنَّ السَّبِيلَ إلَى مَنْجاتِها دَرَسَا/ وَهَبْ لهَا مِنْ عَزيزِ النَّصْرِ مَا الْتَمَسَتْ/ فَلَمْ يَزَلْ مِنْكَ عزُّ النَّصْر مُلْتَمَسا”، أبيات ما إن سمعها الحفصي حتى هب لنجدة بلنسية وأهلها لكنه فشل في تحقيق مبتغاه، فاختار نجدة الأندلسيين المهجرين بأن احتضنتهم تونس على أرضها.كما سلطت المسرحية الضوء على التهديدات الداخلية والخارجية لاستقرار تونس، مستعيدة سيرة الإرهاب الذي لا يعرف زمانا ولا مكانا، وخاصة الإرهاب الديني الذي يترصد بكل الدول الراغبة في الإسلام الوسطي والانفتاح الفكري، وهو إرهاب ممتد عبر الزمن، كالداء ينتشر بين الأمم فيخربها.كما تطرقت إلى معضلة كبيرة أضرت بتاريخ الكثير من الحكام المميزين في التاريخ العربي، ومنهم أبوزكرياء الحفصي الذي ما أن خلفه ابنه المستنصر بالله حتى تدهور حال البلاد، وانفض من حوله شيوخ القبائل وسارت تونس نحو الانهيار.نص مسرحي ثري، يدور حول مفاهيم “السلطة” و”الدولة” و”الدين”، تحاور فيه الشخصيات بعضها البعض بكلمات مفتاحية، تارة تستعيد شخوصا وحكايات تاريخية بأسلوب فنتازي وتارة أخرى تنطق بالمنطوق الراهن “الآن وهنا” فتتكلم بلسان التونسي اليوم وفهمه الخاص للدولة والدين والسلطة وحتى الفن والمرأة.إنه نص يؤكد انحياز المخرج الدائم نحو اللغة العربية، وهو رغم بعض المعارضين، يدرك أنها سلاحا يسهل نقل العمل التونسي للجمهور العربي، فيذكر بتاريخ هذه البلاد، التاريخ البعيد والقريب وموهبة أبنائها. نص تشدد مفرداته على أن “تونس ليست بالشيء القليل ولا بدولة صغيرة جغرافية”، هكذا يؤكد المدني، وهي بالفعل كذلك.

 

جمالية فنية

 

رغم أن النص يمتلك ثراء لغويا ومزجا واضحا بين الجد والهزل، اختار حافظ خليفة أن يجمع على خشبة العرض مجموعة من الممثلين من ثلاثة أجيال مختلفة، في حوار تاريخي ومسرحي وواقعي بين الأجيال، ممثلون لعبوا أدوارا متنوعة اتسم أغلبهم بالموهبة المقنعة وبالأداء الجريء وبالحركات الجسدية المدروسة، وكان أداؤهم متناغما يسير وفق ميزان زمني معلوم، وزاد من تناغمهم وتنوعهم الأزياء التي صممتها آمال الصغير.جاءت أزياء الممثلين متنوعة بين الأسود والأبيض والألوان، أما الأسود فكان لون الشر، لون الإرهاب، لون تقييد الحقوق والحريات، لون الفهم الخاطئ للنص القرآني، لون سبي النساء وأسرهن، فيما كان الأبيض رمزا للسلام والحاكم العادل والدولة المزدهرة، رمزا لشيوخ القبائل المتضامنين من أجل الوطن، في حين حضرت الألوان لتضفي مرحا بحكايات ثانوية وجدت داخل العمل لتكسر حدة الجدية في الرواية التاريخية، ولتعيدنا للجذور البربرية للتونسيين التي تعتمد الألوان في اللباس كدلالة على الهوية.هذه الهوية لم يغادرها حافظ خليفة بتاتا حيث تعمد جعلها العتبة الأولى للمسرحية، حيث تبدأ أول مشاهدها بموسيقى من الجنوب التونسي، كما تتخلل الفواصل الموسيقية العرض بأكمله تصاحبها كوريغرافيا شديدة التعبير عن موضوع العمل المسرحي، إذ وجهت شيماء العوني الراقصين نحو التعبير عن تونسيتهم برقص فلكلوري لكنهم أظهروا أيضا أداء لحركات ترمز للبناء والتشييد والهدم، وهي لغة جسدية تختصر محور العمل. كذلك جاء أداء السطمبالي ليرقص على أوجاع الوطن مذكرا بهويته الثقافية.إلى جانب كل ما سبق، استعان المخرج بعناصر سينوغرافية، أولها الإضاءة وتصميم المشاهد الرقمية التي أضفت عمقا فنيا على العرض، وأظهرت قدرة على معالجة التاريخ برؤى تقنية معاصرة، كل ذلك عززته الموسيقى التي تراوحت بين جزء مسجل وضعه الدكتور رضا بن منصور وموسيقى حية يلعبها إبراهيم بهلول في الركن الأيسر من الخشبة أو فوقها.كل هذه العناصر المكونة للعمل لم تغادر رسالته الأساسية والتزمت بالعمق الفني والفلسفي والتاريخي، وكانت بمثابة دعوة للتفكير في الابتكار والتجديد لتحقيق مستقبل أفضل لتونس يستفيد من نجاحات الماضي، دعوة تستفيد من التميز الأدبي لعزالدين المدني وتجربة المخرج حافظ خليفة.

 

 

حنان مبروك

المشـاهدات 36   تاريخ الإضافـة 19/11/2024   رقم المحتوى 55946
أضف تقييـم